الخميس، 21 ديسمبر 2017

ممدوح رزق: لا أعيش الدنيا بل الكتابة

حاورته- سماح عادل
“ممدوح رزق” كاتب وناقد مصري، صدرت له العديد من المجموعات القصصية والشعرية والروايات والمسرحيات والكتب النقدية، كما كتب سيناريوهات لعدة أفلام قصيرة، حصل على جوائز عديدة في القصة القصيرة والشعر والنقد الأدبي، ترجمت نصوصه إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية.
إلى الحوار:
“كتابات” كيف بدأ لديك شغف الكتابة وكيف تطور؟
* بدأ بالتأكيد قبل فعل الكتابة نفسه؛ فأنا لم أكتب قصتي الأولى كمحاولة غير متوقعة لاختبار أمر لا علاقة له بطبيعة ذاتية أستطيع إدراكها مثلما يمكن أن يحدث مع أي تجربة أخرى، بل ربما بدأ بالفعل قبل تعلّم الإمساك بالقلم ورسم الحروف فوق الورق. أعتقد أن هذا الشغف قد بدأ عبر كافة السمات الطفولية التي كان ينبغي أن تكون الكتابة نتيجة منطقية لها: الانطواء.. المراقبة.. التخيل.. التقليد.. التصورات المضادة للواقع.. الانفصال عن الحياة داخل الصور ثم الاختباء في الحكايات والقصص، أو بشكل أدق تمرير عناصر الوجود الضئيل المنكمش نحو العوالم الأخرى.. الانشغال باللغة، وكيفية بناء أحلام سرية داخل هيمنتها.
تطور شغف الكتابة اتخذ نسقًا بديهيًا بالنسبة لي بناءً على حقيقته كغريزة، أي كشيء غير مؤقت أو هامشي أو مرهون بدافع معين بل كروح أصلية تجعل في المقابل كل ما يخص الحياة والموت ليس أكثر من ادعاءات متغيرة. حتى لو كان في هذه الكلمات غرابة صعبة التصديق، لكنني أشعر أنه منذ اللحظات المبكرة في العمر أي بداية اكتشاف العالم بكل ما يمكن أن يتضمنه ذلك ويترتب عليه من أثر، مرورًا بالقراءات والتأملات وتحولات الوعي، وحتى أثناء كتابة أول قصة قصيرة كنت أعرف بطريقة ما أنني أخطو نحو ما أنتمي إليه. أنني أنسحب تدريجيًا باتجاه هذه العزلة التي أعيشها الآن، وعلى نحو لا يمكن تعريفه وفقًا لمكان أو زمن.
“كتابات” كتبت القصة والمسرحية والرواية والمقال النقدي.. علام يدل هذا التنوع؟
* يمكن أن يدل على أشياء كثيرة: أنني أريد تصفية حساباتي مع الحياة بكل الطرق الممكنة.. أنني أحاول اقتحام الموت بأي شكل، أو تضليله بمختلف السُبل.. أنني أريد للشياطين التي تسكنني أن تأخذ حريتها في اللعب الانتقامي مع الغيب كيفما تشاء.. أنني أريد أن أعوّض عدم استطاعتي أن أكون أخطبوطًا كونيًا يمتلك جميع الحيوات ويقبض على كافة الميتات.. أنني أريد أن أجرّب كل الحيل التي ربما تعطيني أسرار القدر، وتكشف لي مصائر ما بعد الفناء.. أنني أريد استرضاء الصمت المعتم وراء الوجود بالصور التي تروق لي.. أنني لا أعيش الدنيا بل الكتابة، وهذا يعني أن ما يعتبره الآخرون شروطًا للواقع هي بالنسبة لي خامات يُحتمل توظيفها لصالح العزلة التي ينشأ عنها بالضرورة تجسيدات مختلفة للاستمتاع بما تغتنمه من التواريخ الوحشية التي تحاصرها.
“كتابات” في رواية “إثر حادث أليم” تناقش مراوغات الذاكرة.. وفكرة أن استعادة الذكريات هي محاولة لمحوها حدثنا عن تلك الفكرة؟
* من ضمن ما تشتبك معه الرواية هو التكوّن المغاير للذكريات عند استرجاعنا لها، التعديلات المحتملة التي تطرأ عليها نتيجة تدخّل الوعي والمقاصد التي يضمرها التركيز اللحظي على ما يتم استعادته. تربط الرواية هذا الهاجس بالأفكار التي تُفقد أثناء الكتابة، التي نكتب عوضًا عن ضياعها بتعبير “باسكال”. هذه العلاقة يمكن أن تشير إلى تبدد الماضي عند تدوينه، وإلى تحوّل الكتابة من توثيق إلى محاولة غير مؤكدة لتعويض هذا الفقدان ـ هذا ما جعل فصول الرواية تعنوَن بالمسودات ـ تصبح كتابة الماضي ـ كما جاء في “إثر حادث أليم” ـ اكتشافًا للعالم المخبوء داخل الاستدعاءات القاصرة لذكريات غير مضمونة. في ضوء هذا الأرق تنظر الرواية إلى الماضي كحياة غامضة يطمسها الاسترجاع. الذكريات ـ كما حدثت بالضبط وليست كما تُستعاد ـ أشبه بوجود مجهول تمامًا، مغلق على ظلامه الخاص، تساهم كل محاولة لاسترداده بواسطة الكتابة في تغييبه، وأن هذا ما يُبقي الذكريات غير مروّضة، أي غير خاضعة لسلطة الوعي. الكتابة إذن ضد التذكر المثالي، ضد التوحد بالطبيعة النقية للماضي، أما (الذكريات) المكتوبة فهي المراوغات العاجزة التي تدعم المسافة السوداء الفاصلة بين الذات وبين بداياتها.
“كتابات” في رواية “إثر حادث أليم” تحضر فترة الثمانينات بحميميتها وزخمها من وجهة نظر طفل.. هل فترة الثمانينات تمثل حنين بالنسبة لك؟
* بالتأكيد ولكن هذا الحنين هو الغلاف المنطقي لاستفهامات الزمن التي جعلت الرواية فترة الثمانينيات مسرحًا لها.. الحنين هو بوابة اشتباك الحسرة مع الأسباب غير المدركة للمشيئة التي تقف وراء الطبيعة التعذيبية للزمن. الدوافع الغامضة التي تحتّم علينا الخضوع لهذا المزاج القاتل، غير المفهوم، الذي لا يمكن تصديقه ولا التفاوض معه لحركة الوقت. لماذا تمر أرواحنا وأجسادنا بهذا التعاقب التدميري، غير المبرر، الذي تحكمه الغفلة والوعود الخبيثة والخسارات المتراكمة. ما الذي يعيش على هذا الطغيان الأزلي من الآلام والهزائم الفادحة، التي يضمنها التتابع الذي لا يختل للحظات قصيرة نهايتها الموت. ما هو الثمن. الطفل في رواية “إثر حادث أليم” أو “المسرود عنه” بواسطة الرجل الذي صار إليه يُشهر مذكراته في وجه هذه التساؤلات التي كرّست لجحيمه الشخصي: ما الذي حدث؟، ما الذي لم يحدث؟، لماذا جرت الأمور هكذا؟، هل هناك نهاية أخرى؟، هل ستحدث معجزة ما قبل أن يأتي دوره في الفناء؟.
“كتابات” ما هي الصعوبات التي واجهتك ككاتب؟
* القراءة والكتابة والسعي لإثبات الذات ككاتب داخل بيت لا يعترف سوى بالنجاح الدراسي.. شيوخ الأدب الذين يؤلم أعصابهم الهشة الإيقاع المتمرد لوجودك.. الكتّاب في محيطك الضيق الذين يعجزون عن الاقتراب منك.. النقاد الذين يريدون شفي الغليل من نجاحك النقدي عبر أعمالك الأدبية.. الإقامة خارج القاهرة حيث يُمنع عنك ما أنت جدير به كابن عاق، يحتقر المافياوات الثقافية ويسخر منها، ولهذا لا ينبغي أن يحصل من المركز على ما يعطيه لأبنائه الأبرار حتى لو كنت تستحقه أكثر منهم.. أبناء المركز الذين لا يطيقون أن تحصل وأنت في مكانك، بعيدًا عن القاهرة ورغمًا عنها على مثل ما لديهم وأكثر، حيث يبدو ما تفعله أقرب للمعجزات مقارنة بالمكاسب المتحيزة متناهية السهولة التي تنهمر على رؤوسهم دون تمييز.. معلمو اللغة العربية، ورجال الدين، وعناصر شرطة القواعد والمبادئ في هيئة كتّاب ونقاد، الذين يريدون دائمًا الثأر لخصائهم من جنونك.. هذه مجرد عناوين مختصرة، يمكنني أن أكتب تحت كل منها تفاصيل لانهائية، ومع ذلك لا أظن أنه من الملائم في سن الأربعين أن أطلق على ما سبق وصف (الصعوبات) بقدر ما يمكنني اعتبارها ظواهر تقليدية لحرب قديمة، تعوّدت منذ البداية على تحويلها إلى انتصارات مرحة، لكن ما أعتقد أنه من اللائق وصفه حقًا بالصعوبة بالنسبة لي الآن ككاتب هو ضيق الوقت، رغم أن كلمة (الصعوبة) تبدو هنا تحديدًا مفرطة التبسيط.
“كتابات” ما رأيك في حال النقد العربي وهل يواكب حركة الإنتاج الأدبي؟
* النقد العربي في أغلبه بائس، رجعي، نمطي وراكد، يطغى عليه التواطؤ والحسابات النفعية، فكثير جدًا من النقاد يختارون الأشخاص الذين سيكتبون عن أعمالهم، لأن الكتابة ليست هي المعيار. وكثير منهم مهووسين بفرض الوصاية، وتعويض خوائهم وسطحيتهم بإرهاب المبدعين صغار السن، وزرع السذاجة في عقولهم مما يحوّل هؤلاء الكتّاب منذ البداية إلى روبوتات متزمتة تقاتل بعضها داخل الواقع الافتراضي. النقد العربي بعيد عن التمرد والجموح، محكوم بالجهد الأقل، والاستسهال، والعجز عن الابتكار، والخروج عن ما هو مضمون وشائع ومسالم الذي لا يتطلب من التفكير والاطلاع والتحرر ما لا تقدر عليه العقول المتحجرة. بالطبع هناك استثناءات كما أنني أعرف نقادًا يحاولون التحرك خارج كل هذا العقم، وأعتقد أنهم يعانون بسبب هذا.
“كتابات” هل حال الثقافة مزدهر في مصر رغم انسحاب الدولة.. وهل تدعمها المبادرات والجهود الفردية للمبدعين؟
* بالتأكيد لا.. أقدر حقا المبادرات والجهود الفردية، لكن لا أستطيع بالطبع أن أسمي نتائج المقاومة التي تمارسها (ازدهارًا)، بل ربما هي أقرب للجدل مع سلطة الواقع بكافة مستوياتها وتنويعاتها، وبكل ما تمارسه من أشكال متعددة للقهر، وحتى مع كون هذه المبادرات في أحيان كثيرة جزءًا من المرجعيات المتخلفة لهذه السلطة.
“كتابات” هل مازالت مصر عاصمة الثقافة بالنسبة للبلدان العربية .. ولما؟
* في الحقيقة لا يعنيني إذا كانت مصر عاصمة الثقافة أم لا، وبشكل عام أعتقد أنه يجب علينا التعامل بحذر شديد ـ وهو ألطف ما يمكنني قوله ـ مع ما يمكن أن تعنيه كلمة (الثقافة) حينما تأتي مع مصر في عبارة واحدة.
“كتابات” حدثنا عن الجوائز التي حصلت عليها.. وهل مثلت دعما بالنسبة لك؟
* الأمر يتم على النحو التالي: أحصل على جائزة ما.. أشعر بسعادة بديهية ثم أنسى أنني حصلت على جائزة.. أتذكرها أحيانًا ثم أنساها مجددًا.. هي نوع من التقدير ربما يتساوى مع أي تقدير آخر لو استثنينا الامتياز المادي، وبالنظر إلى الطبيعة الانتقائية لأعضاء لجان تحكيم الجوائز الشهيرة، واختياراتها للأعمال الفائزة، وبيانات نتائجها فإن هذا يمكن أن يضيف نوعًا من الاعتزاز إلى السعادة المؤقتة التي أشعر بها مع كل جائزة أحصل عليها، وبافتراض النزاهة الكاملة فليس هناك فرق بين جائزة وأخرى، فأي محاولة لإكساب أعضاء لجنة تحكيم معينة قيمة تفوق ما تحظى به لجنة أخرى سيكون إقدامًا على خطوة لن يكون هناك أدنى صعوبة في إثبات فشلها. في نفس الوقت لا يستطيع أحد أن يزعم لنفسه مكانة أرقى وفقا لما ناله من جوائز، أو بناءً على وصوله إلى قوائم طويلة أو قصيرة؛ إذ ليس هناك أسهل من تحطيم هذه الفقاعات.
“كتابات” هل تجربة كتابة السيناريو تختلف بالنسبة لك عن كتابة الرواية وهل أفادتك؟
* بالتأكيد تختلف، ولكنه ليس الاختلاف الذي يحطم التشابهات العديدة بينهما، وبشكل أدق بين تجربة كتابة السيناريو والرواية عندي تحديدًا. كتابة السيناريو بالنسبة لي استفادت على نحو عفوي من الخبرة القصصية في تكوين الشخصيات والأحداث والمشاهد، ونسج العلاقات بين التفاصيل البصرية، وتوزيع الفراغات والأصوات، والتحكم في الإيقاع السردي، واللعب بالصمت والمونولوج الداخلي، وربط الأداءات الجسدية بعناصر الصورة والحوار لخلق الاحتمالات خارج الفضاءات الحسية. كنت محظوظًا بالتعاون مع مخرجين متميزين مثل “منال بن عمرو”، و”محمد صبري”، وحاليًا يتم التحضير لفيلميين قصيرين من إخراج “هاني مصطفى”، و”نواف الجناحي” عن قصتين قصيرتين لي.
“كتابات” ما تقييمك للصحافة الثقافية في مصر؟
* لا تختلف عن تعاسة الحياة النقدية باستثناء بعض التجارب المميزة والمعروفة للعديد من الجرائد والمجلات والصفحات الثقافية وبعض المواقع على الإنترنت، كما هناك أيضًا من الصحفيين والمحررين من يعمل خارج الشللية المركزيةـ أي خارج القوائم القاهرية المحنطةـ ويسعى لتجاوز حدود النمطية، والتخلص من الثوابت القديمة، ولكن اللحظات التي يُصادف خلالها ما يمكن اعتباره أفكارًا غير تقليدية ليست كثيرة بالتأكيد.
“كتابات” ما هو مشروعك النقدي الجديد؟
* مشروعي النقدي الجديد ليس مجرد كتاب في النقد بل اكتشاف تاريخي وسبق أدبي جمعت الأدلة والوثائق التي تثبته على مدار العامين الماضيين، وكل ما بوسعي أن أقوله الآن أن الأمر يتعلق برواية شهيرة جدا من القرن التاسع عشر.
موقع (كتابات) ـ 20 ديسمبر 2017