بعد أن مات جميع أفراد أسرته بشكل متلاحق، إما فجأة، أو نتيجة أمراض
غريبة، أو كختام لعذابات غير مصدّقة؛ اكتشف في جوف الأريكة القديمة ورقة الطلسم
الذي تسبب في كل ما حدث .. الورقة التي كان قد خبّأها بنفسه.
* * *
كتابة بحبر ثقيل أسود ظهرت بصورة مباغتة على الجدار .. كأنها كانت
تنتظر أن يصبح البيت خاليًا من الأحياء عدا هو .. وقف يقرأ الكلمات القليلة التي
تبدو كأنما كتبها طفل يطارده ضيق الوقت .. كائن يُعرّف نفسه باسم غير مفهوم،
مقترنًا بتخطيط بدائي لسمكة كبيرة، ومدوّن بجواره تاريخ قديم مُحدد باليوم والشهر
والسنة، ثم يقول أن هذا المكان به خريطة مشيرًا بسهم طويل نحو رسم صغير لعظمة
بشرية .. بعد زمن طويل من التطلّع إلى وجهه في المرآة؛ تذكر أن هذا الاسم كان
واحدًا من الأسماء الغريبة المرتجلة التي تعوّد في الماضي أن يطلقها على مخلوقات
مجهولة ظل يخاطبها في دعاباته السرية حينما يكون وحده داخل البيت، وأن السمكة
الكبيرة سبق أن رآها في كابوس تبددت تفاصيله الأخرى كليًا من ذاكرته .. انتبه
أيضًا إلى أن هذا التاريخ الملغز يسبق ميلاد أبويه، ولكنه كان متأكدًا تمامًا أن
ثمة خريطة بالفعل في المكان الذي تم الترميز إليه بعظمة الإنسان .. القبر .. قبره
الخاص الذي فُتح الآن.
* * *
ظل يتنقل بين بيوت أقاربه الذين مازالوا على قيد الحياة بحثًا عن السر
.. يخرج مترنحًا من كل بيت، مثقلًا بحكاية جديدة لا تخدش الغموض، بل على النقيض
تدعم جموده الأزلي الذي قتل أبويه وأشقائه على نحو لا يمكنه استيعابه .. كل حكاية
يحصل عليها تبدو كأنما تخص بشرًا لم يعرفهم من قبل، يسردها الآخرون كذكريات تستحق
الحنين والحسرة، لكنها دائمًا ما تنطوي على صمت يتخلل الكلمات دون تفسير .. صمت
أشبه بالظلام المتعمّد الذي لا يمكن أن تجادله .. ورغم أن جميع الحكايات كانت
تنتمي لماضٍ لم يعشه؛ إلا أن شعورًا بخوف مبهم داخله ظل يتزايد .. كان يدرك أن
الصمت الرابض في كل حكاية هو الشيء الوحيد الذي يتعلق به.
* * *
حمل ألبوم الصور الذي توثق لقطاته القديمة حياة شقيقيه الميتين مع
أصدقاء اختفوا منذ زمن بعيد، ونساء مجهولات في أماكن مختلفة .. راح يدور في شوارع
المدينة بحثًا عن تلك الوجوه، يدخل نفس الأماكن، يسأل عن الأسماء، يُلقي بأطراف
الخيوط أحيانًا بشكل لا يبدو مقصودًا نحو سائقي التاكسي الذين تجاوزت أعمارهم
الخمسين داخل الأحاديث العابرة، وأحيانًا يكشف الصور أمام عيون الغرباء .. كان
الجميع يؤكدون له دائمًا أنهم لا يعرفون أي شيء .. كل ليلة يعود إلى البيت خائبًا
ومنهكًا، وكل ليلة أيضًا يفتح الألبوم ليراقب المحو الغامض والمتزايد للوجوه التي
يبحث عنها .. كان يشعر أنه في صراع غير متكافئ ضد الوقت، ليس نتيجة الطمس التدريجي
للملامح الذي لا يتوقف استنادًا لفشله في العثور على أصحابها، وإنما لأنه اكتشف
بطريقة لا تقبل الشك أن ما بدأ يأخذ موضع الوجوه التي تُمحى داخل الصور كانت
ملامحه.
* * *
لم تحضر أي واحدة من صديقات أخته عزائها .. الصديقات اللاتي كن يأتين
إلى المنزل منذ أربعين سنة، ويجلسن معها في حجرة الصالون، أو تتجوّل معهن بين
المتاجر والفاترينات ثم خرجن من حياتها فجأة .. لا يتذكر عنهن سوى الشعور الطويلة،
والمكياج الثقيل، والهمسات التي خبّأت الماضي بإحكام .. الهمسات التي يسمعها الآن
وهو جالس وحده في الحجرة ذاتها بعد مغادرة الجميع .. لكنها ليست هي نفسها التي
احتفظت بها الجدران، وأرادت أن تعيد تمريرها إلى أذنيه في هذه اللحظة .. كانت
همسات جديدة .. بالرغم من أنها لم تكن مفهومة أيضًا بالنسبة له، إلا أنه كان
متأكدًا من اختلافها عن الماضي .. كان يستطيع تمييز ضحكات مكتومة داخلها .. ضحكات
لا تخص موت أخته، بل ترتبط بالتلصص القديم لأذنيه وراء باب حجرة الصالون .. كانت
ضحكات أقرب لوعيد شخصي.
* * *
كان يعرف أن جميع من كانوا أصدقائه لهم دور فيما حدث .. جميعهم بلا
استثناء .. لكنه لم يطاردهم، بل على العكس ابتعد عنهم تمامًا .. غير أنه لم يفعل
ذلك إلا ليلتقي بهم في المكان والوقت الملائمين له وحده .. ليجمع الذين لا يعرفون
بعضهم، والمتناثرين في أزمنة مختلفة، وكل الذين لن يستطيع إيجادهم .. كان يمكنه أن
يفعل ذلك بسهولة اعتمادًا على ذاكرته الإلهية، والدفاتر والأوراق القديمة التي
دوّن فيها كل ما حرص على حمايته من النسيان .. ذكريات وأسماء وسطور وكلمات متفرقة
وصور .. خلق جحيمًا متنقلًا للجميع .. لكنه كلما انتهى من شرب جرعة كبيرة من
الدماء استمر الشعور البدائي في تأكيد نفسه .. أن العالم لا يزال في مكانه،
والكتابة لا تزال في مكانها .. هكذا يخرج مجددًا رغمًا عنه من البيت ليطارد من
كانوا أصدقائه، راجيًا ألا يعثر عليهم.
* * *
اكتشف متأخرًا جدًا أن جميعهم يعرفون بعضهم .. حتى أن الفوات الفادح
للأوان جعل من "التأخر" وصفًا سخيفًا وغير محتمل بالنسبة له .. كان يمكن
أن تكون الإفاقة على هذا الاكتشاف أقل وحشية لو لم يكن قد أدرك أن هذه المعرفة
التي تشمل الآخرين كافة تقوم على تشابك صلب من الحكايات التي كانت حياته الغافلة
موضوعها الأساسي .. حياته التي وزّع أشلاءها بنفسه مضطرًا على كل من صادفهم ظنًا
منه، ورجاءًا أن يُحسنوا استخدامها .. ألا يمنحوها أرواحًا شريرة من الكوابيس التي
تقتلهم يومًا بعد آخر فتتحوّل إلى أشباح تتسلل إليه من الجروح المتلاحمة في جسده
.. ألا يتواطؤن حول عمائه كي تتزاوج أشباحهم وتتناسل فيصبح بيته المتهالك مأوى
مثاليًا لمرحها الذي لا يقدر على اصطياده .. الآن ليس عليه سوى أن يقضي اللحظات
القليلة المتبقية في محاولة استرداد أشلائه .. أن يكشف عن الروح الشريرة الأصلية
التي كانت تسكنها قبل أن يقوم بتوزيعها على الآخرين .. أن يجعلهم يفيقون على ذلك
الشبح الذي ظل متواريًا كي يضاجع من مخبأه جميع الحكايات التي كان يعلم تمامًا
أنها ستتدفق من الجروح المتلاحمة في أجسادهم.
* * *
كأن كل زائر كان يغرس ضحكة سرية جديدة أثناء جلوسه فوق الأريكة
القديمة منتهزًا عدم الانتباه له قبل أن يخرج من البيت .. كأن كل الضحكات المختلفة
ظلت تتعارف وتتداخل وتوطد أحلامها في جوف الأريكة عبر الزمن دون أن يشعر بها أحد
.. كأنها ظلت تنبعث مجددًا إلى الخارج كهواء ملعون، يقتل تباعًا كل الذين يعيشون
داخل البيت في ثبات عفوي، وأمان محكم .. حتمًا رأى الجميع النهايات المأساوية
المتعاقبة لزياراتهم .. لكن؛ هل سأل أي منهم نفسه ولو مرة واحدة من يكون ذلك الذي
تعمّد أن يترك هذا الشق المخبوء في الأريكة القديمة، والذي غرسوا ضحكاتهم من
خلاله؟.
* * *
كان اللقاء الأول بيننا .. سألني: هل تخشى الظلام؟ .. كذبت: لا ..
سألني: هل تشعر بأن هناك من يتواجد معك حينما تكون بمفردك في البيت؟ .. كذبت: لا
.. سألني: هل تشعر برغبة في إلقاء نفسك من الشرفات والنوافذ العالية؟ .. كذبت: لا
.. سألني: هل تستيقظ أحيانًا قبل لحظة واحدة من الغرق في بحر أو نهر معتم؟ ..
كذبت: لا .. سألني: هل تشعر أن ثمة من دبّر زواج والديك قبل ميلادهما بسنوات
طويلة، وأنه لا يزال على قيد الحياة؟ .. كذبت: لا .. هل تشعر أنه يسكن قبرك منذ
اللحظة الأولى وحتى الآن؟ .. كذبت: لا .. قال: حسنًا .. هذا ما أنا عليه حقيقة،
وكنت أتمنى العثور على أحد يشبهني .. سألته: هل تعرف شيئًا عن الخريطة التي داخل
القبر؟ .. ابتسم متهكمًا كما توقعت ثم اختفى فجأة مثلما يفعل كل مرة أيضًا.
* * *
يعرف أنه أطعم السر بامرأة وطفلة صغيرة حينما أصبحتا زوجته وابنته ..
أنه جعلهما تُقتلان بأكثر الأساليب غرابة، ودون احتمال للفهم .. سيكملان التاريخ
الصامت إذن سواء في وجوده أو بعد فنائه .. لكنه يفكر: لماذا لا تكون المرأة
والطفلة الصغيرة جزءًا من الظلام الذي سبق كل شيء؟ .. لماذا لا تكونان هوّتين
متحالفتين ضمن تاريخ المصائد المحتجبة، وتكملان الحتمية الغامضة حين أتى زمنهما
المؤقت؟ .. يتأمل سكوتهما، نظراتهما المختلسة لبعضهما، ملامحهما التي تتحوّل
كثيرًا إلى قناع مشترك .. بالتأكيد تعرف زوجته وابنته شيئًا .. ماذا يكون غير
تفسير الحكاية القديمة التي لم يتمكن أبدًا من حل لغزها.
* * *
ربما كان واحد من القتلى هو من فعل ذلك .. أحد المعذبين في العائلة هو
الذي كتب ورسم كل شيء قبل نهايته .. ربما
أرادها مذبحة جماعية تشمل انتحاره، أو دعابة مخترعة لم يكن يعرف أنها ستنفجر في
أجسادنا بشكل متواصل، أو أنه كان يجرّب دون حدس بالجحيم المنتظر أن ينقل على
الحائط ما أبصره صدفة في كتاب ما، كأنما امتلك طريقة ممتعة لإراحة الذهن .. لكن أي
كتاب؟ .. ربما كانت رواية لشيطان مجهول، أنهى كتابتها في التاريخ القديم المدوّن
باليوم والشهر والسنة .. ربما كانت تحكي كل ما سيحدث لنا كنبوءة لا سبيل لإبطالها،
ودون أن تسمح لذلك القارئ الجالس وحده في حجرة الصالون أن يدرك بأن مصيره مع أسرته
يتراءى أمام عينيه في تلك اللحظة .. ربما كانت هي الرواية التي أتذكرها أحيانًا.
* * *
في مصادفات متباعدة؛ يقابلني واحد منهم .. يسألني: أين أنت، لماذا لم
نعد نراك، هل أنت بخير؟ .. أرد: أنا دائمًا في البيت، مشغول بالدوران بين الحوائط
والبكاء، أو الجلوس محدقًا إلى الحسرة، وهذا ما يجعلني في أفضل حال .. يقول هذا
الذي كان صديقًا: حسنًا، نحن نعرف ذلك جيدًا؛ فنحن نلتقي كل ليلة في منزل أحدنا،
ثم نتجمّع داخل شرفته لننظر إلى السماء فنراك بوضوح ساطع .. هل هذا يعني أن موتي
ليس انعزاليًا بما فيه الكفاية؟ .. بالتأكيد .. لماذا تكذبون إذن في اللقاءات
النادرة التي بلا موعد، وتسألونني دائمًا عن موضع خطواتي، وسر اختفائي، وإذا كنت
على ما يرام أم لا؟ .. لأننا ببساطة منذورون لخداعك .. ومع ذلك فإن ثمة ما لا
تعرفونه عني .. "يبدأ هذا الواحد منهم في الابتعاد" .. أنتم لا تشاهدون
ما يحدث لي كل ليلة عند النظر إلى السماء، بل إن عيونكم هي التي تفعل كل شيء ..
"يبتعد أكثر فأتحرك وراءه لتمعن المسافة بيننا في التمدد" .. كلما
استمررتم في النظر إلى السماء كل ليلة .. "أضطر للصراخ كي يسمعني بعدما أدركت
أنني لن ألحق به" .. كلما استمر الدوران والبكاء والتحديق إلى الحسرة.
* * *
في ورشة القصة القصيرة يصمت فجأة .. يتملّى في وجوه طلابه .. ما الذي
فعله؟ .. كان يشرح شيئًا ما يتعلق بالتحريفات الصادمة للنسق القصصي، وحينما أراد
استدعاء تطبيقًا له؛ ذكر جزءًا مما حدث لعائلته .. قام بذلك كأنما قاطع حديثه سعال
مفاجئ، احتفظ بعاديته للحظة واحدة قبل أن تسيل الدماء من فمه .. انتبه وهو يتنقل
بين عيونهم المفتوحة عن آخرها باتجاه صمته إلى أن ما تفوّه به الآن، رغم اقتضابه،
سيمنحهم ذاكرته كلها .. أن كل ما سيكتبونه، حتى لو بدا منفصلًا عن ماضيه سيمتلك
وجودًا داخل دفاتره وأوراقه القديمة .. أن ملامحهم التي تحاصر وجومه سوف تجد
أماكنًا لها في صور الماضي، حتى لو لم تتخذ طبيعة ظاهرة .. أدرك أن ما يسيل من فمه
الآن هي دمائهم وقد اختلطت بدماء الجميع.
* * *
ربما كانت هذه بيوتهم التي أمشي فوق سطوحها الصامتة مع الغياب الوشيك
لزرقة السماء .. أتنقل من سطح لآخر بخطوات انسيابية، كأنما تتوالى مربعات رصيف
هائلة تحت قدميّ داخل السكون النقي .. بيوت الذين يعرفون بعضهم .. الصمت الذي يمتد
بلا نهاية حول حكاياتهم المخبوءة عن حياتي .. زرقة السماء الموشكة على الغياب تبدو
كلون نزهة طفولية مختلسة، أرادت إنقاذي من الأرواح الشريرة .. لم يكن طيرانًا،
وإنما سيرًا حقيقيًا أعلى الشوارع الضيقة التي يغطيها الظلام تدريجيًا .. السكون
أشبه باسترداد اللحظات الأولى في العالم .. مازلت أعمى، ولكن يمكنني الآن أن أسترق
النظر إلى الكوابيس دون أن تشعر بي .. أستطيع الآن التجوّل داخل الجروح القديمة
للأشباح .. أمشي فوق السطوح الصامتة للبيوت التي لا يشعر الموتى داخلها بخطواتي ..
لا أرجو في هذا الوقت سوى أن تتجمّد تلك الزرقة السماوية الناعسة.. أن تتوقف عن
الاختفاء التدريجي قبل أن تنفتح السطوح فجأة تحت قدميّ، أو تنفلت خطواتي عبر
الحواف غير الآمنة فأتهاوى إلى الشوارع التي لا يمر منها أحد.
من المتوالية القصصية "أحلام اللعنة العائلية" ـ تصدر قريبًا.
مجلة "عالم الكتاب" ـ ديسمبر 2019