كنا نجلس على طاولة أمام النيل، وبينما كانت طفلتي تحاول مغافلتي
وقطف وردة بعد أن حذرتها من ذلك؛ قلت فجأة لزوجتي ـ ولم يكن هناك بُد سوى هذه الطريقة
المباشرة ـ بأنني أرجوها أن تحرص تمامًا ودون أدنى تهاون على ألا تجعلني أرى شعرة
بيضاء في رأسها .. قلت لها هذا بصراحة مطلقة كأنه اعتراف بأن رؤية ذلك أكثر قسوة
بكثير جدًا عندي من النظر إلى شعري الشائب في المرآة .. أكدت عليها بضرورة أن تطمس
مبكرًا أي بياض على وشك الظهور في شعرها كأولوية قصوى لا تحتمل التخاذل .. كنت
صادقًا تمامًا، وكان الإلحاح في صوتي أقرب إلى التوسّل .. رأيت في عينيها
امتنانًا، وسعادة نادرين .. فرح بدت عاجزة عن تصديقه نتيجة لما ظنته تعبيرًا
متناهي الندرة عن حبي لها .. عن تقديري لها كامرأة جميلة، يمتلك شبابها هذه
الأهمية في حياتي .. أخبرتني بأنها ستحرص على هذا، وعلى وجهها نفس النشوة الرومانسية
القديمة التي كانت تستجيب بها لمواعيدنا السرية قبل خمس وعشرين سنة .. ظللت صامتًا،
وأنا أبعد عينيّ عنها نحو الجانب الآخر من النهر حيث يبدو كأن بيوتًا مهجورة
تتناثر في مدينة لا يسكنها أحد .. أصابتني سعادتها بألم أقوى مما لو كانت قد
استقبلت هذا الرجاء بشكل عادي .. غمٌ ثقيل امتد في داخلي لأنها لا تعلم أن ما
طلبته منها ليس له علاقة بالحب الذي تمنّت نصف عمرها أن تسمع مني كلماته، وأنني في
الحقيقة كنت أتوسّل لها بأن تحميني .. أن تحجب عن عينيّ آثار ضياع عمرها .. ألا
تجعلني أشاهد علامات فقدانها لسنوات حياتها معي التي لن تعيشها ثانية .. رغم كل ما
حدث بيننا ـ وهو ما لم يكن هيّنًا ولا قابلًا أبدًا للنسيان ـ فإنني لا أريد أن
أرى البنت الصغيرة التي أحببتها في طفولتي، وتبادلت معها النظرات والخطابات
واللقاءات السرية، وحاربت معها الجميع كي نكون معًا؛ لا أريد أن أراها وقد أصبحت
امرأة متقدمة في السن .. لا أريد أن أرى قرائن جريمتي .. لا أريدها أن تقول لي دون
صوت: انظر إلى ما فعلته بي .. الشعر الأبيض في رأس زوجتي لن يكون إشارة منطقية
للعمر الذي صارت إليه بل دليلًا على كل الأذى الذي ارتكبته ضدها .. كأنه اكتمال ظهور
العاهة المستديمة التي راكمت جروحها داخل ضحيتي .. حينما تظهر بصمات الموت على جسدي
فإن بوسعي التحديق إليها كشأن خاص، لكنها حينما تظهر على جسد زوجتي فهذا يعني أنني
فقط من قام بحفرها، وليس أي أحد أو شيء آخر .. غفلتها الممتنة تزيد من حزني؛ فأنا
لا أستطيع أن أخبرها بأنني لا أريد تعذيب نفسي برؤيتها تتحوّل تدريجيًا إلى عجوز،
بينما كنت قادرًا على تعذيبها في الماضي حتى لو كان ذلك رغمًا عني .. أفكر في كل
الذين سيسكنون هذه البيوت الخالية، وهل هي مدينة مهجورة بالفعل؛ فأشعر حينئذ بيد
طفلتي فوق كتفي وهي تطلب مني أن أنظر إلى الوردة التي قطفتها.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 18 ديسمبر 2019
من المتوالية القصصية "البصق في البئر" ـ قيد الكتابة.
اللوحة لـ "بيير أوجست رينوار".