الأحد، 9 أكتوبر 2016

جزء من رواية (إثر حادث أليم)

يجلس مساءً أمام التليفزيون .. تتحول الشاشة مع فيلم الأبيض والأسود إلى حقيقة أصيلة لظلام الصالة .. العتمة القديمة التي لا يهددها الضوء الأصفر الحذر للأباجورة المستقرة بجوار الكنبة التي يجلس عليها .. ينظر إلى «إسماعيل ياسين» والخواجة «بيجو»، ويفكر بجدية: كيف يمكن حقا كتابة هذه الكلمة؟ .. منذ ثلاثين سنة يجلس كل مساء أمام التليفزيون داخل ظلام الصالة، ويفكر في هذه المعضلة، رغم أنه ـ بالطبع ـ لا يشاهد «إسماعيل ياسين في مستشفى المجانين» كل يوم .. لكنه الآن ينظر إلى الفيلم، ويُضحكه السؤال المنطقي لـ«عبد الفتاح القصري»: «هى دي تتكتب ولا تترسم يا سي “حسونة”؟» .. ما يضحكه ليس السؤال تحديدًأ، وإنما يعرف أن الكوميديا تكمن في السبب المبهم للخوف المختبئ داخل هذا السؤال..
فجأة يسمع خطوات تدنو من الباب .. يسمع صوت عدم رغبتها في الاقتراب وهي تتقدم نحوه .. الخطوات التي تدنو من الباب كل مساء في مثل هذا الموعد تقريبًا .. يشعر بالتلاحق السريع للدقات القوية في صدره .. كأن القدمين اللتين تقتربان في الخارج تسيران واقعيًا ببطء فوق قلبه .. يسمع صوت الخطوات وهي تتوقف .. المفتاح وهو يدخل في ثقب الباب .. التكة التي تفتحه للأمام .. يشعر اليوم أن الباب يُفتح داخل الفيلم، وليس خارجه، وهو ما يجعل شخصياته تبدو كأنها تتعجل ما سيفعله الآن حتمًا .. أن يمد يده إلى الريموت، ويكتم أفواههم .. أن يفصل وجودهم عن هذه اللحظة التي دخلت فيها زوجته عبر الباب المفتوح .. عن هذا الجزء الخاطف من الثانية الذي تصادمت خلاله عيونهما وهي تحاول تفادي المواجهة .. يشعر أن الممثلين يريدون استكمال أدوارهم داخل تلك العزلة الصامتة، التي تتيح لهم أيضًا التلصص عليهما من داخل الشاشة .. رأى في عيني زوجته البكاء الذي تم تجفيف دموعه منذ زمن قصير .. الذي لا يزال متأججًا دون صوت في روحها وهي تقفل الباب .. الذي ستعاود دموعه التفجّر بعد قليل حينما تغلق على نفسها باب الحجرة، وتلقي جسدها فوق السرير .. وضعت حقيبتها على الطاولة أمامه ثم فتحتها وهي تحاول كتمان الرجفة العنيدة التي تتدفق في أصابعها .. نظر إلى الفراغ الداكن عبر الشق العرضي لحقيبتها كأنه يترقب خروج السكين الذي سيُذبح به مثل بطة منزلية عاشت أطول مما يجب .. أخذت كيسًا بلاستيكيًا أبيض من داخل الحقيبة، ووضعته فوق الطاولة، ثم أخرجت «فلاشة»، وتركتها فوق الكيس .. دون أن تنظر إليه، قالت بنبرة أقرب إلى النحيب المتجمّد، وهي تعيد إغلاق حقيبتها:
«دي الصور إللي كنت عايز تطبعها».
ليس هذا ما كان يجب أن تقوله .. كلاهما يعرف ذلك .. كأنها قررت أن تخبره أولاً بهذه المعلومة الأقل أهمية كي تمنح عذابه وقتًا أطول فتتساوى آلامهما .. كانت تُمهّد كجلاد خبير، يعيش داخل جسد ضحية .. فجأة، نظرت في وجهه كما توقّع .. كأن عدًا تنازليًا لقنبلة متوارية في صوتها يتتابع داخل عينيها:
«جبت التحليل من المعمل .. العدد مليون، ونسبة التشوهات تسعين في المية .. عديت على الدكتور قالي خليه يستمر على “السيلينيوم” و”الجيرميز” ويجيلي بعد 3 شهور».
أخذت حقيبتها ثم تحركت من أمامه نحو الردهة المؤدية إلى حجرة النوم .. كانت العتمة في تلك المسافة القصيرة أكثر ثقلاً من ظلام الصالة لدرجة أن جسد زوجته الذي مر من خلالها بخطوات سريعة منتفضة كان يبدو أنه القطعة الأخيرة التي تنقص هذه العتمة لتكتمل .. أغلقت الباب وراءها قبل أن تضيء نور النيون الأبيض لحجرة النوم .. كأنها تحافظ على عدم خدش الظلام المثالي للردهة حتى النهاية .. تابع غيابها دون أن ينظر مباشرة إلى يساره .. كان يشعر أنها لا تريد أن تخسر تلك العتمة التي تبدو فائضة من يأسها العميق وهي تعبر داخلها.
أخذ الكيس البلاستيكي والفلاشة من فوق الطاولة ثم دخل إلى حجرة المكتب، وأغلق الباب .. أضاء مصباح النيون الأبيض ثم أخرج الصمغ من الدرج، وصعد فوق السرير متأملاً الصور القديمة الملتصقة على الحائط ليحدد ترتيب الصور الجديدة التي ستنضم إليها:
«”كلينت إستوود” في مشهد المبارزة الأخيرة من فيلم “الطيب والشرس والقبيح” .. “وردة” وهي تغني “في يوم وليلة” على المسرح .. غلاف عدد مجلة “ميكي” 10 نوفمبر 1983 .. فرقة المصريين وهم جالسون في نهاية أغنية “ماتحسبوش يا بنات إن الجواز راحة” .. “الخطيب” وهو يحرز هدفه في مرمى “المرسى” التونسي .. “Ana Anguita” وهي تحمل الكتكوت في أغنية “كوكو واوا”.. “محمود مرسي” وبقية الجالسين على السُفرة حول عزومة العشاء في مسلسل “أبو العلا البشري”».
ينزل من فوق السرير، ثم يقف للحظات قصيرة ليطمئن بتمعّن نهائي على التناغم الكلي للصور فوق الحائط بعد إضافة حصيلة اليوم .. يعيد الصمغ إلى درج المكتب ثم يمد يده ليفتح الخزانة التي أسفله، ويخرج حقيبة الأوراق الجلدية السوداء .. يعود إلى السرير ليستند إلى حائط الصور ثم يفتح الحقيبة، ويخرج محتوياتها: «قصاصة من جريدة .. صور فوتوغرافية قديمة .. أوراق فلوسكاب ذات سطور باهتة، وأوراق أخرى منتزعة من مفكرات صغيرة فقدت بياض لونها وتحوّلت إلى الأصفر الخفيف» .. يبدأ مجددًا في تفحص ذاكرة اللغز الذي لا يمكن حلّه.
موقع (الممر)
8 أكتوبر 2016