الاثنين، 13 مارس 2017

تشفير غريزة الموت.. التسامي روائيًا

في بداية رواية (ذاكرة عالقة) لـ (حسان أحمد شكاط) الصادرة عن (دار الأوطان) بالجزائر يشاهد الراوي كلبًا ميتًا ملقى على الطريق بعد أن سحقته مركبة مجنونة، وربما مع تعاقب الصفحات لن نفقد الدافع للعودة والتمعن مجددًا في هذا الكلب الميت. الصحفي (هشام الرايس) في مواجهة طيف هلامي مرعب، ينغص عيشته بالظهور والاختفاء فجأة كأن هذا الطيف يواصل تثبيت اليقين لدى الراوي بأنه نسخة من (جريجور سامسا) بطل (كافكا) في رواية (التحوّل)، وأنه ربما قد حان الوقت لكتابة سيرته الذاتية روائيًا مثل (محمد شكري) في (الخبز الحافي) أو أن يكتبها شخص آخر كصديقه (عبد الحفيظ المحواج) مثلا. لن يكون هذا تعويضًا عما اعتبره صديقه فشلا لروايته الأولى فحسب، وإنما محاولة لتحرير الذاكرة العالقة بواسطة الآخر، أي ما يعادل شفاءً مماثلا من المرض الغريب في الطفولة بعد المسح على قبر الولي الصالح (سيدي حمايدة(.
إن ذاكرة الراوي ليست تلك العالقة في الحياة كتهديد وعقاب فيما بين المحو الكامل أو التصالح النهائي بقدر ما هي تلك العالقة في الموت، الذاكرة التي كان ينبغي أن توجد، ولكن لم يُسمح لها بذلك. التي تم قتلها في بدايتها لصالح ذاكرة أخرى، هي التي عاشت وأصبحت الماضي الذي تكوّنت على إثره حياة (هشام الرايس). كأن الراوي هو ذلك الرضيع الذي قتله أبوه (فتحي) العامل في المقهى، والذي اشتغل به (هشام الرايس) بأمر من (أبيه) في عطلة صيفية لكسب مصاريف الدراسة. الرضيع الذي يبكي قاتله بطريقة هستيرية، ويجعله يهوي برأسه على الجدار، ويتجسد في صورة كلب ميت على الطريق كمرآة أصيلة للراوي.
يمثل انتحار (فتحي) قتلا مجازيًا لوالد (هشام الرايس). انتقام عبر وسيط. كأنه حلم يتحقق للراوي كـ (إين) في جسد أب بديل، وهنا يبدو هذا الانتحار كأنه نوع من إعادة ميلاد الرضيع المقتول ليبني ذاكرته التي لم توجد، وبالضرورة تغييب الذاكرة التعذيبية، غير العادلة التي تشكلت أو الماضي العدائي الذي يقود الراوي. أن ينقذ الذاكرة (الحقيقية) المقصية مبكرًا من وضعيتها العالقة في الموت. طريق الوصول إلى الأب المنقذ الغيبي للذاكرة المثالية المقموعة.(أصابني شلل وعلى حين غرة شبت ألسنة من لهب بباب الغرفة. سرعان ماإنتقلت الى كل الزوايا. الجدران والأفرشة وكل الأغراض، تخبطت وصحت وانكمشت على نفسي متقيا ألسنة اللهب التي تكاد تبلغ جسدي النحيل. عاد الهتاف بإسمي. هشام. هشام. لا. لا يافتحي. أنا لا أستحق كل هذا. – لاتحرقني. لا تحرقني. هشام. هشام. هشام. – لم يجئني كلام آخر. عدى الهمس والهتاف بإسمي. أحسست وكأن اللهب يحرق جسدي. تأوهت توجعا وتخبطت كالذبيحة. أيدي خفية سحبتني من رجلاي وإنطلقت بي في سرعة جنونية فإرتطم جسدي بالجدار. وراحت الأيدي تضرب رأسي بعنف، إبتلعتني ألسنة اللهب وطوقتني هالة حمراء. ولم أعد أعي شيئأ مما يدور حولي).
يمكننا مقارنة (فتحي) بوالد الراوي العنيف، مدمن الكحول ثم مدمن المقاهي الذي يموت بسرطان الدم، وفي نفس الوقت يمكن للشيخ (بوزكري) الذين كانوا يدعونه بالمجنون، ويتجول في الشوارع في ساعات الليل المتأخرة ويهتف (أفيقوا يا ناس. أفيقوا قبل فوات الأوان) يمكن له أن يكون الذاكرة ـ التعذيبية التي تنبئ بالذاكرة العالقة في الموت ـ وقد تجسدت مبكرًا، كمصير يدرك ذاته، ويسعى لمراوغة هذا القدر عبر الهتاف التحذيري. الذاكرة التي تنطوي على الحضور البشري (اللغة التي لا يمكن التواصل من خلالها) والتي تقدّم الطفل / الراوي نحوها بعكس المذعورين المبتعدين كي يشاهد نفسه: رضيع محترق. كلب ميت على الطريق. الطفل الذي توزعت ذاته بين العاشق السفاح (يمكن مقارنته بفتحي سواء على مستوى القتل أو الانتحار بالشنق)، وأفراد الأسرة التي قام بإبادتها. إن هذا أشبه بتشفير غريزة الموت في الكتابة، أو التسامي روائيًا عبر توليف سلسلة من القتل والانتحار الأبوي والعائلي ذات الملامح المشتركة، وقبل كل شيء التخلص من الجسد (الذي يمنع عبور الذات إلى المطلق) على نحو يبقي الوعي شاهدًا على ما تم.
موقع (زائد 18) ـ 9 مارس 2017