الجمعة، 28 أكتوبر 2016

المبالغة في تبسيط اللعنة

ما الذي أفعله الآن!
إنه فقط ما كانت تقوم به بعض الخيالات المضحكة
بعض الخيالات التي لا تعرفونها
إذ كان ينقصها قليل من المعجزات الصغيرة
لتتحوّل إلى سردية كبرى
يتكفل بحمايتها قطيع مستقبلي.
كان يعوزها شيء من رتابة الموتى
لتتحوّل إلى حكاية هامشية
يتعثّر بتآكل خيوطها
الحفّارون في النسيان.
أنا نفسي كلما اقتربت من ذلك الأورجازم الركيك
الذي يُسمى (نهاية الحياة)
يزيد ارتيابي في أن هذه الخيالات كانت تعيش هنا
داخل هذا الشق المظلم بين جدارين.
ما الذي أفعله الآن!
لأكن دقيقًا
إنه فقط ما كان ينبغي على بعض الخيالات المضحكة أن تقوم به أكثر
بعض الخيالات التي ربتني لسنوات طويلة
داخل قفص البلاغة
حيث تعلمت طبخ الميثولوجيا
بأقل المكونات
مقابل أن أنمو كجثة
لكنني لم أتدرب جيدًا على العمى
فعدت في منتصف الطريق
إلى حفلة المطلق.
الخيالات المضحكة التي كنت أتلصص على رقصاتها
قبل أن تختفي
وعرفت أنها تفضل البقاء داخل هذا الشق
بعد أن جربت الخروج
مرة بعد أخرى
وكانت تتأكد دائمًا أنها لا تصلح لتلك المقامرة.
أعتقد أنني ـ مهما يكن ـ إنسان طيب جدًا
طيب جدًا لدرجة أن بإمكاني تدنيس أي لاهوت
لذا يروق لي ـ دون أدنى شعور بالذنب ـ فضح المجازات السابقة:
الخيالات: الأب (رزق رزق سعيد) .. الأم (نثرية محمد حنفي) .. الإخوة (ماجدة ـ مجدي ـ مدحت).
الشق المظلم: البيت (54 شارع محمد فريد ـ خلف السنترال / المنصورة).
الجداران: الميلاد والموت.
ما الذي أفعله الآن!
إنني فقط أبقى في البيت
مثلما كانوا يبقون
مثلما كان ينبغي أن يبقوا أكثر
بيني وبينكم وأرجو ألا تخبروا أحدًا بهذا
كان الواحد منهم يخرج من الباب
بالضبط كأنه يقول:
(سأترككم لبعض الوقت
فأنا ذاهب لتجبير خاطري)
ثم يعود حاملاً التمثال الحجري الجديد
مطموس الملامح
الذي سقط فوق رأسه اليوم
ويضعه ـ بلا كلمة واحدة ـ داخل مخزن التماثيل الحجرية المطموسة
المختبئ في ضباب سريره
مخزن التماثيل الذي ـ للأسف ـ لم يتحوّل إلى متحف في نهاية الأمر.
(أين ذهب خاطرك المكسور؟)
كان يمكن أن يسأله أحدنا سؤالاً كهذا بقصدٍ متغيّر
وكان يمكنه أحيانًا أن يجيب بانفعالات متباينة:
(لقد اصطاده أحد التائهين
الذي يحتاج لاستراحة فكاهية
بين هاوية وأخرى
وأظن أن بمقدوري استرداده غدًا).
أفكر الآن في كليشيه مُسيء للشعر
مُسيء للتاريخ الموسيقي لسقف الحلق
(أتحسّر على ضياعكم)
لكنه ليس مُسيئًا للخداع
فأنا أحب الحسرة
أعيش على الحسرة
الحسرة هي التي تُبقيني حيًا
الحسرة هي التي تُعطّل موتي
الحسرة هي التي تُهيّجني
الحسرة هي التي تجعلني أستمتع بالجمال
الحسرة هي التي تجعلني أتلذذ بالرعب
الحسرة هي التي تجعلني أفرح بخيبات الأمل
الحسرة هي التي تجعلني أنتظر
الحسرة هي التي تمنعني من قتل الآخرين
الحسرة هي التي تُطمئنني
الحسرة هي التي تحمي بصري
الحسرة هي حكمة الحنين
لأنني لست مجرد نوستالجي آخر
أنا ـ فقط ـ أريد ثمنًا للماضي
الثمن الذي لم تأخذوه قبل تبخّر متعاقب
رغم أرواحكم التي أهلكها الصراخ على نفسها.
حقًا لا أفهم
أو ـ على نحو أصوب ـ لا يمكنني التصديق
كنتم مزيجًا فريدًا من الفضائل المبهرة
لديها مشكلة واحدة فقط تطغى على كافة الأعاجيب:
ما هي الكلمات الأجدر بالتعبير عن الثقة الذاتية في إدراكنا للحقيقة
(نحن نفهم الحياة) أم (نحن نعرف العالم)؟
كيف لم يتم احترام ذلك إذن؟!
منذ سنوات بعيدة
أي أنها أقرب من أن تتوارى خلف حاجز ممكن
كان هناك طفل
يتصوّر أن للكون قلب ضعيف لا يتحمّل
وقد ينتظر ذروة مبهمة
حتى يوقف الكوميديا
التي تمادت ربما دون توقع.
كان يتصوّر أن ثمة خطوة غامضة
هنا أو في مكان ما
لابد أنها عندما تتجاوز الحد المسموح به للخطأ
ستجبر الزمن على استخدام المكابح
استجابة لخروج الحياة
عن الفكرة الرومانتيكية
وأن الغيب ـ عندئذ ـ سيتخلص مع فرقعة إصبعين
داخل الفضاء المعتم
من ذاكرته البريئة
ليعيد ـ كنوع من الاعتذار ـ إنتاج القدر
بما يسمح للخيالات ألا تكون مضحكة
وألا تعيش في هذا البيت
وألا تظل عالقة بين الميلاد والموت.
كان يظن ـ لأنه طفل على أي حال ـ أنها ستتحوّل إلى ملائكة أسعد حظًا
من مخلوقات النور المجنّحة
التي لم تجرّب السحر البشري
حيث سيكون بوسعها أن تستعمل للأبد ما كانت تمتلكه
حينما كانت مجرد خيالات مضحكة
لكن دون هاجس عابر عن الثقوب.
طوال الطريق ـ الذي لم ينته بعد ـ نحو السعادة الكاملة
ظل الاستعراض متفاخرًا
تحت فراغ أزلي
مغلق بالوعود
والطفل يتلصص على الرقصات
بعيونه غير المرئية
التي تطير بحواف مسنونة تحت الجلد
لتكوّن شقوقًا وفجوات
تشبه ظلالاً لغابة مجهولة
حيث تتناثر الأصوات التي ترعى النار
فيكبر الطفل مع التصاعد التراجيدي
وتتلاشى الخيالات المضحكة تباعًا
دون أن تخرج خرافة من السماء
على شكل يد مثلاً
كمصافحة ختامية
يمكن تفسيرها علامة للأمان.
كان كل وداع يبدو
كجفاف بصقة
قُذفت دون انتباه في البحر
وظلت تطفو لثوانٍ قليلة
ستُسمى عُمرًا.
البصاق الذي يشبه الدموع
والبحر الذي يشبه احتمال
لن يمكنك أن تجبره على النظر في عينيك
والثواني التي تشبه دعابة رديئة.
أكثر ما يُعذبني حقًا
أنني أتكاسل دائمًا عن وضع الكاميرا أمامي وأنا جالس يوميًا هنا
حيث رأسي التي تماثل مُسجّلاً بزر إيقاف معطل
تعيد طوال الوقت
أصواتكم المتحاربة دفاعًا عن الأساطير
التي خُلقت وأنتم نائمون في العدم
ربما ليس الكسل
وإنما النسيان
ربما لا أمتلك الشجاعة لتصوير نفسي وأنا جالس يوميًا هنا
كمصاب بإعاقة خفية
تدفعني للبكاء كلما أردت الضحك
أمام اليقين الغاضب الذي كان يضاجعكم في الداخل
الفقاعات المقدسة التي تتدافع من أفواهكم البركانية
المتجذرة في عقلي
حيث يجذبني من ضربات قلبي إيمانكم بالعتمة
محافظًا على شبقه القديم
ويسحبني بين الأثاث
ثم يلقيني من الشرفة.
لا أستطيع توثّيق هذا الاستمناء
حتى أشاهده بعد ذلك كمتفرج خجول
يخشى الصفعات التي لم تنجح في قطع يده.
سأكون كاذبًا لو قلت أنني أقصد الكتابة عن البقاء في البيت
أي عن ضرورة الجلوس وحيدًا في ظلام شق مختلف
ربما أقصد التركيز على تشابك الذرعين فوق الصدر
الذي ترتجف وراءه الغيوم
أثناء الجلوس داخل نفس الشق
لأنه يتمدد كلما تحركت من بيت لآخر
كأن الغيوم التي وراء صدري
هي بؤرة ظلامه.
ربما أقصد أن الخيالات المضحكة مازالت تعيش هنا
وتحتجزني حتى هذه اللحظة
وأنني مازلت أتلصص على رقصاتها
دون احتياج لذاكرة
حيث جسدي هو سرديتهم الكبرى
التي لن يحميها البقاء في البيت كثيرًا
جسدي هو حكايتهم الهامشية
التي لن يتعثّر ضوء ما بظلامها.
ربما أقصد الصمت.