السبت، 25 مارس 2017

السينما المصرية القديمة: أحلام سكان المريخ بالأبيض والأسود

حينما يستخدم السينمائيون المصريون الأكليشيهات والأنماط التمثيلية القديمة لأفلام الأبيض والأسود في أعمالهم؛ فذلك غالبًا من أجل إنتاج كوميديا تتهكم على المبالغات الخطابية والرومانسية التي ميزت هذه الفترة الطويلة من السينما .. لكن الأمر يتجاوز بالتأكيد الأشكال الأدائية ليمتد مهيمنًا على كل ما له علاقة بصناعة الفيلم: العنوان والسيناريو والحبكة الدرامية والشخصيات والتصوير والإخراج .. يمتد إلى سؤال أظن أن هناك كثيرين فكروا في إجابته ولو مرة واحدة على الأقل: ما هي نوعية المشاهدين الذين كانوا يتفاعلون مع هذه الأفلام ويصدقونها ويتجاوبون معها؟ .. أي متفرج كانت تؤثر فيه هذه القصص الركيكة، والحيل السينمائية الساذجة، والشخصيات النمطية الباهتة التي تملأ كل هذه الأفلام بحوارات وانفعالات تصل في كثير من الأحيان إلى حد البلاهة؟ .. الذي يتساءل مستخدمًا هذه التوصيفات لن تعوزه قطعًا الأمثلة والنماذج التي يمكنه أن يدلل بها على استفهامه، والذي لن يخلو من التعجب والاستنكار: يكفي أن تستعيد أداء ممثلين كـ (زكي رستم) و(عبد الوارث عسر) و(حسين رياض) و(يحيى شاهين) و(شكري سرحان) و(عماد حمدي)، وبالطبع (يوسف وهبي) .. يمكنك أن تستعيد أيضًا من الممثلات: (مديحة يسري)، (فاتن حمامة)، (مريم فخر الدين)، (هند رستم)، (نادية لطفي)، (أمينة رزق)، وبالطبع كذلك (ماجدة) .. كل هؤلاء وغيرهم الكثيرين بالتأكيد، ربما لم يخطر في بالهم ـ حتى وهم في قمة الإيمان بأن معظم أفلامهم خاضعة لشروط السوق التجاري وقتئذ ـ ربما لم يخطر في بالهم أن جانبًا كبيرًا من الخلود الذي ستحققه أفلامهم سيعتمد على توظيفها في البرامج الفكاهية، ومسلسلات السيت الكوم بعد مرور عشرات السنوات عليها!. يسهل القول أن كل شيء في الماضي كان مختلفًا لأقصى درجة: الوعي الفردي، وثقافة المجتمع، والظروف السياسية والاقتصادية ... إلخ .. لكن التساؤل الأهم في تصوري هو لماذا يعطي الاختلاف هذه النتيجة؟ .. ما الذي يجعل الأفلام القديمة تبدو خصوصًا وهي تتناول ما يمكن تسميته بالمآسي الكبرى والفواجع الهائلة تبدو مضحكة إلى هذا الحد بالتوازي مع كونها ذات تأثير سيئ على المرارة؟ .. ما الذي يجعلها في أحسن الأحوال أقرب إلى الكارتون الممل منها إلى الواقع؟ .. ( الواقع ) إذن ربما تكون هي الكلمة الهامة التي يمكننا أن نفكر فيها طويلا .. نفكر في الواقع التالي لنا بنفس الشغف الذي نفكر من خلاله بالواقع الذي سبقنا؛ حيث يمكن بعد سبعين عامًا أو أكثر من الآن أن يجلس شخص آخر ويكتب كتابة كهذه عن أفلام اليوم .. ستبدو سينما اليوم طفولية ـ رغم أن معظمها يبدو لي كذلك الآن ـ لا تنفع سوى للتسلية في أدنى درجاتها إن وجدها أحد مسلية فعلا .. لكن اليوم هناك من يجلس لمشاهدة أفلام الأبيض والأسود من أجل التسلية أيضًا رغم كافة عناصر الفرجة الترفيهية الحديثة التي تملأ حياته عن آخرها .. ليس المشاهد الذي كان يجلس في صالات السينما منذ أكثر من خمسين عامًا مثلا ، ولا يزال وفيًا للأفلام التي تركت أثرًا في وجدانه فحسب، بل أيضًا المشاهد الحديث الذي يرى في مشاهدة الأبيض والأسود استرجاعًا لطفولة غائبة .. ليست طفولته الشخصية، وإنما طفولة العالم حيث كانت الدنيا بالنسبة له لاتزال منعزلة في رفاهية التعتيم عن قسوة المستقبل الذي يعيشه هو الآن كحاضر .. رغم أن الحياة كانت في الماضي لديها قسوتها الخاصة، لكنها بالنسبة له الآن فردوس غير مدرك تكفل السينما القديمة أن يدخله دون التورط فعليًا في شروطه حتى لا يخسره.
ما سبق لا ينفي الآتي: خصوصية المشاهد الحالي الذي يجد في هذه الأفلام تعبيرًا أمينًا عن ذاته، وعن الآخرين بشكل ما .. قد يتجاوز الأمر لديه حدود الرؤية الخاصة التي تجعله يؤمن أن ثمة أشياء ثابتة تتم مقاربتها بأشكال مختلفة وفقًا لأدوات وحساسية كل عصر .. قد يرى أن التفكير الإنساني يعيش دائما حالة من الاكتشاف المتواصل لمدى قدرة أفلام الماضي على مواصلة الانتماء لوجوده الراهن مهما بلغت درجة انفصالها عنه، وأن ما يصل إليه من إلهامات في هذا الشأن هو نتاج جدله الشخصي ليس مع السينما فحسب وإنما مع الحياة نفسها.
على جانب آخر فسينما اليوم يظل احتمال أن ينظر إليها سينمائيو الماضي باستهجان عظيم أكبر من أي احتمال آخر، ولن يكون ذلك مرجعه سوى حصانة القيمة التي يتمسك بها هؤلاء تجاه أعمالهم .. الحصانة التي لابد أن تنزع في تصورهم عن سينما الأجيال اللاحقة باعتبارها نتاج التشوه، وغياب القيم النبيلة التي كان أسلافهم رغم كل شيء يدرسونها للمتفرجين في أفلامهم .. من الجميل الانتباه إلى هذا الفرق المحتمل: التهكم على أفلام الماضي هو تهكم على قناعات سينمائية تبدو قادمة من الفضاء الخارجي لم تعد مقنعة لسكان الأرض!، أما التهكم على أفلام اليوم من فرسان (زمن الفن الجميل) فهو تهكم متحسّر على تخلي البشر عن أحلامهم بأن يكونوا مخلوقات فضائية فعلا !!.
لا يجب بالضرورة أن نتجاهل أيضًا الحرص الثابت في تاريخ السينما على توظيف النزعة الخطابية والبلاغة الرومانسية بأساليب مختلفة على اعتبار أنها الأداة الخالدة التي لا يمكن بواسطة غيرها إكساب الفيلم (حكمته الأخلاقية) أو (توصيل فضيلة ما) للجمهور .. التي لا نعرف من مدى الإيمان بحتمية استهلاكها عبر العصور أنها (أداة التأثير العاطفي المضمون) فحسب، أو أنها الدرع التقليدي لحماية استباقية من الاتهام بأن الفيلم لا يحمل (قيمة إنسانية) فقط .. نعرف من هذا الإيمان أيضًا أنها الكيفية التي تعبّر من خلالها كل جماعة بشرية في زمن معين عن رغبتها في الاستفادة من أزماتها.
هل أصبح الجزء الأعظم من تاريخ السينما المصرية غير قادر سوى على المراهنة على احتياج المشاهد للاندماج المتخيل مع الزمن الذي يسبق وقتيًا خبرته وخبرة مجتمعه؟ .. ليس هذا سؤال السينما المصرية القديمة فحسب وإنما سؤال الفن والإنسان عمومًا، وهو في كافة الأحوال غير قابل للاكتفاء بالحقيقة البسيطة التي تقول بأن السينما تعطي لكل جمهور احتياجاته عبر الزمن .. البشر يحتاجون أيضًا للأساطير الخرافية التي لم يعيشوها، حتى وهم يعاملونها بأقصى درجات السخرية والرفض
.
مجلة (الفوانيس السينمائية) / 9 ـ 3 ـ 2012