تسعدني الاستفادة الواضحة من كتابي "نقد استجابة القارئ
العربي" في مقالات ودراسات عديدة منذ نشره أولًا كحلقات أسبوعية على موقع
الكتابة الثقافي، وبعد صدروه إلكترونيًا في إبريل الماضي، خصوصًا فيما يتعلّق
بالسلطة الأبوية للقارئ، وأنماط التأويل المتعسّفة، ومراقبة الكاتب وعقابه،
والانتهاز القيمي لجودريدز، ومرجعية الكتابة الآمنة .. الاستفادة التي تتجاوز
الأفكار والتحليلات إلى التعبيرات اللغوية نفسها، حتى بالرغم من عدم الإشارة ـ
المنطقية ـ إلى الكتاب؛ فما يعنيني أنه على الأقل ثمة اهتمام وكتابة وربما نقاش
حول الأمر .. لكن للأسف معظم هذه المقالات والدراسات لم تتحرر مما تحاول مقاومته
في مكان آخر .. لا تنطلق إدانتها لسلطة القارئ إلا من حسرة على تجريد الناقد من
هذه السلطة .. الأب "الحقيقي" المُهان، مالك المعرفة، الذي اُغتُصبت
مكانته ممن لا يستحقها، أي الأبناء الضالين الذين يجب أن يعودوا إلى صمتهم .. كأن
الناقد، الذي على استعداد للاعتراف أحيانًا بأن عزلته "العلمية"
المتعالية قد أعطت الفرصة لمعاول القراء المتطورة والطائشة أن تهدم الأبراج
العاجية القديمة للنقد الأدبي؛ كأن هذا الناقد بكامل رصانته المعرفية المتمنّعة لم
يتوقف من قبل في خطابه النقدي عن إثبات أنه لا فرق بينه وبين أي قارئ آخر يستمتع بمحاكمة
الكتّاب بناءًا على ذائقته الخاصة.
أعيد الآن نشر فصل من كتابي "نقد استجابة القارئ العربي"
بعنوان "الكوميديا النقدية .. القرّاء كأبناء شرعيين"؛ فربما لا اضطر لاستخدام
"للأسف" حين أتحدث عن مقالات ودراسات قادمة لكم .. لتكن استفادتكم
كاملة.
الكوميديا النقدية .. القرّاء كأبناء شرعيين
هناك الكثير من النقاد العرب ـ ربما يتجاوزون بالفعل الحدود الكمّية
التي يُمكن تخيلها ـ لا يتوقفون عن تصدير الانطباع بأنهم مقيمون داخل الجحيم ..
يوزعون صرخاتهم ولعناتهم طوال الوقت عبر الصحف، والمجلات، والمواقع الإلكترونية،
وصفحات التواصل الاجتماعي، والندوات، والمؤتمرات، والمقاهي تجاه
"الرداءة"، و"الابتذال"، و"الفوضى" التي تسود
الكتابة الأدبية العربية .. يتركون شعورًا مُلحًّا بأنهم يتعذبون بشكل حقيقي،
ولسبب يمكن تلخيصه في أن كل ما هو مضاد ومناقض في عقيدتهم لـ "جمال وعمق الكتابة"
يرونه مهيمنًا وطاغيًا ومتمتعًا بتقدير غير مستحق، واحتفاء لا يمكن تبريره .. تكاد
الحسرة في أعنف مستوياتها، والكامنة بين سطور مقالاتهم ومنشوراتهم أن تفيض بوضوح
تام، وهم يتأكدون يومًا بعد آخر أن "علمهم الأكاديمي" عاجز عن إنهاء
المهزلة الأدبية الهائلة التي يُسمح فيها لكل من هب ودب أن يكتب ما يشاء، أو أن
"وعيهم الجمالي" غير قادر على إنقاذ الحياة الثقافية من الخراء الكثيف
الذي يحكمها.
لو أخذنا عينة من أسماء هؤلاء النقاد وتتبعنا تاريخ كل منها؛ هل سنعثر
على ثوابت متشابهة، قد تصل إلى درجة التطابق فيما بينهم؟ .. هل سنلاحظ ـ مثلا ـ
تركيزهم الدائم على انتقاد الأخطاء النحوية في النصوص التي يقومون بتناولها، أو
اهتمامهم بمدى التزام الكاتب بالقيم المثالية في عمله، أو حرصهم على تصويب تشاؤمه،
ومعالجة انغماسه في التشوهات الأخلاقية، والرذائل، والفكر العدمي، وتصحيح رؤيته
السوداوية التي تجرّد الحياة من كل معنى أو غاية أو أمل؟ .. هل سنكتشف عدم تسامحهم
فيما يتعلق بالتماسك البنائي، أو وضوح الدلالة، أو انسجام العناصر السردية؟ .. هل
يمكن أن تبدو قراءاتهم النقدية كأنها إعادة نسخ مستمرة لبعضها البعض، ولا أقصد
اللغة، وإنما أسلوب التأويل، وطريقة تحليل العمل الأدبي وفك شفراته؟.
لكن صرخات ولعنات هؤلاء النقاد لا تستهدف الكتّاب "السيئين"
فقط، وإنما تصب غضبها ونقمتها على قرّاء هؤلاء الكتّاب أيضًا .. الجمهور الذي
يُقبل على أعمالهم، ويروّج لها، ويمجّدها بوعي سطحي، وذائقة فاسدة، الأمر الذي
يتماشى منطقيًا في تصورهم مع الانهيار الشامل والتدني العام في كل شي: الثقافة ..
الأخلاق .. البديهيات الإنسانية التي لا ترتبط بمكان وزمان.
لعل الاتهام الأبرز الذي يوجهه هؤلاء النقاد إلى جموع القراء
المساهمين وفقًا لاعتقادهم بدور أصيل في هذه المأساة العظيمة هو عدم الإنصات لهم
.. الانفصال عن المعرفة الأدبية التي قامت بتأسيسها وثتبيتها مشروعاتهم النظرية
والتطبيقية المتعددة .. يؤمن هؤلاء النقاد أن ابتعاد القراء عن كل هذه الأرصدة
التوجيهية، والمرجعيات الإرشادية قد حرم بصائرهم من الاختيارات السليمة، والإدراك
المتيقظ، والانحياز الجمالي الحصيف .. يؤمنون أيضًا أن المأساة تزداد فداحة مع
تحوّل القراء إلى كتّاب مراجعات، تُنشر، وتنتشر، وتفسر، وتشرح، وتعطي آراءًا
وتقييمات، وتقترح، وتفاضل، وتصدر أحكامًا يتوافق معها ويتبناها الكثيرون؛ أي أنهم
باختصار يعطون لأنفسهم بكثير من العبث والمجانية والاستسهال الحق في أن يقوموا بما
ليس جديرًا بأحد في العالم أن يفعله سوى الناقد فحسب.
لكن، هل يوجد بالفعل هذا التنافر بين النقاد والقراء؟ .. هل يمضي كل
من الناقد الغاضب والقارئ اللامبالي في طريقه المعارض للآخر؟ .. هل يختلف حقًا ما
يكتبه هؤلاء النقاد العرب في دراساتهم عما يكتبه القراء العرب في الريفيوهات؟.
(لكن أعتب عليه بشدة طريقته
فى وصف أمه عندما علمت بسقوط أبيه مغشيًا عليه فى ورشته «كان ثدياها الكبيران
اللامعان بماء الغسيل يهتزان بإيقاع متناغم مع هزة فردتى ردفيها» فلا يمكن للصبى
أن يتحدث عن أمه بهذه الطريقة، ولو كنت من أبيه وقرأت هذا الوصف لأعدت كىّ أصابعه
بحرص هذه المرة كى يتأدب).
هذه السطور لم يكتبها أحد القراء في مراجعة له على موقع جودريدز،
وإنما كتبها (الناقد الكبير الدكتور) صلاح فضل في مقاله عن رواية (الحريم) لحمدي
الجزار في جريدة (المصري اليوم)، وتحديدًا في 18 أغسطس 2014. لكنها بالفعل تبدو سطورًا يمكن أن يكتبها أي قارئ. أي قارئ
(أبوي) لا ينظر إلى الجنس سوى بعين الاختزال التقليدي، وبصرف النظر عن أن هذا
الاختزال في حد ذاته لا ينبغي تحريمه أو تجريمه فإن علينا الانتباه إلى هذا الوعي
العام بجذوره الثقافية الصلبة، والذي لا يُفرّق بين الشخص الذي يتم اعتباره ـ بحسب
التصنيف السائد ـ قارئًا عاديًا، وبين الناقد الأكاديمي القدير، أو عالِم اللغة
المخضرم.
(هناك كتابة أدبية يضاف لمنجزاتها قدرتها على فضح الوهم الفاصل بين
"الناقد"، ومن يسمى بـ "القارئ العادي" .. بين رسول كليات
الآداب، المنتفخ بفاشية قيم وأخلاق "السيد أبو العلا البشري"، والمكلف
بإخضاع البشرية للثوابت التي لا صحيح غيرها للسمو والجمال، وبين الشاب الذي يعتبر
نفسه "قارئًا عاديًا"، ولم يخطر في باله وهو يكتب ريفيوهات للكتب على
"جودريدز" أو "أبجد" أن يسمي نفسه "ناقدًا"، رغم
أنه يبحث أيضًا في كل رواية عن "الحكاية"، وعن "المغزى
النبيل"، ويرفض "البذاءة").
أما هذه السطور فمن مقال سابق لي بعنوان "الناقد المخصي"
نشره موقع "الكتابة" الثقافي في 31 أكتوبر 2014، وكان بمثابة نوع من المراقبة الهازئة لأحد النقاد الأكاديميين،
الذي تحوّل إلى "حارس أمن هزلي، بائس لبوابة الكتابة": أنت تعبر .. أنت
لا تعبر.
أستطيع أن أمتد بهذا الخط على استقامته الآن كي أفكر في هذا الخطاب
النقدي المهيمن عبر التاريخ، والذي تقوده (أسماء) لم تمتلك (السلطة) إلا بفضل
الأنساق المعرفية (المؤسسية) التي تكوّنت وتراكمت تدريجيًا من خلال آليات الفرز
والتنميط والإقصاء، ولم يعد لزمنها الخاص تعريفًا إلا بواسطة لامركزيتها، أي
التناسل العشوائي لعلاقات القوة المتشابكة داخل أنظمتها المحكومة بالمفاهيم.
تُشكّل هذه الأنساق إذن منهجًا من القواعد التي تُخضع القراء بصورة عفوية لـ
(بداهتها المطلقة)؛ حيث كل إدانة، أو كل إقرار للصواب أو الخطأ يمارسه القارئ
سيستمد (شرعيته الجمالية) من هذا الوجود المعرفي الذي يمتد طغيانه كغرائز توجيهية
وإرشادية تمثل (الحقيقة). لماذا لا أفكر في أن هذا العمل الأدبي (سيئ) لأن الكاتب
(لم يفعل) كذا أو كذا؟. لماذا لا أكتب أن هذا العمل الأدبي (رديء) لأن الكاتب
(أخطأ) في هذا أو ذاك؟. لماذا لا أصدق أن هذه الاستجابة التلقائية في مقاربة
الأعمال الأدبية حتمية، وصحيحة، ولا تحتمل الشك؟ .. أليس النقاد الذين يدرّسون في
الجامعات، ويصدرون الكتب، وينشرون أبحاثهم ومقالاتهم في الصحف والمجلات يقومون بذلك؟
.. أليس أولئك الذين يمتلكون (العلم) الذي لم نحصل عليه يتحدثون بهذه الطريقة؟.
كيف يمكن للنقد أن يتجنب إصدار الأحكام كما حلم "ميشيل فوكو"؛ أليس هناك
إله وشيطان، طيب وشرير، جنة ونار؟. هذا هو الصوت المشترك بين الناقد والقارئ، أو
بالأحرى الهوية الموحدة لهما، التي تم تشكيل وعيهما ـ التربوي ـ داخلها.
لكن الممارسات التطبيقية ـ بوصفها الأقرب ربما والأكثر تداخلا مع وعي القراء وتدويناتهم ـ ليست وحدها ميدان "الأبوة النقدية" بل تنشط هستيريا هذه السلطة أمام ظواهر وأحداث تمثل تهديدًا أو مجابهة لمرجعياتهم.
لكن الممارسات التطبيقية ـ بوصفها الأقرب ربما والأكثر تداخلا مع وعي القراء وتدويناتهم ـ ليست وحدها ميدان "الأبوة النقدية" بل تنشط هستيريا هذه السلطة أمام ظواهر وأحداث تمثل تهديدًا أو مجابهة لمرجعياتهم.
كان حصول "بوب ديلان" مثلا على جائزة نوبل للآداب عام 2016 من أكثر اللحظات قسوة على هؤلاء النقاد، ومن أكثر المواقف
الكاشفة للجذور الثقافية الصلبة التي تحدثت عنها سابقًا باعتبارها محرّكًا ثابتًا
لهوس الهيمنة المعرفية لديهم؛ فلم يكن من الصعب أن يتم رصد ذلك الناقد الذي بُنيت
سمعته أو قام رصيده في الحياة النقدية على الإدانة، وتوزيع الصواب والخطأ، أو على
إعادة تدوير عقيمة لتراث جسيم من التناسخات الهامدة، وقد تحوّل إلى نفس
"القارئ العادي" الذي طالما هاجم ذائقته، وشجب انحيازاته، ليدخل في سباق
هزلي مع نقاد و"مثقفين" آخرين لاسترداد "القيمة المهدرة" عبر
السخرية "اللزجة" من فوز "مغني" بجائزة نوبل .. كانت فرصة
أيضًا هناك من أراد استغلالها، حتى لو لم يسبق له قراءة بوب ديلان من أجل الحصول
على هذه "القيمة" التي يؤمن تمامًا أنها تنقصه، في حين أن إيمانه بها هو
ما يجبره على محاولة تعويضها بهذه الصورة التعيسة .. ليس النص وحده هو الذي يفضح
إذن الوهم الفاصل بين الناقد، ومن يُسمى بـ "القارئ العادي" بل يمكن
لحدث معين أن يجعل ناقدًا ما يعتبر نفسه أكثر "ثقافة"،
و"علمًا" من شخص آخر أن يتصرف تمامًا، ودون أدنى مغايرة مثلما يتصرف هذا
الشخص الآخر .. أن يُعري هذا الحدث ادعاءاته بكونه مختلفًا .. يمكن لموقف ما أن
يسوق أحد النقاد، وأن يُجبر استجابته على التجسّد بالضبط كأنما يقول: "لن
أقدر أن أراجع، أو أفكر في الانحياز النخبوي الذي يسيطر على أحكامي. لا أستطيع أن
أجادل المبادئ الرجعية، أو أتحدى التصنيفات والتراتبيات الثقافية والأدبية والفنية
الصدئة التي شكّلت ذاكرتي، وحددت وعيي .. لا يمكنني أن أقبل أو أستوعب التحولات
التي قوّضت الأنظمة الطبقية القديمة، المحتقرة لما تم الاعتياد على تسميته بـ
"التفضيلات الجماهيرية" .. المتغيرات التي خلخلت المعايير القيمية
المتعسفة، والتي تتعمّد إقصاء ما يُطلق عليه "الذوق الشعبي" .. ليس
بوسعي أن أتجاوز طغيان المفاهيم لصالح التجاور والتعدد والتشابك وتذويب الحدود
الأزلية المصطنعة .. أريد أن أكون كما أنا، وأن أدافع عن هذا الإيمان، وأن أظل
أحارب من أجله .. أريد أن أستمر في محاولة جعل الآخرين مثلي، وأن أعاقب من يرفض أن
يكون كذلك بأي شكل ممكن .. لا يعنيني أن بوب ديلان شاعر، وأنه مُنح جائزة نوبل
لقصائده .. هو مُغَنٍ فقط .. مجرد مُغَنٍ".
هناك قرّاء عُرف عنهم حبهم لأشعار بوب ديلان؛ إذ كانوا دائمي الإشارة
لسيرته الإبداعية، ونشر الاقتباسات من قصائده على صفحات التواصل الاجتماعي ..
هؤلاء أنفسهم لم يستوعبوا أن بوب ديلان قد فاز بجائزة نوبل .. لم يفهموا لماذا فاز
بهذه الجائزة التي لا تعنيني الآن في حد ذاتها .. لم يتقبلوا فكرة أن يفوز بوب
ديلان بنوبل في مقابل أسماء أخرى ـ أكثر أهمية ـ يتم ترشيحها كل عام ولا تحصل
عليها .. إن ما حدد (الأهمية) لدى هؤلاء القراء ـ ومنهم من ساهم في فقرات السخرية
ضد فوز بوب ديلان ـ هو نفسه ما كرّس للانحياز النخبوي عند هؤلاء النقاد .. أن تحب
بوب ديلان شيء، وأن يفوز بجائزة كان يستحقها "هاروكي موراكامي" أمر آخر
.. يمكن لكل هؤلاء النقاد والقراء أن يستخدموا في هذا الصدد كلمات شائعة أقرب إلى
اللافتات التحذيرية الضخمة سهلة الاستدعاء: المعنى ـ الثقافة ـ العمق، لكن الأمر
لا يتعلق بهذه المفردات التقليدية المائعة بل بالأسباب المتراكمة التي جعلت كلمة
مثل (المعنى) تفقد أهميتها أو تكتسب منزلة أقل حينما نتحدث عن أشعار بوب ديلان ..
بالدوافع المتكاثرة التي أعطت لكلمة "الثقافة" حقيقة حاسمة قررت ـ
كإجراء منطقي ـ وضع بوب ديلان في مكانة أدنى من كاتب آخر .. بالبديهيات المكدسة
التي منحت كلمة (العمق) وظيفة عنصرية، جعلت قصائد "بوب ديلان" بالضرورة
في مستوى أقرب للسطح من أعمال كاتب آخر. .. الأمر يتعلق بمحاكمة ما يسبق الهيمنة،
بتشريح ما قبل (المعرفة)، وتفكيك المسارات التي تكفلت بإنتاج وترسيخ هذه (الأبوة).
هناك زيف هائل ومسيطر وراء ما يُسمى بالفجوة بين الناقد والقارئ ..
أتحدث عن الناقد الغاضب، المروّض، المقدِس لليقينيات الثقافية والأخلاقية
والجمالية، والقارئ اللامبالي، المدجّن، المقدِس لنفس اليقينيات، ودائم التطلع من
وراء لامبالاته نحو هؤلاء النقاد كي يجدد ثقته دائمًا في كونه على صواب مثلهم.