الخميس، 12 يناير 2017

(ديزي ميلر).. طفلة (هنري جيمس) الغامضة

إلى (آية البحقيري)
ربما تمثل (ديزي ميلر) النموذج الأنثوي الأكثر عدائية للأمان الذكوري. في روايته التي ترجمها (زكي الأسطة)، وصدرت عن دار (الحوار)؛ خلق (هنري جيمس) فتاة متجردة من الهويات الأخلاقية المألوفة، والتي تضمن عادة لخطوات الرجال التحرك نحو ما يُعتقد أنها الاتجاهات الصحيحة للامتلاك. كائن أشبه بطيف بشري يراوغ الرومانتيكية والمجون، ويضيئه خليط مقلق من الرقة واللامبالاة والعفوية والتهكم والتهذيب والعناد والتسامح. لم تقتحم (ديزي ميلر) العوالم الشخصية لأبناء المجتمع الأوروبي المحافظ بتعمّد تخريبي، بل مارست انتهاكًا أعظم. لقد انحازت إلى استقلاليتها عن المبادئ الأرستقراطية المتزمتة التي تتحكم في هذه العوالم، وحتى بلا تفكير في أنها ترتكب هذا التحرر. كان كل ما يعنيها هو إشباع الهوس الطفولي بالمرح، أي تلك الغريزة الأصيلة في تكوينها، والتي ظلت تقودها للاندفاعات غير الحذرة، والمعادية للفضاء العام المشيّد بقوة التسلط الأبوي والأمومي. لم يعطل الارتباك أو الخجل خطوات (ديزي ميلر) نحو تحقيق هذه اللذة، ودون أن يُسيّرها وعي ساذج أو غفلة شعورية، كما أن إدراكها للواقع كان نقيًا من الاستناد إلى عقيدة ثورية أو قيم مضادة للأعراف. كان سلوكها الفطري، المُصنّف بحسم كخصومة مع التقاليد، لا يجب التساهل مع طيشه، ليس أكثر من استجابة بديهية لضرورة أن تعيش فتاة حياتها.
(كانت الآنسة ميلر تبدو في غاية البراءة. كان عدد من الناس قد أخبره، قبل كل شيء، أن الفتيات الأمريكيات كنّ في غاية البراءة، وكان آخرون قد أخبروه، قبل كل شيء، أنهن لم يكنّ كذلك. وكان ميالًا إلى الاعتقاد بأن الآنسة ديزي ميلر كانت فتاة عابثة أمريكية جميلة. لم يكن حتى الآن قد أقام علاقة مع سيدات شابات من هذه الفئة. كان قد عرف، هنا في أوروبا، امرأتين أو ثلاثًا كن أكبر سنًا من الآنسة ديزي ميلر، وقد تزوّدن، كرمى للهيبة والاحترام بأزواج، كنّ على درجة من الغنج والدلال، وكنّ نساء خطيرات مريعات، وكانت علاقة المرء بهن عرضة لاتخاذ منحى خطير).
يمكن للاضطراب المستقر طوال زمن الرواية عند (وينتربورن) أن يذهب بتفكيرنا نحو إلهام يتجاوز الحالة العادية لرجل فشل في فهم فتاة واضحة إلى حد غامض تمامًا. هذه الحيرة الثابتة لـ (وينتربورن) العاجزة عن العثور على خلاص منقذ في علاقته بـ (ديزي ميلر) ربما تجعلنا نتصور أن هذه الفتاة ليست أكثر النماذج المؤرقة للسطوة الذكورية فحسب، بل هي أيضًا أكثر الغوايات الأنثوية الفاضحة للجرح النسوي عند الرجل، والتي تساهم بالتالي في تعزيز آلامه. نحن نشعر كأن عينًا سرية داخل (وينتربورن) تراقب ـ مع عيوننا ـ هذا التحوّل في ذاته. تتفحص الطبائع الأنثوية التي ستبدأ شخصيته في الاتسام بها، والتي كان يتوقع أو ينتظر وجودها في (ديزي ميلر). كأن الحصانة ضد الاضطراب العاطفي تمثل جانبًا جوهريًا في الهوية الذكورية، والتي يبدو تعرضها للتهديد أو الانهيار كأنه يتسبب بشكل أو بآخر في تجريد الرجل من خصائصها باعتبار أن الحيرة الوجدانية -على النقيض- جزء أساسي من الهوية الأنثوية في الوعي الذكوري.
(وظهر طيف سيدة، على مبعدة منهما، باهتًا جدًا في الظلام وهو يتقدم بحركة بطيئة مضطربة.
ولاح أنه توقف فجأة. سألها وينتربورن:
ـ هل أنت متأكدة من أنها أمك؟ هل تستطيعين تمييزها في هذا الغسق الكثيف؟
فصاحت الآنسة ديزي ميلر وهي تطلق ضحكة:
ـ حسنًا. أعتقد أنني أعرف أمي. لاسيما عندما تكون قد خلعت عليها شالي أيضًا! إنها دائمًا ترتدي أشيائي.
وحامت السيدة المعنية، بعد أن توقفت عن التقدم، بغموض حول المكان الذي أوقفت فيه خطواتها.
قال وينتربورن:
ـ أمك لا تراك على ما أخشى.
وأضاف وهو يعتقد أن الدعابة مباحة مع الآنسة ميلر:
ـ أو ربما، ربما تشعر بالذنب بخصوص شالك).
يتميز الحوار عند (هنري جيمس) بالقدرة على إنجاز العديد من الوظائف البنائية، التي تتخطى الأدوار التقليدية لتبادل الأحاديث بين الشخصيات؛ فالحوار في رواية (ديزي ميلر) على سبيل المثال يؤدي مهمة الراصد المتمعن للمكان والزمن، كما أنه يمتد خارج حدودهما ليدمج تاريخ اللحظة بحاضرها، دون استدعاء مباشر للماضي، بل عبر الإشارات الإيحائية المتداولة. يقوم الحوار أيضًا في الرواية بعمل المونولوج عن طريق التحرك بين الظاهر والباطن لدى المتحدث، أي أنه يحقق مساحات مشتركة بين التكلّم والتفكير، وهو ما يجعل حوارات أخرى تدور بين الأرواح أثناء تبادل الحديث بين الألسن. يدفع الحوار كذلك السرد للأمام، ليس بتطوير المعطيات المعرفية للحكي ودعمها فقط، وإنما بواسطة التركيز الحسي الانتقائي أيضًا، والتثبيت السيكولوجي لما تم حكيه على نحو يجعل من التصاعد الدرامي في الرواية مستلهمًا كبصيرة جمالية دون انكشاف.
(وكان وينتربورن في الفترة الفاصلة قد فكر كثيرًا بديزي ميلر وتصرفاتها المحيرة. وذات يوم تحدث مع عمته عنها، وقال إن ضميره كان مثقلًا لأنه ظلمها. قالت السيدة كوستيلو:
ـ أنا على يقين من أنني لا أعرف كيف أثّر ظلمك عليها.
ـ لقد بعثت إليّ برسالة قبل وفاتها لم أفهمها آنذاك، ولكنني فهمتها فيما بعد. إنها تقدّر احترام المرء حق التقدير).
كان يمكن لـ (هنري جيمس) أن يحتفظ بسبب موت (ديزي ميلر) مبهمًا كوسيلة اعتيادية، يحصل القارئ من خلالها على أقوى تحريض ممكن للتفكير في أن فتاة (غريبة) مثلها لم يكن ينبغي أن تعيش في هذا العالم. لكنه جعلها تموت بالحمى ليحاول أن يترك أثرًا أبعد من التعاطف مع طفلة لم ترغب في المقاومة بقدر ما كانت تريد أن تتنفس. أراد (هنري جيمس) أن يتم تأمل هذه الفتاة كبشر، تعيش وتموت لنفس الأسباب المحتملة، وأنها سواء بدت كعدو لا أخلاقي لمجتمع ما أو كطيف بشري استرد ملائكيته الناقصة بالموت فإن لها ـ مثلنا تمامًا ـ زمن محدود قد ينتهي في لحظة ما. هذه اللحظة لن تكون ختامًا لحياة بل ركلا لأحلام لم تتحقق نحو الظلام.
 موقع (زائد 18) ـ الخميس 12 يناير 2017