الثلاثاء، 24 يناير 2017

الثورة والخيال ما بعد الحداثي

يمكنك أن تقوم بالثورة، ولكن عليك ألا تنسى إطلاق النار على نفسك كل صباح  ...
(أما كيف لـ "رورتي" و"ليوتار" تفسير تجمع شعوب أوروبا الشرقية لإسقاط حكامها فهو متروك لتخمينات أي إنسان) ...
بهذه الجملة المتحدية اختتم المناضل الاشتراكي (أليكس كالينيكوس) مقاله (ما بعد الحداثة) الذي ترجمه (بشير السباعي) منذ أكثر من عشرين سنة .. كان من الواضح أن هذه الكلمات جاءت ردا على أفكارهما عن "تغيير العالم" والتي ناقشها (كالينيكوس) في المقال .. (جان ليوتار) وهو المفكر الذي يعتبر رائدا لحركة ما بعد الحداثة في فرنسا حينما أعلن عن إفلاس جميع (المرويات الكبرى) أكد على أنه لم يعد بوسعنا الإيمان بأية نظرية شاملة تسمح لنا بتفسير العالم وتغييره في آن واحد .. أيضا (ريتشارد رورتي) الفيلسوف الأمريكي تحدث عن أنه يتوجب علينا الكف عن الانشغال بمعرفة العالم وتغييره والتركيز بدلا من ذلك على تنمية علاقات شخصية؛ فمن الوجوه المحورية لما بعد الحداثة إنكار أن من المرغوب فيه أو حتى من الممكن بعد الانخراط بشكل جماعي في تغيير العالم .. كان ثمة ارتباط إذن بين (الثورة)، و(تغيير العالم)، وكان هناك من يؤمن بجدوى هذا الارتباط في مقابل من كان يعتبره مجرد (كيتش) حداثي .
في 2011 لا تختلف صورة العالم العربي من الخارج كثيرا عن فيلم سينمائي يخرج فيه الموتى الأحياء من قبورهم تباعا للانتقام من قتلتهم .. لكنه ليس فيلما مرعبا .. إنه مزيج من الرومانسية الجارفة والكارتون المبهر .. مدن مسحورة تتخلص فجأة من لعنتها، وتستيقظ من نوم طويل كما يحدث في الحكايات الخيالية .. هل هناك في هذه المعجزات المتعاقبة ما يمثل تحديا لما بعد الحداثة؟.
ربما تعني الثورة ـ من ضمن ما تعني ـ أن هناك اتفاقا وفهما مشتركا لحقيقة ما .. حقيقة ترعى دوافع وكيفية حدوث الثورة، وبالضرورة حقيقة الواقع الجديد الذي تسعى لتشييده .. هذه الحقيقة تحتاج لعقل كلي يمثل اندماجا لعقول كثيرة يجمعها يقين واحد وهدف واحد أيضا .. نجاح الثورة في تحقيق هذا الهدف سيبدو فورا أنه انتصار للحقيقة وللعقل وهما ـ طبقا لما بعد الحداثة ـ ليسا غير وهمين .. هل علينا أن نتذكر "فوكو" حينما قال أن إرادة المعرفة هي مجرد شكل واحد من أشكال إرادة السلطة؟، وأيضا حينما اعتبر أن الذات الإنسانية الفردية كتلة من الدوافع والرغبات التي تصوغها علاقات السلطة السائدة داخل المجتمع؟.
الثورات العربية، والمصرية كنموذج تعيد إلينا الجدل المتوفر بقوة في السؤال القديم: هل كانت ما بعد الحداثة استمرارا معدّلا أو محوّرا للحداثة أم قطيعة معها؟ .. لكنها لن تكتفي بذلك فحسب بل ربما بشكل أقوى ستدعم امتدادات هذا السؤال بتساؤلات أخرى: هذا التنافر أو التعارض الذي يبدو واضحا عند الكثيرين بين فلسفة ما بعد الحداثة وفكرة قيام ثورة شعبية هل يرجع إلى رفض ما بعد الحداثة لوجود الثورة من أساسها أم رفض الإيمان بأنها فعل تغيير للعالم ؟ .. هل استخدام فيسبوك وتويتر والموبايل وهي أدوات ما بعد حداثية بامتياز تحمل كافة إمكانيات خلخلة المركز وتفكيك البنية؛ هل استخدامها كأسلحة رئيسية في الثورات دليل على عدم صمود التشاؤم الشهير لما بعد الحداثة في مواجهة خلود التفاؤل الحداثي الذي صاحب مشروع التنوير وعمل عليه (هيجل) و(ماركس)، وارتبط بتفسير مسار التطور التاريخي؟  .. هل ما بعد الحداثة تحريض على عدم الحركة المؤطرة باليقين وبحيازة عناصر الفهم والثقة في المصير، أم تحريض على تأمل الشروط المتعالية والصراعات الملغزة المختبئة وراء الحركة واقتفاء أثر كل محاولة لتأصيل غايات ميتافيزيقية وكشف أمراض علاقات التواصل التي تسعى لتشكيل قواعد للأمان في حماية سلطة ما؟.
قد يكون ما أخذته ما بعد الحداثة على عاتقها في هذا الصدد أن تستحضر المتمنع في الثورة بآلية متجردة من الرونق المألوف .. من عوامل الرضى الذهني المعنية بالحفاظ على وحدة القطيع ونظامه لحظة الرغبة في الوصول إلى ما يُعجز عن الاهتداء إليه .. هي تنقب عن سبل منزوعة اللذة لتوفير شعور أكثر إخلاصا بما هو محصن، ولا يمكن التعبير عنه في الثورة بعيدا عن التناغم الشكلي المبتذل الكامن في طرق مهادنة غيابه الحداثية عبر النشوة والمواساة.
الثورة عارية .. الثورة بلا جسد .. نعم هي أيضا بلا روح ...
ربما تتجاوز ما بعد الحداثة ثنائية الرفض والقبول للثورة نحو التعامل معها كـ (لعبة لغوية) لا تحتكر المعنى بقدر ما تضمر اقتراحات وانحيازات ملتبسة ومراوغة .. أداء هادم يضلل الحكمة ويتفادى الخضوع لقواعد وأنماط مقدسة منسجما مع التفتيت المستمر للأنساق الذي يمنع الاحتمالات وتقاطعاتها المنهجية من تكوين هويات مستقرة .. هذه المفارقة والانفصال عن ما يدعي التأكيد والثبات المعرفي يتسق مع غياب (اللغة العليا) أو (الميتالغة) في مقابل ثلاث من (الميتاحكايات) ميّز بينها (ليوتار) كما أشار د . أحمد أبو زيد في مقاله: البحث عن (ما بعد الحداثة) وهي: العلم الوضعي، والهرمينوطيقا، والصراع الطبقي .. هذه القضايا والنظريات الشمولية التي فقدت مصداقيتها، وعلى هذا لم تعد هناك (حكاية عليا) مسبقة، أو صيغة خطاب تعلو فوق غيرها من الصيغ، أو شكل واحد للمعرفة يمكن اعتباره أساسا لبقية أشكال المعرفة الأخرى .. عدم وجود (ميتالغة) يعني غياب الخلفية التي تضم كل أشكال العبارات والتعبيرات، وهذا ما أعتقد أنه ينبغي تطبيقه على (الثورة) أثناء مقاربتها من منظور ما بعد حداثي بدءا من تغييب أي شروط مقررة سلفا عن ما يمكن أن تقود إليه الكلمة، وليس انتهاءا بتتبع المضمامين التي يمكن أن تتضح من استخداماتها وتوظيفاتها المتعددة، والتي لا ينبغي أن تتآلف مع اتجاه واحد متعسف من التفكير.
نحن إزاء موقف لا يسعى لتشريح الثورة على أسس الماضي المتخم بالمذاهب والأفكار الكبرى، وما رسخته من علاقات وسلوكيات بل وفقا لاختفاءها .. مظهر من مظاهر التحرر من أنقاض المعتقدات يتخلى عن الانصياع للأحكام التي أرادت تثبيت نفسها كقانون مطلق؛ فالقصص التاريخية التي ارتبط بها ما هو (صادق)، و(عادل) لم تعد تملك مشروعيتها السابقة، ومن هنا تنبذ (الثورة) في وضعيتها ما بعد الحداثية ما يمكن أن يلحق بها من أذى التقيد بأصنام المعايير الفكرية التي سادت مجتمعات الحداثة.
تخطي المسلمات الحضارية يضع تلقائيا مفهوم (الثورة) في نطاق المساءلة والمحاكمة وليس الانتماء رغم اعتراف الـ (مابعد حداثيين) بأن مبادئ فلسفة التنويرٍ هي التي ساعدت على قيام الثورة الديمقراطية في فرنسا وأمريكا وزوال عهد الإقطاع وقيام النظام الاجتماعي الذي يؤمن بالعدل والمساواة، ولكنهم في نفس الوقت يدركون تماما أن التجارب والخبرات الإنسانية وكذلك الاتجاهات الثقافية قد وصلت إلى مرحلة من التعقد والتعددية ما يستدعي الحاجة إلى العثور على ما يتجاوز المقولات، وما تحمله من إرادات وما تنتجه من تأثيرات .. الحاجة إلى التقاط الإشارات والإيماءات التي تعطي لهذه المقولات سياقها الرمزي، وبالتالي تنزع عنها الحماية من انتهاك الرهان الدلالي لها وتبقيها داخل الفضاء المتسع دوما للتحولات.
على الثورة ـ ككل الأشياء ـ ألا تخدم أحدا ...
تحاول ما بعد الحداثة ربط الثورة بالخيال الحر أو تحديدا بما يسمى: (تأويل اللانهاية) بالتعبير الفرويدي، وهو انفلات من قانون المفهوم وإعادة التذكر والتنبوء .. تجاوز للميتافيزيقا وتجاوز لكافة محاولات تجاوزها السابقة، والتي لم تخرج بعيدا عن أرضها .. ذوبان الذات في ما ينبغي تأويله إلى ما لا نهاية ، وهذا ما يجعل (الثورة) خاضعة دوما للتساؤل .. يجعلها متاحة للتفكير ليس في أحداثها ولا معانيها فحسب بل وفي ما هو محتجب عنا منها سواء كان لحكم سابق أو لتصور مستقبلي .. تسعى (ما بعد الحداثة) هنا لتفادي خدعة البحث عن الأصل الماضوي في الثورة باعتبارها نتيجة مباشرة له ومتبرأة مما عداه حيث يعد هذا مجرد تكرار لما هو سابق .. (ليوتار) في مقاله (إعادة كتابة الحداثة) والذي ترجمه: (رضوان شقرون) و(منير حجوجي) يعطي نموذجين لهذه الخدعة قائلا :
(لقد اعتقد "ماركس" أنه قام بكشف وفضح الجريمة الأصلية  في أصل شر الحداثة "يتعلق الأمر باستغلال العمال" واعتقد كذلك كمحقق شرطة أنه بالتعرية عن الواقع سيمكن البشرية من الخروج من طاعونها الكبير .. إننا نعرف اليوم أن ثورة أكتوبر تحت غطاء الماركسية وفي العمق كل ثورة أخرى لم تقم ولن تقوم إلا بإعادة فتح الجرح ذاته: يمكن للتعيين وللتشخيص أن يتغيرا ولكن المرض نفسه يعاود الظهور داخل إعادة الكتابة هذه. . لقد اعتقد الماركسيون أنهم قضوا على اغتراب البشر، ولكنهم لم يقوموا إلا بتحويل هذا الاغتراب من مكانه.
نقترح الآن التوجه نحو الفلسفة: لقد حاول "نيتشه" تحرير الفكر وطريقة التفكير من قبضة ما سماه الميتافيزيقا، أي ذلك المبدأ الذي يشير منذ أفلاطون وحتى شوبنهاور إلى القضية الأساسية الوحيدة بالنسبة للبشر المتمثلة في الكشف عن الأساس الذي يمكنهم من التحدث بشكل ملائم مع الحقيقة، ومن الفعل وفقا للخير والعدل .. إن الطرح الأساسي عند "نيتشه" هو الاستحالة الجذرية لأي "وفقا لـ" نظرا لاستحالة المبدأ الأول أو الأصلي، تماما كما طرحت ذاتها فكرة الخير عند "أفلاطون" أو مبدأ العلة الكافية عند "لايبنز" .. إن كل خطاب بالنسبة لنيتشه بما في ذلك خطاب العلم أو الفلسفة يجب أن ينظر إليه كمنظور، ولكن "نيتشه" يسرع بدوره إلى تعيين ما يؤسس المنظورات ذاتها في ما يسميه إرادة القوة .. تعيد فلسفته بذلك إنتاج الطرح الميتافيزيقي وتحقق أكثر من ذلك وبشكل دوغمائي ومتكرر جوهر الميتافيزيقا لأن ميتافيزيقا الإرادة التي ينهي بها فلسفته هي ذاتها التي تحويها الأنظمة الفلسفية للغرب الحديث، وهو ما يوضحه هايدجر).
يذكرنا (ليوتار) في نفس المقال بقاعدة (الانتباه العائم المتساوي) التي ألح (فرويد) على أي محلل أن يحترمها: ضرورة إعطاء نفس الأهمية لكل ما ينتجه المريض من كلام حتى وإن بدا تافها أو دون قيمة .. تقول القاعدة ما مجمله: لا يجب إصدار حكم مسبق، يجب تعليق الحكم وجمع المعلومات وإعطاء الأهمية ذاتها لكل ما يأتي من المريض دون التدخل فيه .. من جهته، على المريض أن يحترم وضعا مماثلا: عليه أن يترك كلامه طليقا وأن يترك للأفكار والصور والمشاهد والأسماء والجمل تأخذ مجراها كما تنتج على لسانه وعلى جسده، (في فوضاها) دون أن يخضعها لاختيار أو قمع.
هذا التذكير يقيم علاقة بين (تأويل اللانهاية)، والإحساس والإنصات له بتعبير (ليوتار)، ولو طبقنا هذا على الثورة لحولناها إلى شذرات من جمل وكلمات ومقاطع تكوّن وحدات غير منطقية لمشاهد لا تأخذ في عين الاعتبار البحث عن قيمة .. طريقة / تقنية لا تقدم معرفة بل تستبدل التعريف بحضور الماضي كفاعل لا يطرح ركائزا قديمة وإنما يوفر للحاضر موضوع الفكر إحساسه الجديد.
يقول (كانط): (إن الخيال يعطي للعقل مجالا للتفكير أكثر مما يمنحه العمل المفهومي للفهم) .. الثورة إذن عليها أن تكون منفتحة للخيال وللتداعي الحر ولكل ما هو معلوم، ولكل ما نجهله .. أن يصير الزمن الشخصي هو زمن الجميع في نفس الوقت .. الثورة لا يكشف عنها ولا تُمثل وإنما  يُكشف عن عناصر لها تُوثق وفقا لآلية غير محاصرة بالحجج والبراهين .. إنها اللامنفعة مابعد الحداثية التي لا تقدم حقيقة بل تشتبك مع واقع يقع دائما خارج دائرة الفهم.
إبريل 2011
 photo: 28th of January 2011. Taken by Islam El Azzazi.