الأحد، 2 أكتوبر 2016

تقرير بروديك‮: ‬الكتابة‮ ‬في العقل

تمثل رواية "تقرير بروديك" لـ (فيليب كلوديل) الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب (سلسلة الجوائز)، بترجمة بارعة للطفي السيد، وتقديم رفعت سلام، تمثل غنيمة مثالية، تحرّض علي استغلالها في لعبة التناسخ.. لكن هذا الاستغلال لن يتحقق إلا إذا تعاملنا مع الرواية كحلم.. أن نقرأها كوثيقة سردية خلقها خيال (بروديك).. هذا ما سيقودنا بالضرورة للتفكير في أن الضحية (لاندرير) أو (الآخر) الذي قتله أهل القرية هو (بروديك) نفسه، الذي أجبره رجالها علي كتابة تقرير تبريري، يحميهم من الإدانة.
(لكن الآخرين أجبروني: "أنت، أنت تعرف الكتابة، قالوا لي، لقد قمت بدراسات". أجبتهم بأنها كانت دراسات بسيطة للغاية، فضلاً عن أنها دراسات لم تكتمل، ولم تترك في نفسي أثرًا كبيرًا. لم يريدوا معرفة أي شيء. "أنت تعرف كيف تكتب، تعرف الكلمات، وكيف تستخدمها، بل كيف تعبّر هذه الكلمات عن الأشياء. وذلك سيكفي. فنحن لا نستطيع القيام بذلك. سيحدث ارتباك ما، لكنك أنت، ستستطيع، ولذلك سيصدقونك. علاوة علي ذلك، فلديك الآلة).
قتل (لاندرير) أو (الإيرينيه) كما سُميت الواقعة في الرواية، وتعني (الأمر الذي حدث)، هذا القتل ـ وفقًا للحلم ـ يعني حصول (بروديك) علي الموت الذي يدرك تمامًا أنه المصير الذي كان يجب أن يلاقيه في الماضي، واستطاع أن ينجو من حتميته.. داخل البيت الذي احترق بأسرته، وخرج منه طفلاً مشردًا.. داخل معسكر الاعتقال النازي بعد أن تحوّل إلي كلب يمشي علي أربع، ويلتقط الطعام بفمه، خلال الوقت الذي مات فيه المحبوسون معه، الذين رفضوا أن يقوموا بذلك.. قتل (لاندرير) هو وصول (بروديك) ـ المجازي ـ إلي المكان الذي ينتمي إليه.
(في تلك الليلة، لم أنم إلا قليلاً، بل بشكل سيئ. دُرت، دُرت، حول الكازيرسكفير. الكازيرسكفير، بسبب الحرب: لقد أمضيت نحو سنتين طويلتين بعيدًا عن قريتنا. قادوني، كآلاف الناس، لأنه كان لدينا أسماء، وجوه، ومعتقدات لم تكن مثل ما لهؤلاء الآخرين. سجنوني بعيدًا، في مكانٍ لم يكن يمت بصلة للبشر، ولا تسكنه إلا البهائم غير الواعية التي اتخذت مظهر البشر).
ما الذي نتج عن هذا التقمص (الخيالي) لـ (لاندرير) داخل لعبة التناسخ؟.. لقد امتلك (بروديك) شخصية بديلة، موازية، تماثله في عدم الانتماء، وفي نفس الوقت تستقبل القهر إلي نهايته.. القهر الذي يختزنه (بروديك).. لكن قبل ذلك سيفعل (الآخر) ما لم يكن (بروديك) قادرًا علي القيام به.. سيعيد إيجاد أهل القرية ـ الذين ألقوا بـ (بروديك) إلي قوات الاحتلال النازي ـ بواسطة الرسم.. سيكشف أعماقهم، ويعري وجودهم الداخلي، ويضع تاريخهم ماثلاً أمام أعينهم ـ حتي تاريخ (بروديك) نفسه ـ من خلال الصور الشخصية والمناظر الطبيعية التي أنجزها.. الصور التي كانت في حقيقتها مرايا لأرواحهم ولجوهر حياتهم.. لم يكن هذا محتملاً بكل تأكيد، وكان (بروديك) يعرف ذلك جيدًا، وهو الذي ترك (الآخر) يتلقي العقاب اللازم من القتلة.
(ما كان غريبًا بالفعل، هو أننا كنا نتعرف علي الوجوه والأماكن، ولكن ـ مع ذلك ـ لم نكن نستطيع القول إن الرسومات متطابقة تمامًا. كانت ـ إلي حد ما ـ كما لو أنها عبرت بشكل واضح عن الأصداء المألوفة، الانطباعات، الدوي الذي كان يأتي إلي العقل، ليكمل فيه الصورة الشخصية التي كانت مقترحة أمامنا بالضبط).
(كانت الصورة التي كوّنها "لاندرير" حية بهذا الشكل. هي حياتي. لقد واجهني بنفسي، بأوجاعي، بترنحاتي، بتأوهاتي، بتخوفاتي، برغباتي. كنت أري فيها طفولتي المطفأة، وشهوري الطويلة في المعسكر. كنت أري فيها عودتي. كنت أري فيها إيمليا الصامتة. كنت أري فيها كل شيء. إنها مرآة معتمة. ألقت في وجهي بكل ما قد كنت، بكل ما كنت).
لم تقتصراستفادة (بروديك) عند حد خلق (لاندرير) الشخصية المجازية الموازية، ذات الطبيعة الجمالية، التي ترتفع فوق العالم، وتراقب البشر، وتتأمل أسرارهم، وتبعث الحياة من جديد في هيئة صور فضائحية كأنها (كشّافات عجيبة تقود إلي النور الحقائق العميقة للكائنات) كما وصفها (بروديك)، ثم تتلقي العقاب نتيجة لذلك فحسب.. لقد أتاحت (الإيرينيه) لـ (بروديك) أن يكتب التقرير الحقيقي أثناء كتابة تقريره المُكره عنها.. الذاكرة التي ما كان بمقدوره أن يدوّنها في رأسه إلا بواسطة الماضي الذي خضع لفحصه.. إن هذه الكتابة في العقل ـ وهو التعبير الذي أخذه (كلوديل)، لو كانت ذاكرته جيدة، من (الاعترافات) لـ (جان جاك روسو) ـ تشبه بالضبط ـ وهو ما يعتبر العلامة الأبرز للتماثل ـ ما كان يؤديه (لاندرير) نفسه قبل وأثناء رسم الصور:
(كان يقابل شخصًا، لم يكن يعرفه، كان يرفع قبعته، وكان يحني رأسه الضخم التي لم يعد به إلا بضع شعرات نادرة، طويلة جدًا ومجعدة، كان يبتسم، لكنه لم يكن يفتح شفتيه.
ثم، بكل تأكيد، كانت هناك مفكرته السوداء، كل الملاحظات التي كنا نراه يدونها، والتخطيطات، والرسومات. والمحادثة التي كنت قد سمعتها، ذات يوم في السوق ـ بين دورشا وبفملنج وفوجل وهوسرون ـ في النهاية ـ لم أبتدعها! لم تكن هناك إلا هذه السطور الأربعة التي كانت مزعجة! فبأية غاية خربش كل هذا؟ لماذا؟ إلي أين سيقوده هذا؟ أخيرًا عرفنا ذلك. كان 24 أغسطس، وهنا، كانت حقًا بداية نهايته).
كأن (بروديك) و(الآخر) كانا وجهين لمهمة واحدة؛ الشخصية التقليدية لـ (بروديك) المذعنة لسلطة العمدة، وتكتب الواقع كيفما طُلب منها، مخبّئةً أفكارها ومشاعرها الذاتية في ظلام الوعي، والشخصية الجمالية المقابلة له (الآخر) التي تكتب الواقع (ترسمه) كما عاشته حقًا، وتعلنه بشجاعة ساخرة ـ يجب الانتباه إلي المفارقة التهكمية بين مقدمة الشكر علي الاستقبال والضيافة في حديث (لاندرير) لأهل القرية والذي سبق إطلاعهم علي الصور، ووجوههم داخل هذه الصور التي تحكي (الأسرار والآلام والقبح، الأخطاء، والاضطرابات، والسفالات) بكلمات (بروديك).. كأن هذه الازدواجية المستعارة كانت السبيل الوحيد لتحرر (بروديك) من الذاكرة.. تصفية الحساب مع الماضي التي كان يحتاج أن ينهيها أولا ـ دون أن يفقد مسالمته ـ قبل أن يرحل عن ذلك المكان.. عن مسرح الجريمة التي لم يُقتل خلالها (الآخر) بل تلك التي بدأت مع وصوله كطفل مشرّد إلي القرية.
(ربما غادرت التاريخ؟ ربما لم أعد إلا مسافر الخرافة، إن كان الأمر كذلك، فلم تحن ساعة الخرافات؟
تركت الآلة في المنزل. لم أعد بحاجة إليها. الآن أكتب في عقلي. فليس هناك كتاب أكثر حميمية. لن يستطيع أحد قراءة ذلك الكتاب. لن أخبئه. فهو لن يوجد أبدًا).
 تُعد رواية (تقرير بروديك) خطوة فوق أرض كتابية تبدو أثيرة لدي (فيليب كلوديل)، التي يمكن تحديدها في: (جريمة قتل، يكمن في الدوافع والملابسات المبهمة لحدوثها الشرك الرمزي الذي يحوّلها إلي صراع ذهني مع استفهامات وجودية حول الذاكرة واللغة والوعي).. نقابل هذا بوضوح تام في قصته القصيرة (كلمات الموتي) علي سبيل المثال، والتي سبق وترجمها (طلال فيصل)، عن موت الناس أثناء تبادل الثرثرة في القرون الوسطي، وهو بمثابة (مناخ نفسي عام) يقارب الإيحاءات المعتمة للقرية التي تدور أحداث (تقرير بروديك) بين أطرها الغائمة مع اختلاف الزمن.. ربما هذا ما يجعلنا نبصر طوال الوقت عبر صفحات الرواية تلك العبارة لـ (فيليب كلوديل): (تاريخ الإنسانية لم يكن أكثر من عصور وسطي طويلة لم ينجح النور في اختراقها سوي في لحظات قليلة).
أخبار الأدب
01/10/2016