الأربعاء، 29 مارس 2017

«رجال التحري المتوحشون» لروبرت بولانيو ... شعراء مغامرون

أن تكتب تاريخاً روائياً لحركة شعرية، فهذا يعني بالضرورة أن تمنح سيرتها حقيقة تتجاوز احتمالات الواقع والخيال. الحقيقة التي سيتكفل السرد بتكوينها تدريجياً، ليس فقط بواسطة الذخيرة المعروفة: الشخصيات والأماكن والأزمنة والأحداث والحوارات والإيقاع والتنظيم الشكلي، وإنما أيضاً بواسطة المحتجب في عتمة التفاصيل، والمتواري داخل الفراغات الذهنية والنفسية للحكايات. فتح روبرت بولانيو (1953 - 2003) في روايته «رجال التحري المتوحشون»، الصادرة حديثاً عن منشورات الجمل، بترجمة رفعت عطفه، باباً كبيراً للتفكير والجدل حول العلاقة بين الحياة والأفكار الجمالية للتمرد. بين الكتابة كمواجهة للعالم، والأجساد التي تتحرك في هذا العالم بتحريض من هواجس ورؤى الكتابة. ماذا عن السلطة (الجماعية) في الأفكار والحياة؟ ما الذي يسيطر على العلاقات المتشابكة، أو يحكم الصراع بين أبطال (عصابة) أدبية، وهم يحاولون تحقيق انتصارات لائقة بما يؤمنون به؟ من الذي يستعمل الآخر: الكتابة أم أجساد الكتّاب؟
(سجلت بعد شهر في ورشة شعر خوليو ثِسَر آلامو، في كلية الفلسفة والآداب، وبهذه الطريقة تعرفت إلى الواقعيين الأحشائيين أو الأحشائيين الواقعيين، بل وحتى الأحشائيين، كما يحبون أن يسموا أنفسهم أحياناً).
في هذا العمل الروائي الضخم (832 صفحة)، والمقسّم إلى ثلاثة أقسام «مكسيكيون ضائعون في المكسيك 1975»، «رجال التحري المتوحشون 1976 - 1996»، «صحارى سونورا 1976»؛ يعطي روبرت بولانيو من خلال يوميات خوان غارثيا مادرو، ما يشبه الإجابة الضمنية أو ما يمكننا أن نسميه موقفه الخاص من هذا الجدل على نحو غير مباشر، فتكوين الحقيقة لدى بولانيو هو عمل مخادع، ساخر، ذلك لأن التاريخ الروائي الذي يكتبه لحركة «الواقعيين الأحشائيين» هو بالأساس شكل من كتابة التاريخ الشخصي لبولانيو نفسه، وهو تاريخ بالضرورة أيضاً يتجاوز احتمالات الواقع والخيال. هذه الذاتية التي ترسم صورة الجماعة الأدبية هي ما تمنحها البُعد الحلمي أو الأسطوري الذي لا يتحقق في الطرق التجريدية الأخرى للكتابة. لقد جعل صاحب «النجم البعيد»، و»تعويذة»، و «ليل تشيلي» للحركة الشعرية إطاراً سردياً ينطوي على شيء أبعد من الأفكار، أو من تجليات هذه الأفكار في كتابات أعضائها، وهو التوتر الهازئ. الدعابة البوليسية الممتدة بين أدمغة الشخصيات عبر جغرافيات وحقب مختلفة، والتي حوّلت أجسادهم إلى عناصر في لعبة أكروبات حكائية.
(كنت أقرأ وكان ينظر إلى السقف أو الجدران أو إلى وجهي، وروحه لم تكن هناك. قرأت له بعد ذلك مختارات من قصائد سالفادور نوبو وحدث الشيء ذاته... دخلت أمه إلى الغرفة ولمست كتفي. لا تتعبي نفسك، يا آنسة، قالت).
ربما يمكننا الشعور أثناء تتبع تلك الخطوات التي تمزج بين الشعر والجنس والصداقة بأن الشغف لا يكمن في التفاعل أو الصدام بين خيوط حبكة محددة وأطرافها، وإنما يأتي من تلك المسافة المبهمة التي يحتلها روبرت بولانيو بين ماضيه، والمشهد الروائي العام الذي يتلاحق بقوة التهكم. لا يسعى بولانيو في «رجال التحري المتوحشون» للدفاع عن قيمة ما، أو لإثبات نوع من التناغم أو الانسجام في رحلة البحث عن الشاعرة المكسيكية ثساريا تيناخيرو، التي تبدو كأنها بالتعبير الميثولوجي (ربَّة شعر) غامضة أكثر من كونها كاتبة مختفية، بل يريد الاحتفال بالمتاهة ذاتها، بالتناسخ بين العالقين في أوهامها، وبالكتابة التي تسخر من الفرضيات والدوافع التي قادت إليها. إذا كان بإمكان أي منا أن يكون «أرتور بلانو» أو «عوليس ليما»، رجلي التحري المتوحشين، بتناقضاتهما؛ فهذا سيعني أيضاً أن لدينا شهادات يمكن توثيقها حول تلك المتاهة، رصد لما حصلنا عليه أو بالأحرى لما فقدناه أثناء التنقل بين مواقع (صحاري) مختلفة بحثاً عن حرية أو إلهام أو ثغرة منقذة، أي أن لدى كل منا قصيدة واحدة على الأقل لم تُكتب، يمكن أن تكون بصمته الوحيدة الحقيقية، أو الأثر الذي يعطي الصيغة الأعمق لغيابه.
(لم أتأخر في معرفة أنه تعلم اللغة المحلية، لغة تلك الأرض التي لا قيمة للحياة فيها، وأنها في الجوهر المفتاح الوحيد - إلى جانب المال - الذي يفيد في كل شيء. غادرت في اليوم التالي إلى مخيمات اللاجئين وحين عدت لم يكن موجوداً، وجدت في الفندق ملاحظة يتمنى لي فيها حظاً سعيداً).
إن الدليل الأكثر قوة للدعابة عند روبرتو بولانيو في «رجال التحري المتوحشون»، هو الارتفاع بنبرة التهكم داخل المساحات التنظيرية والجنسية في الرواية، والتي يتخذ أسلوبها بطريقة ما سمة التساذج المتعمّد، أو على الأقل الحياد المدبّر بغفلة مقصودة، لكن هذا التهكم يبدو كذلك كأنه يضع السر، أو ما يظهر كسرٍ روائي في مكان آخر. إنه ينقل عتمة التفاصيل، والفراغات الذهنية والنفسية التي أشرتُ إليها في البداية إلى حكايات الكتابة عند ذلك الكاتب الذي يقرأ ويراقب ويجمع المعلومات، خصوصاً تلك التي تشكّل هويّات أولئك الذين يحاصرونه من الكتّاب الآخرين داخل ما يسمى بـ(الحياة الثقافية) ثم يختبرهم كخامات يمكن استخدامها في خلق رحلة كونية يحاول أن يكتشف الموت من خلالها، المزحة التي يجب للكاتب ارتكابها كرجل تحرٍ متوحش يطارد ذاته.
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الثلاثاء، 28 مارس/ آذار 2017