أن تقوم رواية على ادعاء مكشوف .. أن تُبني على حدث يعلم كل قارئ منذ
البداية أنه كاذب .. يتحوّل التساؤل مبكرًا جدًا وبشكل مقصود من (هل مات الأب
حقا؟) إلى (لماذا يستعير الأب الذي هو بالتأكيد على قيد الحياة ابنًا وهميًا لينشر
مذكرات طفولته؟) .. يمتد هذا التساؤل طوال الأحداث حتى الفصل الأخير (لغز كاتب المسرح)
حيث تكمن الإجابة داخل لعبة عجائبية من المفاجآت التي يمتزج فيها الواقعي والخيالي
والسيريالي .. يُستعاد (الحادث الأليم) الغامض من خلال لحظة أعقبت نهاية الثمانينيات
بسنوات طويلة، لتكشف الاستفهامات الجوهرية لكل ما في الرواية عن نفسها: الابن،
والأب، والحادث، والمذكرات التي تؤرخ لحقبة الثمانينيات ولمدينة (المنصورة)
المصرية في تلك الفترة:
(كان قد ترك قبل هذا الحادث العديد من الأوراق التي دوّن خلالها ما
حدث له يوم الإثنين 2 يناير 1984 .. كان متواجدًا في المساء داخل المسرح القومي
بـ (المنصورة) حيث العرض الأول لمسرحيته (دفة المركب الصغيرة)، وهي ميلودراما من
فصل واحد تقوم على تحليل لوحة (إلحاح الذاكرة) من خلال علاقة (سلفادور دالي)
بوالديه، مدموجًا بتجسيد لصراع فصامي متخيل مع (هاملت)، وشخصية الكاتب نفسه ..
اعتمدت سينوغرافيا المسرحية بشكل أساسي على خلفية متحركة، مكوّنة من تداخل الشذرات
المماثل للعبة (بازل) بين زوايا وقطع مجتزأة من لوحة (دالي)، ومن صور لممثلين
عالميين على مسارح مختلفة أثناء تأديتهم لدور (هاملت)، وأيضًا من لقطات فوتوغرافية
لطفولة الكاتب، والتي تم أخذها داخل صالون بيته في أحد أعياد الميلاد، أو مع أسرته
في اليوم التالي .. كانت هذه الخلفية تتبدل أحيانًا ليحل مكانها جثث وأشلاء صور
كاملة للمصوّر (جويل بيتر ويتكن) بالأبيض والأسود، تحت تركيز راقص لمزيج ضوئي من الدوّامات
الذهبية، والحمراء، والزرقاء، تقترن بانبعاث الدخان في الفراغ السفلي للمسرح بما
يقارب التشكيل البصري لأغنية (Leila The Queen of Sheiba) لفريق (Dolly Dots) عام 1981 ولكن مع
السيمفونية السادسة لـ (تشايكوفسكي)، وقصائد (ديلان توماس(.
كتابة المذكرات في الرواية ــ وبحسب ما ورد في متنها ـ لم تكن بريئة
تمامًا من الرغبة في الانتقام من الذكريات كسبيل لمواجهة الطغيان المذل للتشويش
على مشاهد الماضي، أو الضوضاء التعذيبية الثقيلة، والمتراكمة التي حرمت كاتبها من
الحضور الحاسم لتفاصيل تلك المشاهد في ذهنه، أو التي مرت كومضات برق ضعيفة وخافتة،
تعمّدت بخبث أن تترك أثرًا شاحبًا سرعان ما تبدد كل مرة بتشفٍ سادي. كأن كاتب
المذكرات كان محكومًا بالثأر من الصور المختبئة في النسيان، أو التي رفضت المرور
إلى يقظته، وهو يعرف تمامًا أنها مستقرة داخل ظلام لا يستطيع اختراقه. الانتقام من
اللحظات المراوغة التي تهرب وتضيع، ومن الأحلام المشكوك في واقعيتها، وقبل كل شيء
من تلك الأضواء البيضاء الضعيفة التي تسطع تدريجيًا بداخله، كأنها تتهيّأ
للاستجابة لاستغاثاته، بينما يحاول كممسوس تفارقه الروح جذبها نحو الوضوح الكامل
فتتبخر فجأة:
(كتبت هذه المذكرات مقررًا المضي قدمًا دونما انشغال هل ستطاوعني
الذكريات أم لا .. هل ستساعدني على استردادها أم ستواصل قهري .. كأنه في حقيقة
الأمر ليس انتقامًا بل على العكس كان خضوعًا بديهيًا لسحرها، الذي يقودني بالضرورة
للرقص مع أشباحها بالخطوات اللائقة .. الرضوخ لحكمة الفردوس القديم، الذي يأبى
التنازل عن غموضه كي يبقى خارج العالم).