الجمعة، 6 يناير 2017

الكراهية المطلقة

الساعة الثالثة عصرًا .. الآن أصبحت وحدي كالعادة .. أغلق باب البيت بالمفتاح .. أذهب إلى حجرة النوم وأقفل بابها ورائي .. أتمدد فوق السرير بملابسي الثقيلة .. أختار اليوم أغنيةun peu d’esperance) ) من خزانة الهاتف .. ألتحف بالبطانيتين محكمًا تغطية رأسي بالكامل مع ترك شق مناسب لعينيّ وأنفي .. لا أفهم الكلمات الفرنسية التي تغنيها (Mireille Mathieu) ولكنني أريد صوتها .. أحتاج إلى تباين الانفعالات لنبراتها المنغمة .. أتأمل الزرقة البيضاء للنهار البارد المنبعثة من وراء ستارة الشباك الزجاجي، والمنسدلة على ضلفتيه المغلقتين .. لا أفكر فقط في الانعكاس الناعم للضوء فوق الدولاب والكومودينو والأباجورة الصغيرة .. أفكر أيضًا في أنني وحدي الآن، وراء باب مغلق، وأرتدي ملابس ثقيلة، وملتحف ببطانيتين، وأن صوت (Mireille Mathieu) ملائم لهذا .. أنني بعيد ومنعزل ليس مكانيًا فحسب وإنما على مستوى الزمن كذلك داخل اللحظات الأكثر جمالا في الشتاء .. الدقائق القليلة التي تدفعني ـ وعلى نحو أقوى من أي وقت آخر ـ للتمعن في أنني طوال أربعين عامًا لم أفعل شيئًا بشكل صحيح .. لم أتكلم بشكل صحيح .. لم أكتب بشكل صحيح .. أهدرت كل شيء .. لم أكسب أي شيء .. ماتت عائلتي .. انتُزعت مني كل القطط التي حاولت أن أُبقيها معي ..  قطعت علاقتي بجميع أصدقائي .. لم أعد أغادر البيت .. لدي زوجة وإبنة كنت أريدهما ألا تجيئا إلى الحياة .. أتمنى لو أمتلك القدرة على الهروب منهما، وأن أسافر بعيدًا لأقضي ما تبقى من عمري في بلد لا أعرف أحدًا فيها .. كنت مسخًا مضحكًا، وسأموت كأنني لم أمر في العالم.
أغمض عينيّ وأتذكر أن كل الأشياء التي كانت ستبدو صحيحة في زمن ما، ربما ستكون خاطئة في زمن آخر .. أتعهد لنفسي مجددًا بعدم نسيان هذا الهاجس كي أظل مطمئنًا إلى أنني أمضيت أربعين عامًا بشكل مثالي .. لكنني متأكد جدًا من أنني سأنسى وسأتغافل عن أن كراهيتي المطلقة مشيدة على أسس بديهية من غياب الصواب والخطأ .. سأحرم الندم من أن يكون ممتنًا .. سيظل ندمًا فقط .. كراهية مطلقة فحسب كانت جديرة بتحويلي إلى سفاح، ولكنها جعلتني منتحرًا مكرهًا على الحياة، لا يفطن أحد للطريقة التي يقتل بها نفسه.
أصعد مع زوجتي سلالم محطة قطار .. سلالم رخامية ذات لون طوبي لامع، يمكن الجلوس فوقها والبكاء طوال اليوم دون أدنى شعور بعدم الاستقرار .. مدينة غريبة، ولكن ليس على نحو عدائي .. الوقت ظهرًا، أو اقترب كثيرًا من العصر .. سلالم المحطة ليست عالية، وتطل على ميدان واسع ومزدحم ولكنه هادىء، كما أن هناك مساحة واسعة من الفراغ الصامت تمامًا تفصل بين الميدان والمحطة .. لكن بعد تجاوز عتبة المبنى تقابلنا مباشرة سلالم أخرى لأسفل، تقود إلى قصر ثقافة الطفل .. سلالم غير مرتفعة، وليست محفوفة بجدارين، وإنما تنزل في الفراغ نحو حديقة القصر .. لا ننظر أمامنا، حيث نعرف أن الواجهة الكبيرة للمسرح تحجب فناءً صغيرًا بلا سقف، يفصل هذا المسرح عن حجرة الفن التشكيلي المطلة على النيل والمجاورة لشجرة توت كثيفة، لم تتوقف أوراقها عن التساقط بغزارة فوق البلاط الأبيض للفناء .. نتوجه فورًا نحو اليمين لندخل من باب المكتبة الملاصقة لقاعة الفيديو .. نجد حجرة صغيرة خالية إلا من شباك التذاكر القائم على اليسار، وبالقرب من السقف نوافذ عالية ومفتوحة، يدخل ضوء الشمس من أطرها الواسعة .. أترك زوجتي لتقطع تذكرتين من الرجل الجالس وراء الشباك دون أن أكتشف ملامحه، ودون أن أعرف ما هي المدينة التي سنسافر إليها .. أنظر إلى النوافذ الكبيرة المرتفعة فيتملكني شعور بأننا الآن في بلد يقع على البحر، وأن أهلها يعيشون من أجل الذهاب إلى البحر، وأنني لو استطعت رؤية ما يحدث في الخارج عبر هذه النوافذ لأمكنني مشاهدة البشر الذين يمشون في تلك الظهيرة الصيفية نحو الشاطئ أو عائدين منه، بينما رائحة الأمواج المختلطة بذرات الرمال عالقة بكلماتهم وضحكاتهم ونظراتهم الملونة بزرقة السماء .. لكان بإمكاني أيضًا الإنصات إلى تلك الأغنيات السعيدة المتناثرة التي لا تنبعث إلا في مدينة تطل على البحر، ولا يستمع إليها في هذا الوقت إلا المقيمين فيها أو الذين يسكنونها بشكل مؤقت من أجل الذهاب والعودة من الشاطئ .. أنتبه إلى زوجتي وهي تتحدث بطريقة غير لائقة مع الرجل الجالس وراء شباك التذاكر، والذي لم أكتشف ملامحه .. أراها تضحك معه أيضًا على نحو يثير غيرة رجل مثلي، ترك زوجته تقطع تذكرتين، وقرر أن يقف على بُعد خطوات منها ليتأمل النوافذ العالية .. الغيرة التي أغرتني بكتمان الغضب للاستمتاع به أطول وقت ممكن .. رغم ذلك أسألها ونحن نغادر الحجرة عن السبب الذي جعلها تتصرف بهذه الطريقة .. تلتفت إليّ بملامح جامدة، وعينين متحديتين، وبنصف ابتسامة ثم تقول كلمات قليلة، مقتضبة ـ على غير عادتها ـ تؤكد عدم الاعتراف بالخطأ، وعدم اهتمامها لاعتباري ما حدث أنه خطأ فأشعر بلذتي المخبوءة تتضاعف .. خارج المكتبة نجد الظهيرة الصيفية قد تحولت إلى ليل شتائي صاخب .. حديقة قصر ثقافة الطفل أصبحت مساحة شاسعة ممتدة بلا نهاية أمامي تحت سماء سوداء .. طريق مهيب، يبدو كحقل هائل لم يُزرع منذ زمن طويل، تحجرت الثقوب والنتوءات والتعاريج الطينية الكبيرة في أرضه .. لا أنظر إلى الخلف لأنني بشكل ما أعرف أن هذا الطريق مقفل بالبيوت ورائي، وأنني أقف عند هذه البداية المغلقة، وعينيّ تتجهان إلى لانهائيته، أما وراء هذه البيوت فربما توجد حافة كونية تُطل على ظلام أبدي .. لا ألمح سيارة واحدة ضمن الحشد العظيم من الناس فأفسر هذا بعدم صلاحية الأرض لمرور السيارات .. جميع البيوت قديمة، متفاوتة الإرتفاع، وذات تصميمات مختلفة، وتعلو الدكاكين والأكشاك الكثيرة والمتلاحمة على الجانبين بينما تنتشر الإضاءة البيضاء والصفراء بكثافة من المصابيح النيون والتنجستين العتيقة الساطعة .. أفكر في أن هذا الطريق يبدو كخيال قادم من ذاكرة (فيلليني) .. شيء ما يجعلني مرتفعًا بصورة واضحة عن المشهد .. لم يكن الحيز الضئيل من الأرض التي أقف فوقها في بداية الطريق أعلى من المساحة الشاسعة الممتدة أمامي، كما لم يحصل جسدي على طول إضافي فجأة .. مع ذلك أنظر إلى الطريق كأنه أسفل بصري بطريقة ما، وبالكيفية التي تسمح لي برؤية الأفق البعيد للسماء السوداء المنبسطة ورائه، حتى أنه يتهيأ لي أنني ألمح خيالات ضبابية لأجساد هائلة تلعب خلف الغيوم الرمادية والنجوم الغزيرة بدرجات لمعانها المتفاوتة .. أنتبه إلى غياب زوجتي بعد أن تبددت من رأسي كل الأفكار التي تخص محطة القطار، والمدينة التي تطل على البحر، وقصر ثقافة الطفل .. أصبح وحدي أمام هذا الحشد غير المنتبه لوجودي ثم أدرك على نحو مباغت أن زوجتي قد ذهبت إلى حيث توجد ابنتنا في مكان ما لأنها لا يجب أن تتأخر عنها أكثر من ذلك .. أقرر أيضًا أن لدي موعد في مقهى يقع على الصف الأيمن من هذا الطريق، ويبعد عن نقطة وقوفي مسافة بسيطة، وأنني سأعود بعد انتهائه إلى زوجتي وابنتي اللتين تنتظراني في المكان الذي لابد أنني أعرفه .. أبدأ في المشي وسط الزحام ملتزمًا بجهة اليمين دون إحساس بالمعاناة نتيجة التكدس البشري أو الضوضاء بل على العكس تشعر خطواتي بذلك النوع من الخفة المنتشية الذي ينجم عن السير داخل نطاق مألوف، وحميمي .. لا أرى الناس من حولي رغم تأكدي من أنني أشاهدهم جيدًا، مثلما لا أرى البيوت والأضواء التي أنظر إليها بشغف، ولا أسمع الأصوات الصاخبة التي أحس باندفاعها المتواصل في أذنيّ .. كل شيء مُطمْئِن كأنما أُعيدت ولادتي بأمان كامل .. لكن هاجس مُقلق ينبعث في نفسي مع اقترابي من المقهى، ويتصاعد تدريجيًا بشأن هذا الموعد .. أعرف أنني سأقابل أشخاصًا قليلين، تربطني بهم صلة قديمة، وأننا لم نلتق منذ وقت طويل، كما يتعيّن علينا أن نحسم في هذا اللقاء أمرًا شاقًا.
أصل إلى مقهى شعبي، واسع، غير مزدحم، مضاء بنور أبيض قوي لمصابيح نيون نظيفة، منتشرة فوق الحوائط البيضاء أيضًا .. يوجد تليفزيون كبير فوق رفٍ عالٍ بعد المدخل، ولا أستوعب ما يدور على شاشته في تلك اللحظة رغم الصوت الواضح، ولكن ربما لدي حدس بأن السماء الليلية، والطريق الشاسع المزدحم بالبشر، والأضواء الصفراء والبيضاء في الخارج، وأشكال البيوت التي مررت بينها كانت علامات تؤكد أن ما يعرضه التليفزيون الآن حلقة من مسلسل قديم .. هناك بعض المرايا الكبيرة المثبتة بالجدران، التي يمكنك بواسطتها أن تتفاجأ بنفسك، أو تتعرف على حقيقة لوجهك لم تحصل عليها من مرايا سابقة .. لا أنظر إلى أي منها، مثلما لا أتطلع إلى الساعة التي لا أراها، ولكنني أعرف أنها معلقة هي الأخرى فوق حائط ما .. أدرك أن الوقت الآن فيما بين السادسة والثانية عشر مساءً .. أتوجه إلى نهاية المقهى حيث طاولتين متجاورتين وكراسي خشبية تستند إلى الحائط المقابل للمدخل وللتليفزيون الذي لا أحرّك رأسي إليه كي أتأكد من وجود المسلسل .. كانوا يجلسون هناك في انتظاري .. ثلاثة أصدقاء تقريبًا (كما ينبغي أن أسميهم) ينتمون إلى مراحل مختلفة من حياتي، ويُفترض أن كلًا منهم يجهل الآخر، ولكنهم اتفقوا بشكل مبهم على أن يتقابلوا في هذا المقهى، وأن يتحدثوا معي .. أجلس بينهم مثلما كان يحدث دائمًا، ونبدأ في الكلام والضحك والصمت، بينما يتناوب القهوجي على المجيء إلى طاولتنا لتبديل الأكواب والزجاجات، وتغيير مطفأة السجائر، وجمرات الشيشة .. كانوا يعرفون بالأمر الذي جئت من أجله إليهم، دون أن أفهمه، ودون أن أتحدث عنه كما يجب ـ كالعادة ـ ولهذا لم نحسم شيئًا .. يبدو لي كأن العابرين في الخارج يشاركوننا ما نتكلم فيه لمجرد أنهم تحت هذه السماء الليلية الممتلئة بالمطر، ويسيرون وسط هذه الأضواء الصفراء والبيضاء، وأمام هذه البيوت القديمة ذات الشرفات الخشبية، وفوق هذه الأرض الطينية المتحجرة .. كان من الحتمي أن نتفق على لقاء آخر في نفس المكان وفي مثل هذا الوقت ونحن ندرك جيدًا أنه سيلاقي نفس المصير، أما أنا فأشعر بالخسارة نتيجة عدم حدوث شيئ مختلف .. أحس بإهانة تقليدية أصابتني عبر وجوههم، وتلميحاتهم المتبادلة، وفراغات كلماتهم .. ننتبه إلى خبر عاجل تعلنه مذيعة جميلة فوق شاشة التليفزيون .. حدث خطير مفاجئ يجعلنا ننظر إلى الشاشة، وننصت إلى تفاصيل الأزمة الطارئة التي ربما تكون تمهيدًا متسارعًا لكارثة .. لا نشاهد ولا نستمع، ولكنني أعرف كل هذا مع الجالسين، وبقية زبائن المقهى، وبعض المارين الذين انحرفت خطواتهم مؤقتًا عن الشارع نحو المدخل لتبين الخبر .. أشعر بالسعادة لأن الحدث الخطير المفاجئ يبعد كثيرًا عن المدينة التي أوجد فيها الآن، ولكنه يستطيع الاقتراب منها إلى حدٍ آمن، وهو ما يجعل من مراقبته عبر شاشة التليفزيون ومن خلال وجوه المحيطين، وثرثرتهم تسلية شيقة .. أفكر في أن الأزمة الطارئة رغم كونها بعيدة فإنها متصلة بهذا المقهى وبالشارع الذي يقع خارجه، وبالأضواء، والليل الشتائي، والشرفات الخشبية للبيوت القديمة التي تنتظرني زوجتي وطفلتي في أحدها .. أدرك أنهما موجودتان الآن مع أمي وأبي وإخوتي وجدتي في بيت داخل هذا الشارع، وأنه قريب جدًا من المقهى، ربما على بُعد سبع خطوات فحسب على اليمين أيضًا، لدرجة أن بإمكاني رؤية المدخل الذي يقع التليفزيون وراء عتبته لو نظرت من شرفة هذا البيت الذي سأصعد إليه الآن .. أقرر أنني سأعود إلى عائلتي بذلك الإحساس بالإهانة التقليدية الناجمة عن لقاء أصدقائي، والذي لم نحسم خلاله الأمر الشاق .. سأتابع مع أولئك الذين ينتظرونني التطورات المثيرة للخبر العاجل في تليفزيون آخر، وسأتمنى أن تمطر السماء في هذا الليل، وأن يزداد البرد قوة، مع سخاء من البرق والرعد، وأن يقترب الخطر البعيد للدرجة التي تقودني للوقوف داخل الشرفة الخشبية للبيت القديم في وقت متأخر، وتأمل الشارع والسماء مع اشتداد المطر.
أفتح عينيّ .. لازالت الثالثة عصرًا .. أوقف صوت .. (Mireille Mathieu) أزيح البطانيتين .. أنهض بملابسي الثقيلة .. أفتح الباب المغلق .. أجلس أمام اللاب لأحاول كتابة شيء ما ـ ولو لمرة واحدة ـ بشكل صحيح .. أعرف أنك لن تمر على آلامي كأنك تمر على أمر استثنائي .. أنا واثق من هذا .. سيكون لديك يقين لن ترى ـ بكل أسف ـ مبررًا لمحاولة التأكد من صوابه بأن كل هذا عادي ومكرر، ويشبه ـ وربما على نحو أقل سحرًا ـ وثائق البؤس الأخرى التي يفيض بها التاريخ البشري .. هذا ليس غريبًا .. كل كائن يضفي طابعًا متفردًا لحياته التعيسة سواء نجح هذا الإيمان في العبور والاستقرار داخل ذاكرة الآخرين أم لا .. لكنني أدرك أن آلامي استثنائية حقًا، دون أن يكون لهذا ارتباط بتلك الضرورة التي قد تكون حتمية .. أعرف أن فشلي في تحقيق أحلامي، وفي عجزي عن امتلاك كل شيء، وعن السيطرة على جميع البشر والمدن والأزمنة، وعن الانتقام من كافة أعدائي، وفي البقاء منكمشًا وضعيفًا، وعاجزًا عن الحركة منذ لحظة ميلادي وحتى الآن مهلكًا روحي في جبهات حرب عديدة وتافهة، لا أريد من الانتصار فيها سوى تمرير حسرتي بأدنى طريقة ممكنة، وتثبيت يأسي ليظل أبديًا حتى لا يكون مصير الحكايات القديمة ولحظات ومشاهد الماضي التي تلعب في رأسي وأنا نائم هو الاندثار والنسيان؛ أعرف أن كل هذه الآلام استثنائية بالفعل .. ربما لا لشيء سوى لأنني أكتب وأدوّن مسبقًا فيما يشبه التنبيه بأنه سيكون لديك يقين لن ترى ـ بكل أسف ـ مبررًا لمحاولة التأكد من صوابه بأن كل هذا عادي ومكرر، وربما لأنني لا أعرف من ذلك الذي أتحدث إليه بضمير المخاطب في هذه اللحظة، ولماذا ..  ربما لأنني أوثّق شعوري بأنني كتبت مجددًا الآن بطريقة خاطئة، وهذا أمر يجب أن يسبب لي السعادة.
موقع (أنتلجنسيا) ـ 3 يناير 2017
اللوحة لـ Jaeyeol Han