الأحد، 1 يناير 2017

الخطايا الكاملة للشاعر الرجيم

تُعتبر الأعمال الشعرية الكاملة لـ (شارل بودلير) بترجمة رفعت سلام والتي أُعيد نشرها في طبعة شعبية عن مكتبة الأسرة من أهم إصدارات عام 2016.. يُفتتح الكتاب بمقدمة المترجم عن الحياة البائسة لـ (بودلير) في القرن التاسع عشر، وعن مكانة أعماله مثل "أزهار الشر"، و"سأم باريس" في الحركة الرومانتيكية الفرنسية،وكذلك صراعاته ومعاركه الشخصية مع أمه وزوجها الجنرال اللامع، ومع معاصريه من النقاد والصحفيين الذين كانوا يرونه "ولدًا خبيثًا" أو شخصاً "غريب الأطوار".
يعرض الكتاب سيرة ذاتية لـ (بودلير)، متبوعة بقراءة (بول فاليري) لـ (أزهار الشر) والمعنونة بـ (مكانة بودلير):
(لكن المجد الأعظم الأعظم لبودلير، علي نحو ما أوضحت في البداية، يكمن في أنه ألهم ـ بلا شك ـ شعراء عظامًا كثيرين، فلا فيرلين، ولا مالارميه، ولا رامبو كان لهم أن يكونوا ما كانوه لو لم يقرأوا "أزهار الشر" في السِّن الفاصل).
في (الحب والجمجمة) وهي إحدي قصائد (أزهار الشر)1861 نتعرّف علي الصورة المرعبة للحب عند (بودلير).. كأن هذه العاطفة هي السبيل الأبدي نحو أشد حالات التعذيب شراسة بفعل إرادة عابثة، تتلذذ بتحويل الرأس إلي أشلاء:
(هذه اللعبة الوحشية البلهاء،
متي ستنتهي؟
لأن ما ينثره في الهواء
فمك القاسي
أيها الوحش القاتل، هو مخي،
ودمي ولحمي!).
يمكننا العثور علي هذا الحس المأساوي، أو الوعي بالألم في قصيدة (الصوت) من (البقايا) 1866 حيث تأمل ما يشبه اللعنة التي تدفع بالروح نحو الظلام الماورائي للعالم..الخوف الجاذب للروح خارج حدود المألوف المزيف بالبريق العقلاني.. ينتمي (بودلير) إلي ذلك السواد الخبيث الكامن خلف الوجود، والذي يبقيه مكرسًا لإفساد التناغم بين الحياة والمعرفة:
(ومنذ ذلك الحين، وأنا، كالأنبياء،
أحب برقة الصحراء والبحر؛
وأنا أضحك في الجنازات وأبكي في الحفلات،
وأجد متعة عذبة في الخمر المرير؛
وكثيرًا ما أعتبر الحقائق أكاذيب،
وأهوي، فيما العينان شاخصتان في السماء، وفي الحُفر.
لكن الصوت يعزيني ويقول: "فلتحتفظ بأحلامك؛
فالحكماء لا يملكون أحلامًا بجمال أحلام المجانين!"
في واحدة من أكثر قصائد (شارل بودلير) شهرة وجمالًا، نختبر هذا الدافع للتفكير والتساؤل حول العلاقة بين الرعب والغيوم.. إنها قصيدة (الغريب) من (سأم باريس) التي تتحوّل فيها الغيوم إلي وطن أو مأوي دائم لذلك المعذّب بالاغتراب.. المرايا السماوية البعيدة التي يحركها الخيال اليائس، وتتجمع في زمنها الخاص الأحلام والكوابيس والملامح المتراكمة للفقد.. يعرف (بودلير) أن الغيوم هي الوعود المتحررة من الأسر العائلي ومن المتاهات الجائعة للصداقة:
(ـ إيه!، فما الذي تحب إذن، أيها الغريب العجيب؟
ـ أحب الغيوم.. الغيوم التي تمضي.. هناك.. هناك.. الغيوم الرائعة!).
الغيوم التي تبدو طفوليتها القصوي لدي (بودلير) كأنها الممر الغامض والمتحسّر للذاكرة نحو الموت.. التجسيد الرومانسي للفناء، الذي ينقذ الماضي دون بتر أشباحه.. ربما هذا ما يجعلني دائمًا أضع هذه (الغيوم الرائعة) التي لم يذكرها (بودلير) في قصيدة (الرحلة) داخل السماء الحاضرة في هذا المشهد:
(أيها الموت، أيها القبطان العجوز، هو الوقت! فلترفع المرساة!
هذه البلاد تُضجرنا، أيها الموت! فلتُبحر!
فإذا ما كانت السماء والبحر سوداوين كالحِبر،
فقلوبنا التي تعرفها مليئة بالأشعة!).
قرأت أشعار (شارل بودلير) بترجمات مختلفة، ولكنني لم أحصل علي متعة تفوق قراءتهابترجمة رفعت سلام، وهذا ينطبق أيضًا علي أشعار (يانيس ريتسوس)، و(قسطنطين كفافيس)، و(آرثر رامبو)، ولاشك أن هذا الكتاب يعد واحدة من أعظم الهدايا التي يمكن أن يحصل عليها المغرمون مثلي بأشعار (بودلير).
(أخبار الأدب) ـ 12/31/2016