السبت، 28 يناير 2017

سرقة الأساطير من الليل

(منذ سن مبكرة جداً ـ ربما عند عمر الخامسة أو السادسة، علمت أنني عندما سأكبر سيتعين عليّ أن أصبح كاتباً. بين حوالي عمر السابعة عشرة والرابعة والعشرين حاولت التخلي عن هذه الفكرة، لكنني قمت بذلك وأنا واع بأنني أُغضب طبيعتي الحقيقية، وأنني عاجلا أم آجلا سوف أستقر وأكتب كتباً).
جورج أورويل
لماذا أكتب
عمري الآن سبع وثلاثين سنة، وأعتقد أنه وقت ملائم لإدراك نوعية الخبرة التي صارت إليها هواية النظر إلى الخلف .. لقد أصبحت مشاهدة الماضي بالنسبة لي ـ ومنذ وقت بعيد ـ لا تعدو سوى محاولة الخطو داخل مقبرة جماعية، يتكاثر الموتى في ظلامها بتلاحق أعمى، أملا في العثور على عزاءات مستحيلة .. هذا التحريك القاهر للرأس في الاتجاه العكسي يتم بعنف أكثر الإرادات وحشية، والتي تليق بالاستفهام الإذلالي ذي الوجهين الساديين: (ما الذي حدث؟، ما الذي لم يحدث؟) .. هناك ضرورة لا سبيل للتفاوض عندي حول أهميتها الأساسية، الأمر الذي يجعل من سرعة تحققها دليلا غير قابل للشك على حسن الحظ .. أقصد بهذه الضرورة التخلص المبكر من الإيمان ـ الغريزي ـ بأن الكتابة سلاح لتغيير العالم .. لكن التخلي عن الوهم النضالي أو التنويري للكتابة لن يخدش اعتقادك بأنها السبيل المتفرد لأن تصبح أنت هذا العالم الذي لن يمكنك تغييره .. على النقيض؛ ربما يساهم هذا الاستيقاظ في تثبيت هوية أصيلة بكونها التعويذة السحرية التي تمكنك من تبادل ذاتك مع عناصر الوجود في غفلة مثالية، كطفل عنيد يسرق الأساطير من الليل .. أتصور الآن أن هذه الفضيلة الإعجازية التي لا تتعطل للكتابة يمكنها أن تفضي إلى نوع خاص ومختلف من الألم .. إنه اليقين الذي يمكن اكتشافه بعد سنوات طويلة من التطلع إلى نفسك كلص مبهر في حكاية عجائبية ممتدة، بأنك لم تعش حقاً هذه الحياة التي طالما استحضرت صورها الذهنية، معتمداً على أمانة الخيال في إنجاز التوحد بأسرارها .. لم يفقد جسدك ذاكرته ـ لو كان هذا مجدياً بالفعل ـ لصالح الامتلاك الواقعي للأماكن والأزمنة، معزولا عن اللغة .. هذا ما يضمن القوة المتحسرة واليائسة التي أراقب بها الآخرين الآن، الذين ربما لم يومض هاجس (الكتابة) في عقل أي منهم أبداً، ولو كخطأ شاحب .. لكن الندم على تلك المقايضات اللانهائية التي لم تتم، ولن تُعوّض، لا يمكن تبريره إلا بمزيج التباهي والامتنان الكامن في عجزك المستقر عن تصديق كيف يعيش كل هؤلاء البشر دون أن يجلس أي منهم ولو لمرة واحدة على الأقل كي يخلق حياته بالكلمات.
إلى أي شيء يرجع الشعور بالهزيمة؟ .. بماذا يسمى العمق الذي ينتمي إليه جرح خبيث كهذا؟ .. بعكس المتوقع فالقواعد المطلقة للحياة والموت ليست مصدر هذا الألم، وإنما اللغة نفسها .. الطبيعة غير المنقذة للغة تحديداً .. إن نزع (الخلاص الكامل) عن الكتابة يقود إلى مصير حتمي من التناقض: إدراك ماهية الخلود الجمالي، واستيعاب السهولة الفادحة للفناء التي تكمن في هذا الخلود .. حينما تتعرف على غياب القدرة التغييرية للكتابة؛ فإن هذا سيقترن بفهمٍ عفوي لخصائصها، وعلى نحو أدق لكونها أقرب إلى صوغ لأحلام ذاتية بواسطة التقمص .. هذا ما يمكن أن نطلق عليه امتلاك حصانة مؤكدة ضد الموت، وبالكيفية التي تبقيك خاضغا لهذا الموت أكثر مما يستطيع ارتكابه أي شكل آخر من القتل .. ستدرك أن اللغة بقدر ما تتيح لك أن تقبض على العالم، بقدر ما سترسخ لديك ـ كذخيرة ماكرة ـ الحقيقة المضادة، بأنه لم يكن من الممكن أبداً أن تنفّذ هذه الحيل والألاعيب الخارقة في الواقع.
أتخيل نفسي أحياناً بدافع من هذا الألم شخصاً لا يكتب .. واحد من هؤلاء الذين لم يومض هاجس (الكتابة) في عقولهم .. كأنني أحاول أن أكون فعلياً أحد الذين يمكنني صنعهم بالكلمات فحسب .. كأنني حينما أكون هذا الآخر سأتحول بالتالي إلى كل (الآخرين) الذين لم أستطع أن أكونهم إلا فقط عن طريق الخيال .. كأن الكتابة في حد ذاتها هي العائق الوحيد، المتمنع، الذي يذكرني مسبقاً بالنهايات الفاشلة لمحاولاتي .. لكن هذ التخيل هو شيء يخص الكتابة أيضاً حتى لو بدا معادياً لها .. جانب من ممارستها خارج الكلمات، ولهذا سيظل غير مرتبط بفكرة التخلي عنها، وهو ما لم أحاوله مطلقا منذ سبعة وثلاثين عاماً .. كانت الكتابة بالنسبة لي هي (الطبيعة الحقيقية) حينما كانت سلاحاً لتغيير العالم، وحينما أصبحت تعويذة سحرية تمكنني من تبادل ذاتي مع عناصر الوجود في غفلة مثالية، وحينما جعلتني موقنًا بأنني لم أعش حقا الحياة التي طالما استحضرت صورها الذهنية.
ربما تسعى الكتابة لتعيين ما يشبه تعريفاً جوهرياً لها من خلال هزائم اللغة .. أنها لا تعيش داخل الكلمات وإنما في ظلالها الغامضة .. في الارتباك المبهم لنقصانها .. في الصدوع الملغزة داخل كل تقمص .. في الإبهام المحيط بالأماكن والأزمنة التي وضعتها كبدائل لذاتي في الحكايات .. في الفراغات المجهولة بين جسدي اللغوي، وجسدي الأرضي .. في عدم القدرة على الإجابة على الوجهين الساديين للاستفهام الإذلالي: (ما الذي حدث؟، ما الذي لم يحدث؟) .. في انعدام الثقة تجاه أي إجابة محتملة .. ربما تسعى الكتابة طوال الوقت لتأكيد أنها هي التي تستخدمني لإنقاذ نفسها من حيث تصورت في لحظة مبكرة أنها ستتكفل بإنقاذي .. أن الأساطير حقيقة هي التي تسرقني من الليل، وأن في ذلك سعادة استثنائية، مدفوعة الثمن.      
مجموعة محاضرات ألقيتها خلال الورشة السردية التي أقامها مركز
(الفارابي) للأبحاث ـ 2014