السبت، 17 مايو 2025

لماذا قَتَل اللص (خطأً) مرتين؟ … عن القصد الخفي لانتقام سعيد مهران / مجلة “الناقد” ـ العدد السادس / أبريل 2025

تقوم هذه الدراسة على سؤال أساسي: لماذا جعل نجيب محفوظ رصاصات سعيد مهران تقتل (للمرة الثانية) شخصًا “غير مقصود”؟ …

إذا كان على سعيد مهران واتساقًا مع قصة محمود أمين سليمان “سفاح الاسكندرية” التي استلهم منها نجيب محفوظ روايته “اللص والكلاب”؛ إذا كان عليه أن يتحوّل إلى قاتل، وهو ما حدث بالفعل حين قتل شعبان حسين العامل بمحل الخردوات بشارع محمد علي والذي سكنت أسرته شقة المستهدفين بالانتقام: عليش سدرة وزوجته نبوية بعد مغادرتهما؛ فإن تكرار “القتل الخاطئ” الذي قام به سعيد مهران حين أراد الانتقام من الصحفي رؤوف علوان فأنهى حياة بواب قصره يمثل ما هو أبعد من “القتل الخطأ” خاصة حين نعرف أن محمود أمين سليمان أو “السفاح الأصلي” لم يقتل سوى مرة واحدة فقط، دون قصد، وضحيته كان أحد البوابين كما تذكر الوثائق الخاصة بالقضية. يتعلق الأمر بأن رصاصات سعيد مهران لم تكن طائشة كليًا، وأنها كانت تضمر قصدًا خفيًا للقتل “العام” وليس شخصًا معيّنًا فحسب.

“اقترب من الباب حتى كاد يلتصق به، وصوب مسدسه إلى الداخل، وانتظر بقلب خافق وعين غائصة في ظلمة الردهة. وترامى صوت يصيح “من؟”. صوت رجل، صوت عليش سدرة، ميّزه رغم نبض الصدغ الدوّي. وفُتح باب في الناحية اليسرى فخرج منه ضوء خفيف، ثم لاح شبح رجل يتقدم في حذر. ضغط سعيد على الزناد فانطلقت الرصاصة كصرخة عفريت في الليل. وصرخ الرجل بدوره وتهاوى فأدركه بأخرى قبل أن يستقر فوق الأرض”.

استعمل الراوي العليم فعل “التمييز” ختامًا لصيغة يتدرّج فيها مستوى تحديد “الصوت”: (ترامى صوت .. صوت رجل .. صوت عليش سدرة) .. لو أن سعيد مهران كان متيقنًا من البداية وحتى النهاية من أن الصوت لعليش سدرة بالفعل لجاءت صيغة التعرّف على الصوت مباشرة وحاسمة كالآتي: (وترامى إلى سمع سعيد مهران صوت عليش سدرة يصيح “من؟”) .. هذه الصيغة المفترضة ما كانت لتمنع من اكتشاف سعيد مهران لاحقًا بأنه لم يكن صوت عليش سدرة، وأن تأكده كان مخادعًا، وفي نفس الوقت ما كانت لتخدش الهيمنه المعرفية للراوي العليم لأنه كان محقًا في وصف “الوهم” الذي وصل إلى “سمع” سعيد مهران؛ فالفرق واضح بين أن يذكر الراوي العليم بأن عليش سدرة قد “قال شيئًا ما”، وأن يذكر أن صوت عليش سدرة “ترامى إلى سمع سعيد مهران” .. في الحالة الأولى يؤكد الراوي العليم أن الصوت لعليش سدرة، وفي الثانية يشير إلى ما سمعه سعيد مهران فحسب والذي قد يكون مخطئًا، أي أنه شأن يرجع للشخص الذي استقبل الصوت وليس للراوي العليم.
لكن الراوي العليم بالتدرّج السابق أراد أن يوحي بأن سعيد مهران لم يكن متيقنًأ فعلًا من أن الصوت لعليش سدرة، وأن فعل “التمييز” الذي اختتم به هذه الصيغة كان نوعًا من التبرير اللاشعوري للقتل .. القتل في المطلق .. حتى لو كان الهدف غير مؤكد .. حتى لو كان ثمة شك باهت يناوش الوعي تجاه الشخص المراد قتله .. هذا صوت عليش سدرة وإن لم يكن صوته حقًا .. سأقتل في جميع الأحوال لأن هذا ما يتحتم عليّ فعله .. ليس هناك فرق بين أن يكون الصوت لعليش سدرة أو صوت شخص آخر .. كان “نبض الصدع الدوي” المقترن بتمييز الصوت معادلًا للدفعة الحاسمة التي حالت بين سعيد مهران والتردد والإرجاء والتبيّن .. الدفعة العفوية الفائرة، والمشحونة بغضب جارف بلغ ذروته، استجاب لسطوتها فورًا سعيد مهران لينفذ ما جاء من أجله بصرف النظر عن أي شيء آخر حتى لو كان نوعًا من الارتياب في هوية صاحب الصوت .. بذلك أصبح المقتول أيًأ يكن بالنسبة لسعيد مهران هو عليش سدرة .. صرخته هي صرخة عليش سدرة حتى لو اتخذت طبيعة مختلفة.

“الصوت الذي سمعه لم يكن صوت عليش سدرة. الصوات الذي سمعه لم يكن صوات نبوية. الجسم الذي سقط كان جسم شعبان حسين العامل بمحل الخردوات بشارع محمد علي. سعيد مهران جاء ليقتل زوجته وصاحبه القديم فقتل الساكن الجديد شعبان حسين”.

نلاحظ هنا أن الراوي العليم يعرض الأفكار التي تدور في ذهن سعيد مهران في اللحظات الأولى لاكتشافه أنه قتل شخصًا آخر بدلًا من عليش سدرة، يعرضها بشكل تقريري لا بصورة ذاهلة تلائم الصدمة .. وأي صدمة! .. نحن نتحدث عن قتل شخص بريء ونجاة الآثمين من الموت .. كان سعيد مهران في تلك اللحظات شخصًا يخبر نفسه بما حدث، أكثر من كونه شخصًا غير مصدّق، مندهشًا ومتساءلًا، يعجز عن استيعاب كيف جرى الأمر على هذا النحو .. هذا الاستعمال اللغوي يشير إلى أن سعيد مهران يعيش بطريقة ما حالة تذكر تلقائي لما سبق أن تجاهله .. يستعيد ما أنكره قبل الضغط على الزناد .. ما أُجبر على دهسه وعدم التراجع لكي ينجز انتقامه مهما كان ذلك الذي يوجد وراء باب الشقة .. بذلك تكون الصيغة الفعلية للفقرة السابقة والتي تم إخفاؤها لغرض دفاعي وراء الأسلوب الذي يومئ إليها ولا يصرّح بها:

“انتبه إلى أن الصوت الذي سمعه لم يكن صوت عليش سدرة. أن الصوات الذي سمعه لم يكن صوات نبوية. الجسم الذي سقط كان جسم شعبان حسين العامل بمحل الخردوات بشارع محمد علي. سعيد مهران جاء ليقتل زوجته وصاحبه القديم فقتل الساكن الجديد شعبان حسين بدلًا منهما”.

لنقارن الآن بين الاستفهامات الاستنكارية المضطربة التي وجّهها سعيد مهران لنفسه عقب هذا العرض التقريري لأفكاره أو “الانتباه إلى ما لم يكن متيقنًا منه” كي يشبع بواسطة عقاب الذات (الندم والانغماس في الشعور بالذنب)؛ يشبع حاجته إلى التطهر مما ارتكبه، وطمس انتباهه إلى ذلك الشك الباهت الذي كان يناوش وعيه قبل إطلاق الرصاص محاولًا تثبيت “قناع” غفلة كاملة ومحكمة عن هوية صاحب الصوت لحظة القتل، وبين الثناء الساخر اللاحق لهذه الاستفهامات الذي وجّهه سعيد مهران إلى مسدسه الذي “يستطيع أن يفعل به أشياء جميلة”:

“من أنت يا شعبان؟. أنا لا أعرفك وأنت لا تعرفني. هل لك أطفال؟. هل تصورت يوما أن يقتلك إنسان لا تعرفه ولا يعرفك. هل تصورت أن تُقتل بلا سبب؟. أن تُقتل لأن نبوية سليمان تزوجت من عليش سدرة؟. وأن تُقتل خطأ ولا يُقتل عليش أو نبوية أو رؤوف صوابا؟. وأنا القاتل لا أفهم شيئا ولا الشيخ علي الجنيدي نفسه يستطيع أن يفهم. أردت أن أحل جانبا من اللغز فكشفت عن لغز أغمض”.

“بهذا المسدس أستطيع أن أصنع أشياء جميلة على شرط ألا يعاكسني القدر. وبه أيضا أستطيع أن أوقظ النيام فهم أصل البلايا. هم خلقوا نبوية وعليش ورؤوف علوان”.

سطور قليلة تفصل بين الاستفهامات الاستنكارية المقترنة بالحيرة والعجز عن استيعاب ما يبدو أنه خارج الحدود الإدراكية لأي عقل، وبين الثناء الساخر على ذلك المسدس الذي أنهى منذ قليل حياة شخص “بريء”، باعتباره قادرًا على إفاقة “النيام” لأنهم “أصل البلايا”. هذه المقارنة تكشف عن اللغز الأكبر والأكثر غموضًا الناجم عن محاولة سعيد مهران لحل لغزه الشخصي: هل يتعلق الانتقام بعليش سدرة ونبوية ورؤوف علوان فحسب، أم أن الانتقام يتجاوزهم كشخصيات خائنة تستحق القتل؟. هل يريد أن ينتقم حقًا من هؤلاء بالتحديد أم أن رغبته الانتقامية تضمر ولو بكيفية مراوغة وشاحبة استهدافًا أشمل؟ استهدافًا لـ “النيام” أو “أصل البلايا”. المتورطون بـ “نومهم” في ما ارتكبه عليش سدرة ونبوية ورؤوف علوان ضده. الذين خلق “نومهم” هؤلاء الخونة. “الإيقاظ” هنا يرادف القتل. النيام يحتاجون لأن يُقتل أحدهم حتى يفطنوا إلى آثامهم المستترة. النيام يحتاجون إلى الشعور بأن كلًا منهم قد أصبح قتيلًا مؤجلًا لكي يبصر جريمته في حق سعيد مهران.

لكن هذا اللغز لن يكون لغزًا حقًأ إلا بإرجاعه إلى ذلك السر الغيبي الذي يضمن ويسمح بحدوث تلك المأساة البشرية. مفهوم “الأبوة” الذي ظاهره حكمة متعالية، متبرءة من الشر، ومتوارية في بلاغة جوفاء وطقوس تضليلة يجسدها الشيخ علي الجنيدي أو “سيد الأحياء”. الحكمة التي تزيف مبررات “مقدسة” لجحيم سعيد مهران. ذلك المفهوم المترفع الذي منح إمكانات الأذى للبشر ولم يعطلهم عن استخدامها مكتفيًا بـ “الأمر والنهي”. السر الذي يعلم أنه لا أمر ولا نهي بقادر على حماية أحد. الأذى الذي لا يمكن أن يطال السر نفسه. ذلك ما سيجعلنا نقرأ هذه السطور في “اللص والكلاب” وتحديدًا ـ وهذا التوقيت جوهري للغاية ـ بعد أن عاد سعيد مهران من رحلته القاتلة الأولى وقبل اكتشافه أنه لم يقتل عليش سدرة وإنما قتل شخصًا آخر:

“ومر بيده بخفة فوق جيب المسدس وساءل نفسه ترى ماذا يصنع هذا الشيخ لو أنه صوب نحوه مسدسه؟. متى يمكن أن يهتز هدوؤه المثير؟”

سعيد مهران هنا يصوّب ـ متخيلًا ـ مسدسه إلى السر الغيبي الذي يمثل الشيخ على الجنيدي حكمته المتعالية. إلى اللغز الأكبر الذي شكّل أرواح النيام. إلى “الأبوة” التي تمتلك السلطة المخبوءة لـ “الخيانة” و”القتل”، التي ما كان للشر وجود إلا بمشيئتها. يهدد الطمأنينة الأزلية لذلك السر المتحصن بهيمنة البلاغة والطقوس. يهزأ من المبررات “الكونية” الساذجة والهزلية لجحيمه. كأن سعيد مهران يفكر ـ وهو ما سيمتد بصورة أوضح بعد اكتشافه أنه قتل شخصًا آخر بدلًا من عليش سدرة ـ في أنه لا يفعل أكثر مما يقوم به الجميع. يستخدم ما أتيح له مثل الجميع. كل قتيل قاتل بطريقة ما. لكل شخص رصاصاته الطائشة، ولأنها ما كان يمكن أن تُطلق لولا تلك الإرادة الخفية، كلية المعرفة والقدرة، التي تضمن وتسمح بذلك؛ فإنها ليست رصاصات طائشة في حقيقة الأمر.

جزء من كتاب (رصاصات غير طائشة / قراءة مغايرة لرواية “اللص والكلاب”)

يصدر قريبًا…

تحميل العدد

https://acrobat.adobe.com/id/urn:aaid:sc:EU:ab2d19b1-76ef-41d1-9206-b7a1b20906c8?fbclid=IwY2xjawKKymlleHRuA2FlbQIxMABicmlkETF4QjRsMURpY2kwMVVZeWFKAR5TGhWEhq7CknmrDfx8Rwh-gkB797_d7CeiFkiBMMRffFECuJaqC-SxxJWU0g_aem_3SkLmo12JR7OKw2bEVYluw 

ورشة "الغرابة في القصة القصيرة" / نادي القصة بالمنصورة ـ مكتبة مصر العامة















افتتاحية العدد السادس من مجلة “الناقد” ـ أبريل 2025

حضرت ندوتي الأولى عام 1993، وبدعوة من موظف هيئة الكتاب الذي أرشدني في المعرض إلى كتابي “الصوت المنفرد” لفرانك أوكونور، و”القصة القصيرة” لآيان رايد. كانت ندوة منتدى عروس النيل الأدبي بقصر ثقافة المنصورة، وحضرتها ككاتب قصة، وخرجت منها بكثير من العجب والضحك، وبفكرة قصة قصيرة سيكون اسمها “المصفقون”، لا أتذكر أنني نشرتها، وإنما كنت أصنّفها كدعابة أدبية أستعيدها مع أصدقائي، توثق تلك اللحظات التي قضيتها في الندوة، وهو ما لم يجعلها وقتًا مهدرًا بالكامل.

اكتشفت في هذه الندوة ـ من ضمن مفاجآت غريبة ومؤسفة أخرى ـ أني مطالب بإبداء آراء فورية تعقيبًا على نصوص الجالسين التي تتوالى على مسامعي، وتلك كانت المرة الأولى في حياتي التي أواجه فيها موقفًا كهذا. كنت قد توجهت إلى الندوة وأنا أحمل نسخًا من إحدى قصصي القصيرة ظنًا مني أنها ستوزّع على أعضاء المنتدى لكي تُناقش في ندوة الأسبوع القادم، وأن ما ستتم مناقشته اليوم هي القصص التي وُزّعت الأسبوع الماضي. لكنني كنت مخطئًا. لم أفهم كيف يمكن لشخص ما أن يمتلك من الجرأة “المستحسنة” ـ بألطف وصف ممكن ـ ما يجعله يقدم تأويلًا، ولو كان بسيطًا أو “انطباعيًا” بالتعبير الشائع،  لنص “استمع” إليه و”لمرة واحدة” فقط! لم أفهم كيف يمكن لشخص ما أن “يتحدث” عن نص لم ينفرد به في عزلة قرائية “قدرًا لائقًا من الوقت” وليس مجرد “ثوان معدودة”!. كان هذا يختلف ـ بل يناقض ـ أن تتبادل مع صديق مقرّب القراءة والإنصات لنصوص كل منكما، اعتمادًا على نوع من التشارك في الشغف الأدبي، وعلى عدم وجود حد زمني لإعادة القراءة والاستماع والنقاش بينكما حول النص ـ باعتباركما صديقين ـ وحتى هذا كنت أشعر معه باضطرار ما. لكن أن يحدث ذلك في “ندوة عامة” وبين أشخاص قد لا يقابلون بعضهم ولو صدفة خارج مبنى قصر الثقاقة فهو لم يكن بالنسبة لي أكثر من تورط في هزل “ثقافي” تحكمه سماجة لا أخلاقية.

وجدت نفسي ـ وبعد وصلة التصفيق الجماعي الآلية عقب قراءة كل نص ـ أتمتم بكلمات قليلة، متلعثمة، تسقط من ذاكرتي بمجرد التفوّه بها، أزيح بها وحسب ذلك الحجر الثقيل الذي يلقيه مدير الندوة على صدري كلما أتى دوري في “التعليق”. كان يمكن إدراك مدى ما تتسم به كلماتي من ارتباك وخواء حين تقارن بالطلاقة الامتداحية والاستهجانية لدى الحضور ـ الملقب بعض أفراده كالعادة بالأديب الكبير والناقد القدير ـ في تعقيباتهم العفوية المتماسكة على النصوص، وبما يؤكد خبرتهم الكبيرة في “التعليق”.

بعد خروجي من الندوة، رحت أفكر في أن رغبتي في الانضمام إلى “جماعة أدبية”، واكتساب رفقة من “الأصدقاء الكتّاب”، والانخراط بشكل ما في “عمل ثقافي”؛ هذه الرغبة منعتني من الاعتذار عن “التعليق” على نصوص الحاضرين. كان عمري 16 سنة وقتها، وحينما أستعيد تلك الذكرى الآن أجدها رغبة منطقية تمامًا في هذه المرحلة المبكرة من حياتي ككاتب، كما أن قراري بعدم حضور هذه الندوة مرة أخرى كان منطقيًا أيضًا. حصيلتي من “الاستياء” التي خرجت بها من تلك التجربة كانت أقوى من رغبتي في أن يعرف الآخرون ذلك الشاب الصغير الذي يختبر خطواته الأولى في “المجتمع الأدبي” وأن يقرؤا أعماله ويتحدثوا عنها.

بعد انضمامي لاحقًا لنادي الأدب بقصر ثقافة المنصورة، وكذلك الندوة الأدبية الأسبوعية لحزب التجمع ـ حيث الحياة أجمل بدون تصفيق ـ كنت تقريبًا الكاتب الوحيد الذي لا يعلّق على نصوص الحاضرين؛ أقرأ قصتي القصيرة وأستمع، وإن أصر مدير الندوة على أن أقول شيئًا فإنني لا أتناول في تعقيبي إلا فقط ما أعجبني من النص، وبشيء من الاقتضاب، أما تلك الأشياء الأخرى التي تبدو للوهلة الأولى أنها تثير مشاعر سلبية لدي فكنت أعلّق عليها قائلًا “أحتاج لقراءة النص مرة أخرى”. لم يكن سهلًا عندي على الإطلاق أن أوجّه “انتقادًا” لكاتب ما في أمر قد يتغيّر موقفي منه لو أعدت التأمل والتفكير في النص ثانية، ووفقًا للشروط “البديهية” المناسبة لذلك.

بعد سنوات طويلة أصبحت أتحدث في الندوات العامة التي أحضرها كمناقش رئيسي عن الأعمال الأدبية “المسموعة” مثلما أقارب النصوص في ورشتي الإبداعية الخاصة. أشير لكاتب العمل إلى زاوية نظر مختلفة قد تستحق الالتفات لها، إلى طريقة مغايرة للكتابة ربما تؤدي إلى أفق أكثر جدارة بالاكتشاف. وبالرغم من أنني أفعل ذلك مؤكدًا ومشددًا في كل مرة على أنه ليس “تعديلًا استعلائيًا” يقلل من شأن ما هو مكتوب بالفعل إلا أن ذلك الارتباك القديم الذي رافقني خلال لحظة “التعليق” الأولى على نص أدبي ما زال يلازمني وإن لم يشعر به من حولي .. الحذر من التسبب دون انتباه في أذى لشخص كتب شيئًا ما بالكيفية التي أرادها، أي أنه فقط مارس حقه الأصيل ككائن في “التعبير عن نفسه”، ولا يمكن أن يكون ذلك موضع إدانة أو لوم أو توبيخ أو تجريح أو سخرية احتيالًا على “الحق في إبداء الرأي”، أو انتهازًا وقحًا لـ “النصح والإفادة”. عزائي دائمًا أن هذه “الجرأة” من جانبي في تأويل النص “المسموع” لا تتعامل معه ـ حين يغيب التواصل بيننا ـ بوصفه اعتداءً على ذاتي أو ذائقتي أو على “الأدب” و”الثقافة”، حيث إما أن يُستبدل هذا النص وفقًا لما أراه “صحيحًا” و”عميقًا” و”مفيدًا”، أو يستحق أن يُزاح من الوجود! عزائي دائمًا أنني لا أتحدث إلى كاتب أبدًا بطريقة “كيف تجرؤ على الكتابة بهذه الطريقة السيئة!” أو “كان من الأفضل أن تفعل كذا وكذا وكذا!” أو “عليك أن تبحث عن هواية أخرى!” مثلما تفرض الدناءة النقدية العامة المتجذرة في التاريخ، وتحديدًا بتكريس من يُطلق عليهم “رواد الفكر والأدب”. عزائي أنني دائمًا أتحدث إلى كاتب النص بطريقة “لنفكر معًا في احتمالات أخرى ليكون أمام حرية اختيارك مزيد من الأفكار لشكل الكتابة الذي تريدها أن تتخذه”. ومع ذلك يظل التحدث عن نص بناءً على “السماع” فقط جرأة، ليست نقية بالكامل من سوء الخلق في أحسن الأحوال.

أفكر في كل القطعان البشرية المتناسلة في تزايد عبر الزمن، والتي تمتهن تحقير النصوص والكتّاب باعتبار أن هذا شيء عادي وبديهي وضروري؛ أفكر في كونهم يكابدون بؤس الألوهة المعطلة، ومن ثمّ لا يسمح وعي ونفس وطبيعة أيًا منهم إلا بالخضوع لمسخرة “الحساب والعقاب” حيث لا يجب على الكاتب أن ينتج نصًا “يخالف ذائقتي”! كما ليس مسموحًا له أن يحصل على ما يقرره أو ينتقيه بنفسه من دعم أو معاونة بعيدًا عن “سلطتي التأديبية”!. أولئك الذين لا يطيقون الحرمان أو التجرد من ألف لام التعريف الزائفة كما ذكرت في كتابي “نقد استجابة القارئ العربي”:   

“إذا لم تكن هناك قوانين جمالية مفروغًا منها ويتعيّن اتباعها في العمل الروائي مثلًا لإعادة تشكيل تجربة القارئ؛ فإن الطرق المتحوّلة التي يعيد بواسطتها هذا القارئ تشكيل العمل الروائي ليست قوانين هي الأخرى بل ملامح لخبرة دائمة التكوّن، ومرجئة الإشباع طوال الوقت .. إذا لم يكن هناك (الكاتب) بألف لام التعريف، الكلي، (الإلهي)، فإن (القارئ) بألف لام التعريف، الكلي، أو (الإلهي) ليس له وجود أيضًا وإنما يدعي فقط لنفسه هذه الألوهية .. هناك (كاتب / قارئ)، و(قارئ / كاتب) فحسب، أي انعدام تام للهيمنة المثالية، سواء لكاتب يسيطر بلذة التداول الكامل على جميع القراء، أو لقارئ (مخاطب وحده، أو محكي له وحده) يسيطر (بلذة المعنى الواحد) على جميع الكتّاب .. نحن نضيف ألف لام التعريف للكاتب أو للقارئ للإشارة إليه في حالة معينة (هنا والآن)، وليس ذلك الكائن الذي يقدم نفسه ممثلًا لجميع القراء (في كل مكان وزمان)”.

تحميل العدد

https://acrobat.adobe.com/id/urn:aaid:sc:EU:ab2d19b1-76ef-41d1-9206-b7a1b20906c8?fbclid=IwY2xjawKKymlleHRuA2FlbQIxMABicmlkETF4QjRsMURpY2kwMVVZeWFKAR5TGhWEhq7CknmrDfx8Rwh-gkB797_d7CeiFkiBMMRffFECuJaqC-SxxJWU0g_aem_3SkLmo12JR7OKw2bEVYluw

 

الخميس، 8 مايو 2025

أنشودة دموزي الأخيرة: ملامسة الإيهام

لعل أكثر ما يُلاحظ في رواية “أنشودة دموزي الأخيرة” لنبهان رمضان هي الكيفية التي تجسّد بها اللغة طبيعة التيه والشرود والارتباك التي يتسم بها السارد المتحدث، وذلك بعكس حالات مشابهة في روايات أخرى يعمد خلالها السارد استخدام لغة تقصد التماسك والاتزان كنوع من المراوغة الدالة لتلك الطبيعة أو سعيًا للتخلص أو التبرؤ منها فيما يُعرف بالفرق بين “حكي الاضطراب”، و”الحكي عنه”. لذا فالراوي هنا يتمثل في لغته الملامسة لا الاقتحام؛ حيث تكشف هذه اللغة عن المسافة الوعرة أو الحاجز الاغترابي بين السارد والتجربة أو “الإيهام بالجدوى”، بين نزعته التأملية والتورط بشكل فعلي في صراعات الواقع. تجدر الإشارة إلى التطابق هنا بين صوتين تطاردهما دومًا احتمالات الفصل اعتمادًا على “زاوية النظر” أو “المكان الذي يشغله “ناقل الحكاية” بالتفرقة بين “ما يُحكى حيادًا” و”تنظيم الحكي وفقًا لانحياز ما”، أو بين “الراوي” و”السارد” حيث لدينا هنا ذلك الصوت الذي لا يحكي وحسب، وإنما ينتقي ويرتّب ويستبطن ويحلل ويفسر، أي أنه يتظاهر بالاستحواذ على ما يحكيه وإن كان يوطد ما يناقض ذلك.  

“لكنهم لا يعلمون أنني أنفذ وصيتها الأخيرة لي في آخر زياراتي السرية لها في مستشفى جامعة المنصورة، حيث كانت تعيش آخر أيامها قبل أن تخرج منها ليلة موتها إلى منزلها الذي يبعد عن منزلنا بمنزلين آخرين”.

لننتبه مثلًا إلى “التكرار” في لغة السارد والذي يشير إلى سعي مضمر للتيقن والتأكيد على الأشياء والأفعال التي أرغم على استعمالها بوصفه عالقًا في ما تكوّنه هذه العناصر والتفاصيل من متاهات، وذلك ما يجعل الراوي موضع استخدام لتشابكاتها الغامضة في حقيقة الأمر لا مُستعمِلًا لها. في الفقرة السابقة وبتكرار كلمة “منزل” بصيغ متعددة ومتعاقبة نجد مثالًا على محاولة لغوية مُلحّة لاستبصار المعنى الملغز أو الغاية المجهولة لذلك الحضور البديهي الذي يأخذ مُسمّى “المنزل” باعتباره فضاءً عدائيًا مخاتلًا تسكنه الأشباح، حيث تُهدر حيوات اضطرارية ما كان يجب أن تكون أي منها هي “الحياة”، ويهيمن “الموت” على كل رجاء للخلاص. هنا يتحوّل “المنزل” إلى استفهام، استجواب لفكرة “السكن” المتعذرة: لماذا فُرض علينا ألا نعيش في ملاذات آمنة، لا تٌهدد بالفناء؟ ذلك تساؤل جدير بالجالس في عربة تسير ضمن موكب جنائزي نحو “المثوى الأخير”.

“خرجت من الحمام، عدت إلى غرفتي ارتدي ملابسي، دق جرس الباب، طالبتني أمي أن أفتح الباب؛ لأنها غير قادرة على الوقوف بالسرعة المطلوبة لكي تفتح الباب. عندما فُتح الباب، وجدت نعيمة ذات الوجه المستدير تحيطه بطرحة سوداء شيفون كأنه برواز يظهر بياض بشرتها”.

لننتبه أيضًا إلى انفصال الوعي عن الفعل تجسيدًا لشرود السارد حيث يُستبدل الفعل المعلوم بالمجهول ـ بعد تكرار معهود لكلمة “باب” ـ ويتحوّل “فتحت الباب” إلى “فُتح الباب” لتمثل اللغة ذلك الإدراك المبهم عند الراوي بكونه “غير فاعل” أو “موضع استخدام” كما ذكرت من قبل، وكأن ثمة إرادة لا تخصه تنوب عن ذات غائبة، غير مستوعبة، في تنفيذ الأداءات، وذلك ما يجعل الفعل في أبسط صوره رضوخًا لقهر ما، مسايرة لضرورة ملتبسة، ولا يستند إلى انتباه حقيقي. يتخذ الشرود كذلك مظهرًا آخر في التسميات الخاطئة أحيانًا؛ فمحل الفول الشهير في ميت حدر اسمه “العطافي” وليس “العطفاوي”، فإذا ما اقترن بـ “وجبة العشاء” لأصبحت “وجبة العشاء العطافي” كما أن أغنية “الصلح خير” لـ “نادية مصطفى” وليست لـ “نادية صالح”.

“ومع تواصل الدراسة أصبح الجلوس في فناء الكلية بين المحاضرات المعادل الموضوعي لرؤية نجمتي المفضلة في جوف الليل، أتابع وأراقب بلا هدى فقط ما يلفت انتباهي من حركات الطلاب والطالبات؛ وأحيانًا الأساتذة، ربما استغرق ذلك ساعات طويلة وأحيانًا أسهو عن موعد المحاضرة، فيدخل الدكتور المحاضرة دون أن أدري، الأيام تمر كعقارب الساعة دون عودة للوراء، لا شيء يتغير”.

من هنا يمكن القول إن مراقبة السارد لمشاهد الواقع هي ممارسة تخييلية تجاه نفسه في المقام الأول. تلصص على تلك الذات المحتجزة وراء ارتباكه، وكأنه يمكن انتزاعها مجردة من القمع بواسطة وجوه وأجساد الآخرين أو ما يختبئ في أرواحهم ودون دراية لهم به. هذا ما يدفع الراوي لأن يصوغ بارتباكه ما يطفو من هذه الأرواح عبر الوجوه والأجساد، كأنما يخلق أسرارها وفقًا لهواجسه، وبتنويعات على الملامسة لا الاقتحام، كما أشرت سابقًا، في مجاهدة عسيرة لتخليص ذاته المجهولة من قيودها الغيبية، مستعينًا بـ “هكذا تكلم زرادشت” فيما يمثل ديالوج بين السارد ونيتشه، وهو ما سيقوده منطقيًا إلى توثيق السعي لمناوشة تلك الذات التي يعجز عن إيجادها أو كتابة القصة القصيرة.

“تريد الصعود إلى أعالي الفضاء الرحب وروحك تتوق إلى النجوم. لكن غرائزك السيئة هي أيضًا تتوق إلى الحرية”.

في هذا المقطع تحديدًا من “هكذا تكلم زرادشت” يتكشّف جوهر التوق الروحي عند الراوي بكونه ليس انقطاعًا عن الملذات الحسية وإنما تحريرًا لها، أي يشملها مسار النجاة ويمر عبر كوابيسها حتى يعيد تلك المباهج الغرائزية الماكرة إلى أصل محصن مخبوء، لا يخدشه الشر.  

حين تقرأ مثلًا “أمي كانت تقرأ في مصحفها الذي اعتادت أن تقرأ منه بصوت عال” فإنك من الوارد أن تفكر ـ خاصة لو كنت محررًا أدبيًا يتلهف على اصطياد ما يفضح بصيرته الأبوية البائسة ـ في السبب الذي منع الراوي من قول: “أمي كانت تقرأ في مصحفها بصوت عال كما اعتادت” …

إن ذلك التكرار (كوجه ناصع للتردد) في سعيه المضمر للتيقن والتأكيد على الأشياء والأفعال، والشخوص التي تكوّن متاهات السارد بطبيعة الحال، يرتبط بما يشكل وعيه من كبت وتحيزات ومفاهيم نمطية، لذا فالتكرار بمثابة وشاية بالشك الخفي والمحاكمات اللاواعية عند الراوي تجاه الكليشيهات الاجتماعية والثقافية التي تستعمل وجوده “العالق”، وتزيف رجعيتها بأقنعة بلاغية مصطنعة من التسامح. تلك الإكراهات التقليدية المتوارثة التي تسيطر على منظور السارد وتجبره كطفل ساذج على ترديد الحكم المدرسية وإعادة تدوير التلقينات الأخلاقية القاصرة حتى مع مجابهته الكلامية للذوات المتشددة، المتسلطة بعنف الفكر والفعل، وكأن لغته الأشبه بالتلعثم هي أسلوب تفاوض مع الأعراف والتقاليد الشعبوية المستحوذة على وجهات نظره مثلما تحاصر حركته في العالم. محاولة للتشبث بشيء حقيقي عبر “تشتت اللغة”، والمتمثل كذلك في المراوحة بين الفصحى والعامية، يعيد ولادته خارج التيه.

“بينما جلسنا نحن الثلاثة نتحدث عن الشعر الذي سمعناه الليلة في الندوة أغلب الوقت أسمع منهما عن قصيدة النثر الجديدة المتطورة بعد محمود درويش ونزار قباني، وما الحداثة فيما سمعناه الليلة طوال الوقت، أستمع ولا أشترك في الحديث وعندما يطلب رأيي أجيب بطريقة مقتضبة”.

نلاحظ كذلك كيف يوظف السارد علامات الترقيم في التمثيل لشكل آخر من الارتباك وهو ما يُعرف بـ “مضغ الكلمات”، حيث لا تكتفي لغة الراوي بطمس المفردات في لحظات معينة وترك فراغات معاندة للاتساق فحسب، وإنما تقوم أيضًا بمحو علامات الترقيم في بعض الأحيان، وذلك يختلف عن “التكثيف” اللغوي؛ فهذا المضغ للكلمات ـ في تجسيده لحالة اللهاث والاختناق الناجمة عن الاضطراب ـ بوسعه أن يبرز سطوته بصورة أعنف في ما قد يوصف بـ “الفضفضة” أو الإسهاب في الوصف أو البوح، وخاصة مع وضوح النبرة الطفولية التي تمرر تعبيرات عاطفية غافلة وكلمات متقطعة أو متداخلة ببعضها.

“إنها فكرة الموت الرحيم، ما أدهشني كيف يكون الموت رحيمًا، ذلك الكائن الذي يفرق الأحباب عن بعضهما البعض، حرمني من أبي مبكرًا، يحرم الأب من ابنه، والابن من أبيه، والأم من أبنائها، ويحرم الأبناء من حنانها، الرحمة ليست صفة للموت أبدًأ مهما كان الشخص بغيضًا وعلى درجة كبيرة من المقت والكره، فهناك من يريده ويحتاج إليه حتى ولو كان طفلًا رضيعًا أو شحاذَا يحنو عليه”.

لذلك تبدو الشخصيات المحيطة بالسارد أشبه بأصداء لنزاعاته مع تاريخه الشخصي وما يتجاوز هذا التاريخ، حيث لا تمتلك تلك الشخصيات بصمة وجودية تتخطى المعاناة الاجتماعية بأشكالها المختلفة، نظرًا لأن “ملامسة” الراوي لحيوات تلك الشخصيات لا تسمح لأي منها أن تحفر سيرة أرقها الخاص في الرواية مثلما أراد أن يفعل لنفسه، وكأنهم ظلال مشوّشة لماض أبعد وأكثر تمنعًا مما يمكن له أن يقبض على مشيئته، ومن ثمّ فما يبدو حوارًا بين السارد وشخصية أخرى يقترب من أن يكون مونولوجًا داخليًا للسارد نفسه، وكأن ما تقدمه كل شخصية عن عالمها في تلك الحوارات لا يعدو سوى طيف ضبابي، يحوم حول عالم الراوي الذي لم يمتلكه مطلقًا.

أخبار الأدب

4 مايو 2025

الأربعاء، 7 مايو 2025

تحميل العدد السادس من مجلة "الناقد"


ورشة "الغرابة في القصة القصيرة"


 

مقطع من "نصفي حجر"

"لماذا سيذهب (م) إلى هناك؟ .. لماذا سمح لشخص ما يُطلق على نفسه أحد ممثلي القانون أن يخبره بشيء عبر الهاتف في صورة "تبليغ صارم بالتعليمات"؟ .. لماذا ظل يستمع إليه حتى أنهى حديثه ثم أغلق الخط كأنها مكالمة عادية بين شخصين يعرفان بعضهما جيدًا، بينهما ماض مألوف من القرب والتشارك، وينغمسان في صلة مفهومة يتوقع أن تبقى ممتدة حتى موت أحدهما، أو حتى موت (م) بالأحرى؟

لنفس السبب الذي لم يتخذ (م) من أجله رد فعل عدائي حقيقي حين استيقظ على وجود ممثلي القانون في بيته .. السبب الذي يمزج بين أشياء قد تبدو متناقضة لمن يبصرها، حيث لا يمكن لأحد أن يبصرها حقًا، بينما وحده (م) يعرف سر التجانس المجهول الذي يشملها.
في السابعة إلا ربع خرج (م) من بيته في منطقة الجوازات متجهًا نحو حي الحسينية .. كأنه يخطو إلى الشوارع للمرة الأولى .. كأنه لم يتنفس مطلقًا رائحة النسيم البارد المعطّرة بالاحتراق الليلي .. كأنه لم ينصت لهمهمات الماضي وهي تحاول التسلل من الضجيج الذي يفرم سمعه .. يسير به اتجاه مضاد لكل المسارات التي تناقلت جسده من قبل .. تستنشق أنفاسه الرائحة الطفولية المُسكرة .. كل "شارع" يكشف إذن عن الكيفية المستترة في باطنه التي تجعله "طريقًا" .. رائحة النسيم البارد تُعرّي نارها المحتجبة .. الهمهمات القديمة تخترق أذنيه .. رجال ونساء وأطفال وقطط وكلاب يرمقونه بتلهف ساخر وهم يعبرون من حوله ببطء أو يتوقفون على جانبي خطواته المرتبكة .. وجوه محتشدة، تحلق ابتساماتها المتهكمة داخل الشرفات ووراء النوافذ .. بعكس ما ظل يفعل طوال أربعين سنة؛ لم ينظر إليهم .. لم يتفحص ملامحهم، أو يراقب انفعالاتهم وحركاتهم، أو يلقي بنفسه في هوة انطباعاتهم الخفية .. كان ذلك الممر الشرفي الممتد داخل المدينة، المنظّم بالاستهزاء والتشفي يبقي عينيه لأسفل، تاركًا لهما وحسب إمكانية اختلاس النظر بين حين وآخر .. كأن كل هذه الكائنات لا تمثل نفسها بقدر ما تجسد كابوسًا ذاتيًا أصبح الآن في أقصى درجات سطوعه .. كأنه كان يربي كل هذه الوجوه بداخله على مدار عمره، وقد حانت في هذا المساء لحظة تشييعها له تحت سماء حالكة وغيوم رمادية كثيفة، حيث لن تُجدي أية مراوغة .. لهذا كانت نشوته غير مسبوقة".
مقطع من رواية قيد الكتابة