الثلاثاء، 11 فبراير 2025

أنت لا تخُصُّني.. وأنا لا أخُصُّك: الذكرى المؤجلة

في مجموعته الشعرية "أنت لا تخصني .. وأنا لا أخصك" الصادرة عن دار الأدهم؛ تومئ لغة مؤمن سمير ـ بكل ما يمثله الإيماء من اقتضاب ذاهل وحسرة منطوية على غضب متناثر ـ تومئ نحو ذكرى لم تحدث في نطاق التجربة الحسية للمرء. ذكرى غيبية منفصلة عن الوجود، ومن ثمّ لا يمكنها أن تتحوّل إلى مشهد من "خبرة معيشية" بل إنها تناقض معنى "الخبرة" نفسه. هذه الذكرى هي من تكتب الحكايات، عوضًا عن الافتقار إلى إمكانية كتابتها. عوضًا عن كون هذه الذكرى تقع في الجانب المضاد من "الكتابة". الذكرى التي حدثت في ماض غير معلوم، خارج العمر، وخارج الأقدار كافة ...

"في السنوات الأخيرة صارت علاقتي بذاكرتي أكثر اتساقًا، صرت لا أقضي أيامى وأنا مقعى في غبش المرآة، حدادًا على نفوق صفحات كاملة وارتعاش أجزاء أخرى، بل وأيقنت أنني أحب كونها حرة كالهواء، تستّف ما يحلو لها فقط وهي تصّفر بكل سعادة، وهذا هو الجمال بعينه.. الأحلى أنها لا تمل من إثبات شبابها وفوران دمها فتملأ كل ما ينقص ويغيب بخيال طائش لكنه حنون، تكمل بحكايات، الحق أنني أرتاح لها في كل مرة، كبديل لحياة باردة".

ذكرى مبهمة تتوارى في "غبش المرآة"، لا تخص حياة المرء ولكنها تخلق هذه الحياة بغيابها، تحددها بما تمحوه وتنبئ به من أثرها الغامض بين الميلاد والموت. بالخيال الذي يكافح فقدانها الحصين ويناوش ظلالها المطموسة. الذكرى التي يتغير ويتبدل الحدس بوجودها من عماء لآخر، من رعشة لأخرى، بحسب حريتها المطلقة في تشكيل "ذاكرة" المرء المؤقتة، وبقدر ما تبديه تلك الذاكرة المنهكة من وفاء أو تمارسه من خداع...

"تعلمنا من آبائنا أن ندفن الحكايات / في الأقلام / في رعشة الخط / واللون الذي يتغير مع كل نظرة / وأن ننتشي كذلك / بنسيان أن الملتحف / بالأقدار / مجرد حرف عريان..".

تفكر قصائد مؤمن سمير في الأبوة بوصفها آلية قمع وتغاض ومسايرة. قمع إشهار الألم كما تستوعبه الذات، والتغاضي عن ثغرات "المعرفة" التي تبرر هذا الألم، ومسايرة الإيمان بجدوى قبوله. تفكر القصائد بالتالي في أن هذه الأبوة تمتلك القدرة على تقويض نفسها، أي أن تعيد إلى كل "ذات" أبوتها المسلوبة، وبالضرورة تتبدد "الأبوة" كفكرة أو كمفهوم مطلق. الأبوة التي تحتكر ذكرى متعالية لم تحدث في الأسر الدنيوي، ولا تخص "ذاكرة" المرء" إذن، و"ذاكرة" المرء لا تخص هذه الذكرى المجهولة، ولكنهما مرتبطان ومتلازمان في شرط التيه، في حتمية التخلي والانفصال عن "الوصول" أو "الغاية" المحمية بذاتها، دون نقص. دون شر الحرمان ...

"كلما فارقني الناس / يتعثر قليلًا في حفر الطريق / ثم يدق الشيطان جلدي .. / هذا العجوز، عشير أبي وجدي / يحزن عليّ بصدق وأنا وحيد .. / ربما يضع وروده على قلبي / وصقوره على ذراعي / وربما نأخذ نفَسَاً عميقاً / ونغمض عيوننا / ونقفز..".

التفكير في الأبوة ينطوي ـ بالمنطق الحدسي للكتابة ـ على تأمل العصيان. الشيطان بصيرة العزلة. الأصل الثأري للذات من الذكرى المبهمة باعتبارها تعريفًا لعالم "الأبوة". بوصفها سر "الذاكرة العابرة". ذكرى مترفعة، في تعذرها وفي كونها جوهرًا مقصيًا للذات؛ تكمن في الهجران المتكرر (الفائض بالعثرات الضرورية) بين عتمة وأخرى (حيث تتراوح وتتمازج الدموع والألوان) وبإيقاعات مخاتلة، تتظاهر بكونها استجابة لكل أمل مترنح، بينما تضمر لحنها الاستباقي الأخرس، المتجذر بمشيئة تحتفظ لنفسها بأن تعيش هذه الذكرى الملغزة كواقع أبدي، لا يخدشه "الزمن" ...

"من يوم الحريق الذي أحاط ببيتنا / وجعله يفر من أمام البحر / وتلك القداحات تثيرني.. / كنت ساعتها صغيراً / والنار كانت صغيرة / تكبر رويداً رويداً / وتحبو لتلسع أقدامنا.. / ساعتها كنا نتوهج كل مساء / حتى أن الحقد عاد مع العاصفة / وأعطانا البحر ظهره / ومحانا من أحلامه..".

باستعادة "الحميمية الكونية" للنار عند "باشلار" فإن "الحريق" يقوم أيضًا بـ "إضاءة" ذلك البتر الغامض بين الذات و"الذكرى" التي لم تحدث في التجربة الحسية. النار تصير إيماءة أي تتوحد الكتابة بالنار بما يعادل قيامة عقابية للانفصال. انفصال الذكرى الغيبية عن الوجود. وبالغرابة الجامحة فإن وهج النار نوع من الاستئناس بهذه الذكرى بالرغم من إبهامها، أو خاصة أمام البداهة الوحشية لغيابها. في مواجهة كونها "الشر" الذي ينتج الأحلام ويلتهمها كما تفعل النار بالأشياء التي تنكشف حينئذ طفوليتها. "الشر" الذي يبطن نجاة خفية، إعجازية "خارج الأقدار"، لا يمكن اجتياز المسافات ـ كالبحر مثلًا ـ للوصول إليها. هي نجاة هزلية إذن. الذكرى التي لم تحدث حين تكتب الحكايات فإنها لا تبوح بسرها ولكنها تؤكد استحالتها. تكشف عن عدم قابليتها سوى أن تكون سرًا.

"أقدام أبي الثقيلة / وطيران أطفالي للجنة.. / الرقص مع الأشباح / والموسيقى عندما تنفلت / ثم تعود للمعطف.. / كلهم هنا / في نفس اللحظة الخاطفة / التي سقطت على رؤوسنا / وهي تتنهد..".

نلاحظ الدمج بين ما هو بصري وسمعي وحركي في تشكيل مؤمن سمير للحظة أشبه بمرآة من شظايا الماضي، وكأن هذا الدمج ـ كإرادة خيالية ـ يحاول استباق هذا التفتت، أي حينما كانت المرآة نفسها "مفهومًا متأصلًا" يواري غموضه في المكوّن الحسي المتظاهر بالانتماء الذي يعكسه. كأن مؤمن سمير يشيّد لحظة مناوئة للقهر المخبوء في غموض المرآة، بالعناصر الحسية نفسها، لا في تبعثر الشظايا وإنما في تحالفها، في حضورها بكيفية متواطئة تتقدم على "السقوط"، وكأنه يخلق لحظة خاطفة بديلة، متماسكة بطريقتها الخاصة، تحوم حول الذكرى المبهمة التي حدث هذا التفتت إثر غيابها. الذكرى التي حلت "ذاكرة الانمساخ" بدلًا منها ومن ثمّ لم تكن "المرآة" سوى لغم مدفون في صورة الماضي.  

"لكن جلدي يخذلني.. / كلما يمر الظلام عبره / يصحو في صندوقه / ويسدّ النوافذ / كأنه حريق عجوز.. / ثم يتثاءب / ويفتح القلوب على مصراعيها / كلما فاتت جوارنا / نظرة زائغة..".

لا تحتاج قصيدة ما لكلمة "بحر" على سبيل المثال لكي نبصر غريقًا، تقتحم الأطياف المشوّشة والمبتورة وعيه المنسحب. أطياف المسافات التي لم توجد، والخطوات التي توهمت المراوحة والثبات. الغرق مقيم في الجلد، الظلام، النوافذ، القلوب، النظرات الزائغة، أي في الحكايات التي تخطها الذكرى المستحيلة. الغرق مقيم حيث لا يحضر إلا السر، أي أنه ليس إلا كل شيء، وذلك تحديدًا ما كان يكفي مؤمن سمير لكي يوثق "حكمته الشعرية" المضادة لـ "الحكمة"، وتلاعبًا بالكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر إذن أنا موجود" في قصيدة "هناك":

 "رأسي فارغ / نظرتي فارغة.. / إذن أنا هنا / إذن أنا حي..".

"هناك" هي نقيض الحضور، فأنا بقدر ما أتواجد "هناك"، أي حيث تغيب ذكرى حدوثي خارج الأقدار، بقدر ما أتنكر قسرًا في التواجد "هنا"، أي في العالم المنقطع عن المدى المحتجب الذي جعلني نسخة مناقضة لنفسي. جعلني ممرًا زائلًا للفراغ؛ أعرّف "عدم حضوري" بأنه "الحياة"، ومن ثمّ أطلق على "ذاكرتي" بأنها "كل الماضي" الذي يسبق الموت. كأنني لم أكن يومًا غير مهدد بالفناء في أسطورتي الحقيقية. هذا ما جعل "الأنا" مرجأة في عنوان المجموعة "أنت لا تخصني.. وأنا لا أخصك" بدلًا من أن يكون "أنا لا أخصك.. وأنت لا تخصني" .. إرجاء الأنا إقرار بـ "ذكراها المؤجلة".

 أخبار الأدب

2 فبراير 2025