الأربعاء، 18 يناير 2017

مختارات «هايكو الحرب» ... فراشة حطَّت على جثث

في كتابه «هايكو الحرب» الصادر حديثاً عن دار «فضاءات» في عمان يقدم آزاد إسكندر ذخيرة مترجمة من قصائد الهايكو لشعراء من جنسيات مختلفة. كتبت الروائية العراقية إنعام كجه جي، افتتاحية للكتاب بعنوان «قصائد ليست عصماء» تناولت خلالها الأصل الياباني لفن الهايكو، واستلهامه للطبيعة، ونزوعه إلى التماهي مع التفاصيل المتبدلة للفصول، من دون ثرثرة أو بلاغة مستهلكة. أشارت كجه جي كذلك إلى انتشار شعر الهايكو في العالم، وإلى ترجماته إلى العربية، سواء من اليابانية أو عبر لغات أخرى، كما عرّفت «هايكو الحرب» بأنه ليس كتاباً عن خراب الأرض بل عن أعطاب الروح.
ويرى المترجم أن هذا الكتاب في أحد وجوهه، هو ثأر شخصي من الحروب ومقترفيها، بعد أن غيَّرت حياته وجرّب النفي مرتين. كتب أيضاً أنه جمع هذه القصائد على مدى عامين، محاولاً أن يضم أقطار الأرض، في حين كان من الطبيعي أن تأتي أكثر القصائد من البلاد التي كان لها نصيب أكبر من ويلات الحروب.
تبدو قصائد الكتاب كأنها قرائن شعرية متباينة على الكينونة الواحدة التي تعطيها الحرب للكائنات والأشياء، فالطيور التي تهرب إلى السماء مع صفارة الإنذار مثلاً في قصيدة ج. كات، كان من بينها ذلك الطير الصغير الذي علَّمه طفل لاجئ الطيران بعد أن سقط من عشه في قصيدة ندى سابادي: «طفل لاجئ/ يعلم الطيران لطير صغير/ سقط من عشه». والطفلان اللذان عثر عليهما ناعومي، وهو يبحث عن قصائد مناهضة للحرب، سيفقد أحدهما يده، وسيحاول عبثاً أن يمسح دموعه بها في قصيدة سيلفا ميزيريت: «يد بتراء/ تحاول عبثاً/ أن تمسح الدموع». أما الجنود الدُمى الذين صفَّهم الصبي لمعركة حاسمة تحت مطر خريفي رتيب في قصيدة ريتشارد رايت فهم الجنود الدمى أنفسهم في قصيدة م. تشيستي، «أسلحة دُمى، جنود دُمى/ دبابات وطائرات وسفن دُمى/ لكن ما من دُمى بهيئة قبور». تمتد هذه الكينونة المشتركة بالضرورة إلى الأداءات المجازية للموجودات، أو العلاقات الرمزية بين كوابيسها.
يمكننا تصور أن الذكرى التي علق بها اللاجئ في قصيدة أندريا تشيكون هي ما كانت تتحدث به مارلينا رينزين إلى الشجرة عبر النافذة عن المطر وعن الحرب، وهي أيضاً ما كان يفكر فيه بيلي ويلسون وهو يضع شمعة مضاءة على كل نافذة مع قرع الطبول، قبل أن تتحوَّل الذكرى إلى طائرة ورقية فوق مخيم اللاجئين والأطفال المُترَبين في قصيدة سيرجي تومي، وإلى الضباب الذي يربط أنقاض جسر في قصيدة نيبوجسا سيمين: «إثر القصف/ أنقاض جسر/ يربطها الضباب». ربما تعني قراءة هذه المجموعة من قصائد الهايكو امتلاك الهوية الجماعية التي يحملها ضحايا الحروب على نحو جمالي. يمكن لكل فرد أن يكون بواسطة الشعر نسخة من المرأة العجوز التي تلعن بقاءها حية، بعد قصف قريتها في قصيدة زيلجكو فوندا، والطفل الذي يركض خلف فراشاته داخل حقل الألغام في قصيدة دوميترود. إيفريم، وأن يكون كذلك الفراشة ذاتها التي حطَّت على جثث في مقبرة جماعية قبل أن يرى جثته بينها في قصيدة سيلفا ميزيريت: «فراشة حطَّت على/ جثث في مقبرة جماعية/ الأرض ما زالت تدور».
يتحول التخييل إلى فعل انتماء لتلك العائلة الكبيرة من المقهورين والموتى، والذين يتبادلون الذكريات عبر الزمن من خلال رسائل مقتضبة، وخزات ولطمات كونية تكفَّل آزاد إسكندر بتجميعها، ليصبح العابر داخل هذا الظلام الأزلي من المفارقات الوحشية، قادراً على تمرير ماضيه إلى أحلامها، ويصير جزءاً من تلك الذاكرة الأبدية. يمثل الهايكو الحضور الشعري الأقرب إلى السكوت. التجسيد اللغوي الأكثر حدة للصرخات المكتومة، والذي قد يعد أقوى أشكال التماثل مع الطبيعة والتقمص لعناصرها. لنجرب على سبيل المثال تأمل قسوة الصمت في قصيدة كارل بالمر، «لا تتذكر/اسم الجندي/ في صورة زفافها». أو الشعور بغُصَّة الحلق في قصيدة بيل باولي، «ابنها ذهب إلى الحرب/ يدان شفيفتان/ في ضوء الشباك»، أو شرود النظرة في قصيدة فيسفينجا ماك ماستر، «نُذُرُ الثلج/ لا أحد ليوقد النار/ قريباً تأتي الذئاب». أو إطراق الرأس في قصيدة جورجا فوكيليتش، «نشرة أخبار المساء/ مقبرة جماعية أخرى/ أحوال الطقس». قصائد «هايكو الحرب» هي المعادل الشعري المضاد لمفردات القتل. الألغام التي يمكن للفقد أن يزرعها في قلب كل مجزرة، وفي تاريخ كل إبادة: الأكياس السوداء التي ترن بداخلها الهواتف النقالة بلا انقطاع في قصيدة ماركوس سولزبرغ، الرجال الذين على عكازات، ويبنون ميتماً جديداً لأطفال بندوب في قصيدة ألان سمرز. الحمامتان على السطح، تعاودان التقبيل بعد وقف إطلاق النار في قصيدة مدحت هينشيتش، كل قصيدة توازي رصاصة بندقية، وقذيفة دبابة، وصاروخ طائرة، في الزمن الضئيل للاندفاع، وفي الأثر الوجودي الذي لا يُمحى.
 جريدة (الحياة) اللندنية ـ الثلاثاء، 17 يناير/ كانون الثاني 2017