الاثنين، 17 أكتوبر 2016

مفارقات الصمت

توظف (نسرين البخشونجي) في مجموعتها القصصية (تفاصيل) الصادرة عن دار روافد المفارقة اللحظية التي يعتمد عليها القص القصير جدًا في رسم ملامح غائمة للذات، تتوزع عبر المساحات السردية المكثّفة التي تبدو منفصلة ظاهريًا على مستوى الشكل .. المساحات التي تبني صلات جدلية بين أزمنة مختلفة لتنتج زمنًا مجازيًا تتسلل بداخله الأنوثة خارج السياقات المتعددة للقهر.
(سألها والدها ماذا تريد أن يشتري لها في عيد ميلادها الخامس عشر، طلبت أحمر شفاه. فاشترى لها زبدة كاكاو بطعم الفراولة).
كأنها تشيّد داخل الإطار العام للمجموعة ما يشبه (المفارقة الكلية) التي تسعى ـ بواسطة التفاصيل الصغيرة ـ لإنجاز صورة عن العالم كمرآة لهذه الذات التي تتكوّن ملامحها المراوغة داخل القصص .. العالم الذي حوّلها إلى خبرة حية من الرعب.
(رنين متواصل يصم الآذان يعلن عن وقوع حريق. ترتدي أسهل قطعة تستر بها جسدها الذي يرتعش.
"هل سأستخدم الدرج الذي لا هواء فيه أم المصعد رغم التحذير؟"
لا وقت عندها للتفكير، تحمل طفلتها والمفتاح وهاتفها استعدادًا للركض. تفتح باب شقتها فتجده عامل الصيانة واقفًا يبتسم لها.
"لا شيء، نحن فقط نجرب جرس الإنذار").
يتحرك الماضي كدافع جمالي لهذا التكوين؛ إذ تمثل علاقات العزلة مع أحلام هذا الماضي رهانًا للمفاجأة أو الصدمة الناجمة عن النهاية اللامتوقعة، المضادة للخطوات الأولى للسرد كجوهر للمفارقة .. الاختباء يصلح كظل لهذا الماضي .. لكنه ليس الاختباء الكامل، بل الاختباء المراقب، المتلصص، الذي يمنح الحياة للمسافات الضبابية الفاصلة بين الجسد وموته؛ أي أنه طبيعة مغايرة للحضور والمقاومة.
(ظلت ترتدي قناع الصمت في حضرته، وفي غيابه يزلزل صوتها الجدران).
لكن رسم ملامح لا يقتصر على الذات وحسب بل يشتمل أيضًا على العناصر غير البشرية ليس فقط باعتبارها تجسيدات دالة لهذه الذات، ولكن أيضًا بوصفها تحمل وجودًا مستقلاً عنها .. الوجود الذي يحمل تاريخً مشتركًا مع الكائن الذي ينتمي إلى نفس الظلام، ويحاول أن يخلق هذا الوجود بالحواس الممتلئة بالفقد.
(حين قص البستاني فروع الشجرة القريبة من شباك غرفتها، لم يكن يعلم أنها اعتادت الصحو على تغريدات سكانها وأن تلك الأصوات تسعد روحها. ولم يعرف أنها حمّلت كل ورقة فيها أسرار غربتها بينما تهتز مع نسمات الغروب. ولا أنها رأت ملامح وجه أبيها تحتل ملامحها بينما تنظر من خلف الزجاج على شجرة التوت الأحمر في عيد ميلادها الخمسين.
حين قص البستاني الأوراق الخضراء ليحرقها في الليل كي تبتعد الحشرات عنه، ترك بعضًا منها ليحترق أمامها بفعل الشمس على الجدار ذي السلك الشائك).
كأن هذه العناصر وهي تشكل مفارقاتها الخاصة تضع الذات في مواجهة المطلق؛ أي تعيّن نفسها كجسر استعاري يساعد التفاصيل على العبور نحو النطاق الغيبي للعالم الذي يحاصر هذه الذات .. هذا العبور ليس مجرد محاولة للاكتشاف، أو لزرع الاستفهامات داخل الأماكن الصحيحة خارج حدود العزلة، وإنما يعتبر كذلك تعديلاً للماضي يضمنه القص.
(الغرفة شبه معتمة، مستلقية على سريرها. على الجدار أمامها صرصور يترنح بفعل الهواء المنبعث من المكيف.
"يالك من جريء..! تتمشى بدلال على عامود غرفتي"
مازال يتهادى وكأنه سيزيف، لا يكاد يتحرك حتى يرجع لمكانه. وحدها تلاحظ السنتيمتر الذي يتحرك فيه.
الوقت يمر، لا نامت ولا صعد.
حين دخلت أمها عليها أوقدت المصباح. فتحول الصرصور لقطعة علكة ألتصقت بفعل فاعل على الجدار).
إن ما يميز القصص القصيرة جدًا عند (نسرين البخشونجي) هو قدرة الفراغات السردية على تمرير ذلك الصمت الذي يكشف عن تأرجح الذات فوق الحواف المتباينة .. داخل المسارات الضيقة والوعرة للتواطؤ بين الشخصي والعام .. الفراغ الذي يحوّل الماضي إلى فكرة يمكن استجوابها قبل أن تحدث حتى لو كانت متحققة بالفعل .. كأن هذا الصمت هو المجاز الفعلي للمفارقة ليس كبنية قصصية، وإنما كهوية استثنائية للجسد الأنثوي ولعلاقاته ولتاريخه .. هوية تليق بالعزلة، وبالمطر الذي يُنتظر بشغف طفولي، وفي نفس الوقت ينبغي أن تكون هذه الهوية قادرة على تحويل ما وراء الغربة إلى خيال يمكن التفاوض مع تفاصيله .
موقع (زائد 18)
16 أكتوبر 2016