الأربعاء، 8 مارس 2017

قصص قصيرة جدًا

بيت الصياد
ليس لي بيت بعيد .. يمر العابرون أمامه، ويتطلعون برهبة لنوافذه المظلمة ثم يمضون لينسجوا حكايات كثيرة ومختلفة عني، وعن البيت الصامت المظلم البعيد .. لا يتحدثون بخوف كبير عن الشبح الغامض، الذي لا يظهر أبدا، ويحرق كل من يقترب من بيته .. ليس لي بيت بعيد، أمضي الوقت بداخله، جالسا فوق ركام ما، فرحا بعزلتي، وبقدرتي على الخروج ليلا، متنكرا في هيئة طفل أحيانا، وعجوز أحيانا أخرى، والعودة بضحكات كافية لوقت قادم .. ليس لي بيت بعيد .. عندي قارب قديم، أذهب وأعود به إلى البحر .. أحيانا أستضيف أصدقائي بداخله، وأمازحهم قائلا: (مرحبا بكم في السماء).

الغرق 
كنا نجلس صامتين .. نراقب البحر وهو ينظف فمه الواسع بكثير من الأمواج العالية .. كنا شاردين تماما .. لم أقل لكِ: (انظري إلى هذه الطيور) .. لم تقولي لي: (انظر إلى هذه الطيور) .. فعلناها بلا اتفاق، ورفعنا رأسينا إلى أعلى، وراقبناها وهي تحلق عاليا وتبتعد .. حينما غابت .. أخفضنا رأسينا، بلا اتفاق أيضا، وعدنا ننظر ناحية البحر، الذي كان خاليا، إلا من رأسين يختفيان ببطء، بين الأمواج الكثيرة العالية، التي تنظف فم البحر الواسع.

الحفر 
فوق أرض بعيدة، يقف وحيدا .. يتلفت حوله، ويحفر .. بلا خرائط قديمة، تحدد بالضبط أين وكيف يمكن العثور على الأشياء المهمة .. فقط كلما تلفت حوله، ازداد إيمانا بأنه لابد أن يحفر حتى أصبح منهكا تماما، وصارت حفرته عميقة جدا، دون أشياء مهمة، فقرر بأن هناك أمور إيجابية؛ فحفرته على الأقل تصلح كمخبأ، أو مكان للتأمل في الحياة .. يمكنه أيضا أن يستضيف بداخلها أصدقائه الحفارين، الذين سيأتون من أراض بعيدة أخرى .. يمكنه كذلك أن يكتب سطورا كثيرة عن يومياته فى الحفر، وعن لغز عدم العثور على الأشياء المهمة، رغم الاقتناع بضرورة الحفر ..  لكنه لسبب ما، لن يدوّن شيئا عن الأحجار الصغيرة التي تنمو من حوله.

جلد عالق 
أستطيع أن أجزم الآن، بأن انتظاري الطويل، للانفجار القادم من أعمق نقطة في جسدي، لن يلاقي مصير فقاعة .. كل هذا التمهيد اللازم دون شك، عرفني أن البشر حينما يفشل واحد مثلي في تحويلهم إلى خيالات عابرة، يصبحون جديرين بحسده .. البشر الذين يخرجون إلى الشوارع بلا أسباب للدوار أو الرعشة، ودون فكرة عن مقاومة الإغماء، حتى الوصول إلى بيت ما .. عرفت أن الماضي، لا يحتمل تشبيهه بكائن مؤقت، يمكن لابتسامتك أن تلوح له بالوداع، من نافذة قطار مثلا، بل يمكنك تشبيهه بالقطار نفسه، الذي يجرك تحت عجلاته السريعة، تاركا لك كل الفرص للتعبير عن عمائه بما لا يضر علاقتك الوطيدة بالحواف الهوائية، التي تستند عليها في كل عتمة .. عرفت أن ما أنتظره لن يكون انفجارا تقليديا، بل كل ما سيمكن سماعه، صوت انقطاع خيط، كان رفيعا جدا.

حكايات متواطئة
أصدقائي  يخبرونني بحكاياتهم، ولا يتذكر الواحد منهم، أنه أخبرني بحكايته هذه أكثر من مرة من قبل .. أنا كذلك لا أجعله ينتبه .. أصغي إليه متظاهرا أنها المرة الأولى  .. ربما أفعل نفس الشيء أيضا .. أكرر الحكايات لأصدقائي، دون أن أشعر، وربما يتظاهرون أيضا بأنهم لم يستمعوا إليها من قبل .. نعم، إلى هذه الدرجة نعرف أننا غير مثبّتين جيدا في الحياة، كقشور طلاء صغيرة، تتدلى من سقف عال وشاسع .. نعرف أن أشياءنا يلزم أن نتكلم عنها كثيرا،  كي تلتصق بأي ذاكرة، تساعدها على التخلص من تشبّعها الرهيب بالفناء .. أنا وأصدقائي لا نحتاج للانتباه .. نحن نعرف أننا نكرر حكاياتنا، وأننا نتظاهر كي يسمح كل منا للآخر بالخلود، حتى انتهاء زيارة منزلية مثلا .. نحن متواطئون للغاية كحكاياتنا المكررة، المتواطئة في أن أهم ما فيها، ليس موجودا أبدا.

الاستيقاظ في منزل ما 
ماذا لو أحضرت كرسيا أو سلما، كي أصعد لملامسة هذا الجزء من السقف الذي لم ألمسه أبدا؟ .. أيضا، هذا الركن من الردهة، لم أضع يدي فوقه إطلاقا، وتلك الزاوية من الحائط، لم أتحسسها أبدا .. لما لا أفعل ذلك الآن؟ .. لماذا تأخرت في الجلوس فوق هذه المساحة من الأرضية كل هذه السنوات؟! .. كذلك حافة الدولاب العلوية، لم أمر عليها حتى بإصبعي من قبل، والمسند الخشبي للسرير، رغم أنه صغير بدرجة ما، ومع ذلك لابد أنني لم ألمس جميع أجزائه .. حقيقة، من الذي يسكن هنا؟.

الحياة والموت 
وبعد أن عادت العجوز الى بيتها، جلست صامتة .. بعد أن تلفتت كثيرا حولها بدأت تضحك .. بالطبع؛ فهي لا تعرف لماذا فعلت ذلك .. لماذا خرجت مسرعة من البيت، في هذه الساعة المتأخرة من الليل، لتذهب إلى الصيدلية المجاورة، وتطلب من الطبيب أن يقيس لها ضغط الدم؟ .. لا تدري لماذا ظلت عيناها تتحركان فى قلق بين درجات المؤشر وعيني الطبيب .. بالفعل، هي لا تدرى لماذا فعلت ذلك .. لهذا تضحك .. لكنها ستصمت حينما تنتبه إلى أن الرجل والمرأة، اللذين يسكنان فى البيت المقابل ما يزالا مستيقظين، ويتبادلان الحديث .. العجوز ستقرر الآن، الوقوف قليلا في شرفتها.
جريدة (القصة) ـ العدد الخامس ـ مارس 2017