الجمعة، 21 أكتوبر 2016

الرغبة في «خمر المسا.. حليب النهار»

الرغبة في قصائد (خمر المسا.. حليب النهار) لحمدي زيدان ليست مجرد احتياج شخصي مستقل في مواجهة خلل ما تفرضه شروط العالم كقدر مراوغ.. هي بالأساس سؤال غير محكوم عن النقص والكمال تتوالد فرضياته باستمرار كشظايا متناثرة تتوزع بين الذات باعتبارها الفاعل الرئيسي في المغامرة الشعرية وبين الأشياء التي تحتضن هذه الذات وتحاصرها في الوقت نفسه.. على هذا ستتوقف العلاقة عن أن تكون (تواصلية) أو (تصادمية) فحسب بين الوعاء الحي للرغبة وبين ما يلزمه لتنفيذ قراراتها من أدوات الدنيا التي تخصه.. الشعر يراهن هنا على كشف أوجه محتملة للاندماج الملتبس بين الذات والأشياء والذي يحوّل العالم إلى فضاء سوقي مدوّخ من الألغاز المتكاثرة.. هناك تعرية ما ينبغي أن تتم وتجريد ضروري للرغبة من أي ملامح ثابتة ومستقرة أو حدود تفصلها عن أسئلة الوجود الأخرى الممكنة لصالح تأمل لعبة باطنية غير معقولة من الهدم والبناء المتواصل والمحتفظة دائما بقدرتها على الإدهاش
الست فرنسا
إللي بتلم شمع الكنيسة، عشان تسيّحه في بيتها، عشان تبيعه تاني لنفس الكنيسة
جارتنا المسيحية
عرفت ده لوحدي وأنا صغير، من الصليب القش الأسود الكبير إللي كان على صدر فستانها الإسود القصير، وشعرها الفضي لون الشمع السايح
جارتنا الخرسا
صرخت لما الشمع المغلي اتكبّ عليها
صرخت.. وما حدش حس بيها
زي رغبتي المغلية في قلبي القش  
الأمر لا يحتاج في نص (رغبة بيضا) أكثر من استدعاء متخيل ذهني يفترض تحول الواقع لحشد هائل ومتلاصق من المرايا المتقابلة والمتجاورة.. المرايا التي يمكن لأي أحد أن يتعرف من خلالها على تجسيدات مختلفة ومتعددة لهزيمته.. الرغبة هنا المسكوت عن ماهيتها عمدا في ارتباطها التلقائي الواثق برغبة الجارة المسيحية إلى أين تريد أن تذهب كدلالة واردة؟.. ربما إلى احتياج الجرح الشخصي للتوحد مع جروح الآخرين كي يدعم علاقته بنفسه وفقا لخبرة إنسانية تتجاوز الشخصنة إلى الأرق بالرغبة نفسها وبهزائمها كإشكالية كونية وبالتالي ليتمكن هذا الجرح من إنتاج سيرته الشعرية الخاصة.. الرغبة التي تم تغييبها ثم أشير إليها في نهاية النص تريدنا أن نعود لنستلهم ما فوق المحكي عنه ونتفحص التفاصيل المأساوية للجارة المسيحية بناء على مأساة أخرى مختبئة في خلفية هذا الواقع.. خلفية تخص الراوي الذي يرصد أزمتة الذاتية أثناء رصده لأزمة هذه الجارة التي لم تعد وحدها الخرساء ولم تعد وحدها التي صرخت حين انسكب الشمع المغلي عليها ولم تعد وحدها التي لم يشعر بها أحد.. هناك من عاش كل هذا الألم بطرق وأشكال مختلفة وعلى هذا لم يعد الراوي مجرد أنا منفصلة تتعاطف أو تشفق على آخر بسبب معاناة لا تخصها بل تحول إلى أن يكون هو الجارة المسيحية نفسها وأيضا تحول إلى أن يكون كل كائن أخرس انسكب الشمع عليه ولم يسمع صرخاته أحد.. بالضرورة أيضا تحوّل إلى السؤال الذي لم يعرف أبدا إجابة حاسمة عن معنى الرغبة وحكمتها الماورائية وعن الخيانة الكامنة بداخلها رغم كونها (رغبة بيضاء) مسالمة وطيبة.. الرغبة التي تجعل من أشياء العالم أسبابً للإخفاق وهي التي تشجعنا طوال الوقت وتحفزنا على أن نعتبرها أسبابً للخلاص.
هناك خيط دلالي آخر يمكن تتبعه وهو الذي يبدأ بـ (الصليب القش) وينتهي بـ (قلبي القش).. ربما لدينا صليبين بالفعل.. صليب حقيقي على صدر فستان الجارة المسيحية وصليب مجازي يرمز إليه قلب الراوي وبما أنه على كل صليب ثمة إنسان يواجه عذابً ما ينتهي بقتله فهناك إذن سياق منسوج بعناية يسعى لاحتواء كافة قلوب البشر أو بالأحرى صلبانهم التي تموت عليها أحلامهم في السعادة.
في نص فرفرة عبور آخر داخل عمق الرغبة وعلاقتها بخيانة الأشياء الحميمة للذات حيث نقرأ:
عارفين سكرة الموت؟
طبعا دي غير سكرة ينّي!
فجأة كده قلبك ينقبض
زي وردة حمرا وقعت في خلاط أسمنت
وإيد كبيرة جامدة ملهاش قلب بتعصره  
وصف سكرة الموت بهذا الشكل لا يمثل سوى عتبة حين نتجاوزها سنتعرف على المشارك الآخر في هذه السكرة وهو المكان:
وعنيك تتشعبط في كل حاجة في الأوضة
الحيطان، الصور، النجف، اللمض السهاري
الشبابيك إللي اختفت فجأة من المشهد
الكراسي إللي بتنام على روحها من التعب
الترابيزة إللي خططت معاك كل مؤامراتك ضد الموت
دلوقت قاعدة بتكب حزنها على صدرها
وبتخبي وشها زي مجرم على وشك الاعتراف 
عناصر وتفاصيل الحجرة والتي ليست في الواقع مجرد موجودات جامدة وإنما تكوينات حية تحمل روح الراوي نفسه وذاكرته السرية الحميمة والتي كانت تشاركه عزلته وتمنحه الأمان والدعم بل وتتواطء وتتحالف معه في مواجهة الموت هي نفسها في لحظة الموت الحقيقية التي تتخلى عنه وتتركه يحتضر وحده دون أي حماية أو مساندة.. أشياء الحجرة التي كنت مطئمنا إليها لم تكن شريكة في العزلة وإنما شريكة في مؤامرة الموت المدبرة ضدك بإتقان.. الأشياء التي كنت مضطرا لاعتبارها وسيلتك لتحقيق الأمان والانتصار على الموت هي نفسها التي كانت وسيلة الموت في الاستمتاع بقلبك.
أين تكمن الخيانة بالتحديد إذن؟.. في الرغبة نفسها مهما كانت باعتبارها تسعى وراء أوهام استثنائية أو معجزات خارقة لن يمكنها بأي حال من الأحوال أن تتحقق في الحياة؟.. في العالم نفسه باعتباره من زرع بداخل كل منا اليقين الذي يتنامى مع استمرارنا في العيش بأن الدنيا قادرة على تحقيق رغباتنا أيا كانت بواسطة الأشياء التي تصادف أنها أُعطيت لنا وسُمح أن نجربها فأصبحنا مضطرين للتشبث بها كي تنقذنا: (الحيطان ـ الصور ـ النجف ـ اللمض السهاري ـ الشبابيك ـ الكراسي ـ الترابيزة)؟.. أم أن الأمر ليس أكثر من معادلة منضبطة ومحكمة بمنتهى البراعة تتسق فيها الرغبات المستحيلة والمخادعة بخبث والمزروعة بداخلنا عمدا كسرطانات عليها أن تلتهمنا بسرعات متفاوتة طوال الحياة وبين العالم الذي يجبرنا على التورط المتواصل في الفوضى الشرسة المعقدة بنظام لا يختل والمشكّلة بقوانين وألعاب وحيل متشابكة تغرينا دائما ورغما عنا بالاستسلام لها كي نحصل على النجاة؟.. النجاة التي نحصل بدلا منها على سكرة موت لا تشبه سكرة ينّي!.
كل شيء أنكرك
وكأنها خطة مدبرة ضدك
كل شيء ما بقاش بتاعك أو يهمه إللي بيحصلك
لإنك دلوقت بتموت
وكل الحاجات دي نفسها تعيش  
هل كانت الأشياء بالفعل تكوينات حية تحمل روحك وذاكرتك السرية الحميمة؟.. هل كانت صادقة معك حقا ثم انتصرت في النهاية لانفلاتها وتحررها تحت وطأة تأثيرات غير مدركة؟.. هل كانت تزيف لك الواقع بقصد حتى تظل مسجونا في غفلة لا تنتهي إلا بصدمة قاسية تفضح نواياها الأصلية تجاهك؟.. أم أنك أنت الذي كنت مجبرا على تصورها هكذا بينما هي في حقيقة الأمر مجرد موجودات جامدة تحمل أرواحها الخاصة المستقلة التي لا يعنيها خيالاتك وتوهماتك الشخصية تجاهها بل كل ما يلزمها هو تحقيق خلودها المنفصل عن فناءك الحتمي؟.. سكرة الموت هي مواجهة صريحة ومباشرة مع هذه المتاهة العنيفة والحادة حيث لن يمكنك أن تعرف أبدا لماذا لا يوجد شيء ينتمي إليك بشكل حقيقي ويضمن لك الحماية الكاملة من الأذى أو على الأقل يتدخل لإنقاذك في اللحظة المناسبة من الموت.. أي نوع من الموت.
في نص (دبلانة من غير كاس) نقرأ:
قفلت وراها الباب
وعلقّت السهر ع الشيش
وقعدت تلعب بشوية المشاعر إللي لسه مدبلتش
اكرهك.. باحبك
شفايفها المليانين نشفوا
من كتر السكات؟
من قلة البوس؟
ولا من خوفها لو إتنهدت تخرج الذكرى من صدرها؟
ثمة طقس يتم تهيئته لتحقق الوحدة وجودها المؤسس على مشاعر مهزومة ومكبوتة لم يعد يسمح الحرمان لها سوى باللهو المتوحد بلغة العاطفة التقليدية كنوع من الاستحضار المؤلم لقصة حب من الماضي لم تعد أكثر من مجرد ذكرى في الصدر.. تشتغل الرغبة هنا على مستويين متوازيين فبينما يتم تشييد عالم حسي متخيل ومنحه لغته الواقعية لإكسابه شرطا هاما يدعم تثبيته داخل الوحدة باعتبارها حاضرا راسخا يحاصر المحكي عنها يوجد أيضا اعتناء بالماضي وحرص على بقائه ووجوده في نسيج هذا الحاضر ربما لكونه الواقع الحقيقي السابق والذي يمكنه رغم غيابه أن يدعم العالم المتخيل داخل الوحدة ومنحه حضورا أكثر قوة وثبات.
ينبغي الالتفات في هذا المقطع أيضا للعلاقة اللغوية المتجانسة بين {باكرهك.. باحبك) و(تخرج الذكرى من صدرها).. عن ماذا نتحدث هنا؟.. نتحدث عن مشهد صغير قريب ومباشر مكوّن من إشارات لغوية مكثفة جدا كوخزات حادة مهمتها أن تجعل الحكاية الأساسية المتوارية التي تقف وراء النص تنبعث بهدوء تدريجي داخلك.. الذكرى هي حدث الماضي الذي حين يخاف أحد أن يخرج من صدره مع التنهد فهو إذن الذي يستحق أن نتمسك برعايته في أعماقنا.. (باكرهك.. باحبك) تمثلان الخطاب القادم من القاموس الأزلي المعتاد لوصف وتقييم شعورنا بأنفسنا وبالآخر.. إندماج دلالات الإشارات اللغوية الكامنة في النص يكشف عن علاقة بين المحكي عنها وآخر غائب حينما انتهت تحولت لذكرى لا يمكن مفارقتها وحينما انتهت أيضا لم تعد هناك حياة.. لم يعد هناك كلام ولا قبلات.. لم يعد هناك سوى شفاه جافة
وتتخيل حريقة كبيرة بتتفسح ف لحم البيوت
قلوب مشوية، جوابات قديمة بتطيّر سطورها في
سرب مع الدخان، غناوي ساحت ع الشفايف
أنا باستناااااااااااااااااااااااااك أنا..
وتنبّت الزهور الزرقا إللي في المخدة فوق راسها
بشكل مخيف  
ذات لحظة ما يمكنك عبر جحيمك الشخصي أن تكشف عن جحيم العالم فلا ترى الحريق الذي في بيتك فحسب بل ترى الحريق الذي في كل البيوت.. لا تشعر بقلبك المشوي فقط بل بكل القلوب المشوية.. لا ترى سطور جواباتك القديمة تطير مع دخان الحريق الذي ببيتك فحسب بل ترى سطور كل جوابات الآخرين القديمة التي تطير مع دخان الحريق الذي بكل بيت.. لا تشعر بالأغنيات التي ساحت على شفتيك أنت فقط بل بالأغنيات التي ساحت على كل الشفاه.. لست وحدك بالضرورة الذي تنتظر أحدا ما وتردد من أجله (أنا باستنااااااااااااااك أنا).. ذات لحظة ما وأنت تكشف عن جحيم العالم عبر جحيمك الشخصي سيتحول السرير الذي تنكمش فوقه إلى قبر وتتحول زهور المخدة الزرقاء إلى زهور مقابر وبالطبع أنت إلى ميت
أتصور أن نص (قصايد للجيب) يمثل بامتياز شهادة جمالية عن الشعر وعن الكتابة والفن بشكل عام:
باحلم بقصايد من نشارة الخشب وبرادة الحديد وزناخة الشواطيء
قصايد مفتوحة لأرواح القطط الميتة ولشجن كلاب السكك
وموثقة بتل من صور عائلية قديمة لأشخاص معرفهاش
وجوابات متقطعة ومترقعة ببقع ميكروكروم
وشريط كاسيت سافف لأغنية جت ع الجرح
وإزازة نبيت تابت
وفردة جزمة ميري ع المعاش
وكسرة مراية محروقة أو مغمضة
حتة قلم رصاص مقصوف وميت على صدر ورقة شجر
تذكرتين سينما ممسوحين من العرق
كروت دومينو تايهة عن لعبة ناقصة
أوتوجراف دوبلير
فردة كاوتش نايمة ع الطريق السريع
قصايد للجيب ومربوطة بحجر تقيل عشان تسقط في القلب
يجب أن أشير أولا إلى أن الفراغ الصغير الذي تركه (حمدي زيدان) في النص بين جملة (فردة كاوتش نايمة ع الطريق السريع) وبين جملة النهاية (قصايد للجيب ومربوطة بحجر تقيل عشان تسقط في القلب) هذا الفراغ مهمته في ظني أن يخبرك بأن هناك المزيد والمزيد الذي لا آخر له من هذه الأشياء المشابهة التي تشترك في نفس المعنى وعلى هذا الفراغ أن يخبرك أيضا بالضرورة أنه متروك من أجلك كقاريء كي تكتب فيه الأشياء التي تخصك وتحمل نفس الهاجس.. هاجس الخلود الآمن والمتوهج الذي تسعى الكتابة دائما لأن تعطيه لكل ما هو مفتت وملوث وميت وحزين وضال ومنسي وممزق ومجروح ومعطل ويائس ومكسور ومحروق وممحو وتائه وناقص وفارغ ومهمل ومقصي.. لعنة هائلة يريد الشعر أن يحتفل بكل من تورط فيها ويريد دائما أن يُبقى هذا الاحتفال مرافقا لكل إنسان كشيء صغير وبسيط يسهل حمله في أي وقت وفي أي مكان.. الشعر يريد بشكل أساسي أن يثبّت هذا الاحتفال في أعماق (القلب).. قلب كل إنسان أو كل غيب أو كل قدر أو كل زمن.. يريد تثبيته في قلب الكون نفسه ويفترض بالتالي ألا يتوقف أي منا عن التساؤل: أي حجر ثقيل يصلح لذلك؟.
كل نص في "خمر المسا.. حليب النهار" يستحق في تصوري قراءته الخاصة وفي نفس الوقت ثمة إطار كثيف تتوالد سطوته بسخاء ولا يمكن العبور فوقه دون تشريح وتمعن ويمثل بنية خفية ترتبط بها قصائد الكتاب وأقصد هنا جدل الرغبة باعتباره مركزا غير ثابت يحتمل ويستوعب جميع الاحتمالات المتشعبة اللامنتهية عن النقص والكمال وقد اخترت بناء على قناعة شخصية أجمل النصوص التي تتحقق فيها آليات ومدلولات هذا الجدل.
مجلة (الكلمة)
العدد 34 / أكتوبر 2009