الأحد، 5 مارس 2017

حافة الكوثر‮:‬البوح الذاتي في عناية التهديد‮!‬

إذا كان التهديد كسلطة قدرية هو ما سيحرضنا علي عدم إعطاء الثقة الكاملة فيما هو واقعي أو تخيلي في رواية (حافة الكوثر) لعلي عطا، الصادرة حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية؛ فإنه سيحرضنا بالضرورة علي عدم إعطاء هذه الثقة في تفاصيل جحيمنا الشخصي، الجدير بأن يوصف بأنه يقع علي (حافة الكوثر). ربما هذا هو التعريف الأساسي للتهديد، أو حكمته الجوهرية؛ ليس أن يخضع الوهم والحقيقة كلا منهما للآخر، أو أن ينطوي كلاهما علي الآخر، فيصيرا كينونة واحدة بحيث لا يمكن التمييز بينهما، ولكن قبل أي شيء ألا يكون هناك استقلال حاسم لأي منهما في الأصل، يجعله مضادًا للآخر.
(هذا ما فكرت فيه وأنا أتأمل حالي مع الاكتئاب، فيما كان مدير "الكوثر" يتحدث في برنامج إذاعي، وكنت أسمعه بتركيز شديد وأنا أقود السيارة في طريقي للشغل: "الاكتئاب يا جماعة لا يعني الحزن الظاهر بالضرورة، فقد تجد صاحبك يشاركك الضحك والمرح، وفي اليوم التالي، يردك نبأ أن الاكتئاب دفعه إلي الموت منتحرًا").
> > >
يحضر التهديد بوصفه تغييبًا جذريًا لما يُسمي بالواقع والخيال، اختفاءً للانقطاعات بين الأزمنة، وهو ما يحوّلها إلي ذاكرة مفتوحة لظلام غير قابل للتحديد. من هنا يتم النظر إلي الحياة باعتبارها انتماءً مؤقتًا إلي حافة لا يمكن تسيمتها إلا بهذه الكلمة التي تبدو تهكمية لو توقفنا أمام دلالتها اللغوية: نهر في الجنة .. الخير الكثير في الدنيا والآخرة .. الشراب العذب.
يتجسد هذا التغييب للفصل بين الحقيقة والوهم في محو الفرق بين المقيمين داخل مصحة (الكوثر) للأمراض النفسية والعصبية حيث يعالج (حسين) بطل الرواية من الاكتئاب، والذين يعيشون خارجها؛ فنزلاء المصحة هم نسخ من الآخرين الذين لم يأت دورهم بعد للمرور نحو (الكوثر)، أو كأن الموجودين خارجها هم سكان هذه المصحة بالفعل، لو تكفلت أذهاننا بهدم الجدران العازلة التي تُزيف هذا التباعد، وتقمع حقيقة (الكوثر) كطبيعة مهيمنة، غير محكومة بحدود مكانية.
(أنا غريب هنا، وأصبحت غريبًا هناك. فقدت وطني للأبد. أبي مدفون في المنصورة في المقبرة نفسها التي دُفنت فيها جدتي لأمي، وهي مقبرة صدقة، أوصت أمي بأن تُدفن فيها هي الأخري، ونفذنا الوصية. لعائلة أمي مقابر في القرية التي ولدت فيها، ولعائلة أبي مقبرة في باب النصر، بالقاهرة. أما أنا فتنتظرني مقبرة شيّدتها علي طريق الواحات بالقرب من مدينة السادس من أكتوبر).
> > >
تكشف الرواية عن غرضين مختلفين لعنوانها، لكنهما ينسجمان داخل إطارها العام القائم علي سلطة التهديد: الأول يدفعك لعدم الثقة بأنك تعيش حقًا علي (حافة الكوثر) بل أنك تعيش داخلها حقيقة، وبطريقة ستساعدك هذه السيرة الممزقة لصحفي (وكالة أنباء المحروسة) علي إدراكها. الغرض الآخر هو أنك بالفعل تعيش علي (حافة الكوثر) كمكان له حيز ملموس، ولكنك في الواقع تنتمي إلي هذا الفضاء المغلق، ولهذا عليك ألا تطمئن لوجودك في الخارج، حيث يمكنك في أي لحظة أن تجد نفسك شريكًا للشاعر الذي يفتش عمن يحدثه عما أنجزه في تطوير الشعرية العربية، والشخص الذي لا يكف عن السؤال (هل التدخين ينقض الوضوء؟)، ولإبن ضابط الشرطة الذي مات أبوه وهو في الرابعة من عمره، والصيدلي الذي قتل ابنة شقيقته، ورئيس المحكمة الذي يردد: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وهنحكم بشرع الله"، وعميد كلية الهندسة الذي علي استعداد لتولي منصب رئيس الوزراء بصلاحيات تفوق رئيس الجمهورية ليُبقي علي القاهرة كعاصمة.
تبدو الحياة التي يعيد سردها (حسين) لصديقه (طاهر) من خلال الرسائل كأنها استعراض متحسّر لتاريخ الدوافع المتراكمة لعدم الثقة، حصيلة التهديدات المتعاقبة التي بدأت منذ طفولته في بيت قريب من (المحطة الفرنساوي)، مرورًا بسفر أمه بعد ولادته بأيام قليلة من المنصورة إلي القاهرة وهي تحمله علي يدها بحثًا عن أبيه المختفي، وذهابه مع أبيه إلي الباطنية،واستشهاد خاله في حرب 73، وموت عمه النشال في ريعان الشباب، وموت أبيه ودفنه في مقبرة لا يمتلكها، وموت الأسطي الشاب صعقًا في ورشة العلب الخشبية بعدما ناوله (كصبي يعمل تحت يده) أحد مربعات الخشب، وموت أمه بعد دقائق من عودتها من صرف المعاش، ونجاته من الغرق في نيل جزيرة الورد، وحتي وجوده كزوج عالق بين زوجتين، وأب لإبنة مطلقة، وجد لحفيدة مصابة بالسرطان، وشاهد علي ضياع أحلام ثورة 25 يناير .. سفر .. تنقل .. ملامسة الموت .. تناثر الروح داخل أجساد أخري .. فقدان متواصل .. جروح تنمو كعلامات احتضار .. ضياع الأمنيات لصالح يأس عام.
(وقد تشكل الكتابة هنا حلًا، لكن الكتابة في حد ذاتها عملية شاقة وعسيرة، فقط تذكّر هنا قول صديقنا إبراهيم أصلان: إنني أكتب بجسمي كله، ومع ذلك، لابد من إقامة أكثر من ركيزة للتوازن في عالم لا يني يتأرجح بحدة أحيانًا).
تمثل الشذرات والاقتباسات: (حلمي سالم)، (إيزابيل الليندي)، (بابلو نيرودا) سعيًا لمجابهة التهديد بتشييد عالم من التوترات المضادة تماثل بشكل عدائي خبرة الفقد المتجذرة في حياة (حسين). نوع من المسايرة المعاكسة بتكوين بناء سردي متصدع يعادل التفتت الذاتي بحثًا عن صفقة ما بين العالمين، تبادل مبهم له سمة الصراع بين المعطيات التي يمتلكها كل منهما؛ إذ يمكن للحياة التي أُعيد بعثها سرديًا أن تتحوّل إلي وجود مختلف يمكن للقدر بشكل ما التسامح مع بقائه. (علي عطا) يمرر في كل كلمة، وعبر كافة الفراغات هذا الرهان علي إمكانية الوصول إلي حسم نهائي بواسطة الكتابة لهذه المجابهة، وفي نفس اللحظة يستعيد هذا الرهان ثانية كأنه يذكرنا بأن حكاياته لا تزال منذورة لانعدام الثقة. هنا يمكن تعيين البوح كأكثر المناطق اقترابًا من الأمان، وفي الوقت ذاته أكثرها إستيعابًا بأنها الأقرب لحافة التهديد الفعلي الحاضر والراسخ دون اختلال. أن لها بُعدا منقذا علي مستوي افتراضي، متخيل، كظن جمالي يمتلك مبررات خاصة لعدم الرضوخ إلي الواقع، وأيضًا هو أكثر الأساليب ملاءمة للتعرّف علي وحشية هذا الواقع بمستوياته المتعددة.
(الجنون لا أحبذه لأن شيئًا آخر في أعماقي يدفعني إلي أن أعيش آخر لحظاتي في الحياة واعيًا بما يحدث. أما الانتحار فيبدو أنني لست علي شاكلة أولئك الناس الذين يفضلون الذهاب من قبل إنجاز المهمة. فكما الخذلان أمر بشع، فكذلك التوقف عند منتصف الطريق. علي أن كل هذا الشد والجذب يُولّد متعة ما).
> > >
يستخدم (علي عطا) بطل روايته في اقتحام شخصيات أخري عاشت نفس التهديد بصور أخري مثل (سعاد حسني)، (صلاح جاهين) ليس فقط كشكل من أشكال الدعم، أو للعثور علي خلاص ما من خلال فهم أو معرفة ينتزعها التأمل في الحيوات الأخري، وإنما كمحاولة للعثور علي ما لم تتمكن تلك الشخصيات من اكتشافه حينما كانت تعيش هذا القدر دون قدرة علي التحرر من سطوته قبل الموت.
(في اللحظة ذاتها، بدت لي سعاد حسني في تمام ألقها، وهي تشارك صلاح جاهين الغناء في الكوثر ... "بانو بانو، علي أصلكو بانو"، فضحكت، يا صديقي، كمن وجد أخيرًا تفسيرًا سهل المنال للغز مُحير، فيما كان يمر بجانبي أتوبيس عام يعلن علي جانبيه عن توافر "أحدث جهاز تعويضي للرجال"، لدي مستورد يدعي المهندس أبو طاقية!).
كأن (علي عطا) سيتكفل بإنقاذهم ـ رغم موتهم ـ لو تمكن من إنقاذ بطله عبر توسيع نطاق البحث عن الأدلة ليمتد من حياته إلي ما بعد حدود الآخرين بوصفها(حواف)أو ممرات وليست حواجز مانعة. يضيء السرد هذا التشابه والتلاحم بين القصص المختلفة للآخرين باعتبارهم ذاتا واحدة متعددة التفاصيل، كأنه يحقق كلمات (نيكوس كازانتزاكيس) التي اختارها كتصدير للرواية: (إنها لمعجزة إذن هذه الحياة، كيف تمتزج بها أرواحنا عندما نغوص داخلنا ونعود إلي جذورنا ونصبح شيئًا واحدًا).
جريدة (أخبار الأدب) ـ 3/4/2017