الثلاثاء، 11 فبراير 2025

افتتاحية العدد الخامس من مجلة "الناقد" ـ يناير 2025

خلال تلك المرحلة المبكرة  لم يكن لمطالعاتي في "النظرية النقدية" الشغف نفسه الذي كان يتملكني تجاه القراءات التحليلية للأعمال الأدبية .. كنت أكثر اهتمامًا بالتأويل العملي للنصوص من الأفكار المجردة، ولا شك أن ذلك ينبع من غريزتي ككاتب، يستهدف التجارب الحية والاختبارات الملموسة .. كانت كلمات المترجم د. محمود الربيعي في مقدمته لـ "الصوت المنفرد" عن أن فرانك أوكونور في هذا الكتاب أقرب إلى الفنان المبدع من الناقد المحترف، لا يعمل في مستوى نظري بل يغرق يديه في النصوص الإبداعية، ولا يحمل صولجانًا مسيطرًا بل مصباحًا مضيئًا؛ كانت هذه الكلمات تصف طبيعة النقد الأدبي الذي أفضل قراءته، وبالتالي تحدد ما أريد أن تتسم به كتاباتي النقدية، باستثناء "إصدار الأحكام" اعتمادًا على التفسيرات الشخصية للعمل كما أشار د. الربيعي إلى أوكونور "التفسير دائمًا هو طريقه إلى إصدار الأحكام" ..  كأن التفسير هو "الصواب الأوحد" الذي يبرر بالضرورة الحكم التقييمي الناجم عنه، وليس مجرد "رؤية خاصة" أو "وجهة نظر" تخضع لشروط "المفسِّر" حتى تلك التي لا يستوعبها، وتحتم عليها عفويًا التنكر والاختباء في صورة "الحقيقة المطلقة" لكي تتيح لحاملها ممارسة السلطة الأبوية على النص .. لم أكن حينئذ بالطبع قد صادفت مقولة ميشيل فوكو التي جعلتها بعد سنوات طويلة تصديرًا لكتابي "نقد استجابة القارئ العربي":

"لا أستطيع إلا أن أحلم بنقدٍ يتجنب إصدار الأحكام ويكتفي ببث الحياة في مجموع أعمال كاتب ما، أو في كتاب، أو جملة، أو فكرة … إنه لن يضاعف عدد الأحكام بذلك بل علامات الحياة".

أتذكر أن أغلب ما قرأته من الكتابات النظرية في تلك الفترة "النصف الأول من حقبة التسعينيات" سواء عربيًا أو مترجمًا كان يبدو لي تجسيدًا لمحاولات الهيمنة على "الكتابة"، وهو ما كان يمثل عداءً مع طبيعتي التجريبية في القصة القصيرة التي ظلت تدفعني منذ البداية للمغامرة ضد موضوعاتها وأساليبها التقليدية ومن ثمّ ضد المبادئ العامة والقناعات الجاهزة للكتابة نفسها .. كان "اللعب" المتجاوز للنظرية، المفكك لتحيزاتها يشكّل البصيرة النقدية أو بالأحرى يكتشفها حيث لا ضامن للمواصلة سوى وعي "اللاعب" ذاته أي ما يكوّن ويقود حياته كليًا، وكأن تفكيك التحيزات نوع مضاد من التنشئة والتحفيز والدعم بالسُبل كافة التي تتخطى "المعرفة الأدبية".

على جانب آخر كان بديهيًا أن يتجلى الجوهر الاستبدادي والهزلي لتلك المبادئ والقناعات في القراءات التحليلية أكثر من الأعمال النظرية وذلك ما كان محرّضًا لي، وبالخطوات التصاعدية اللازمة، على التفكير في أن المزاج الاحتفالي للنقد الأدبي لا يقتصر على التأويل المتحرر من "التقييم" في حد ذاته، وإنما على الانتهاك "النظري" للمفاهيم التقييدية حيث تتحوّل هذه المفاهيم إلى غنائم ثمينة لذلك الطفل الذي يلهو بالكلمات دون ميول أيديولوجية أو أهواء عقائدية، أو حتى استعداد لاكتساب أيًا من تلك الميول والأهواء.

هذه الخلخلة النظرية لا تُعرّف "الناقد" وحسب، وإنما تُعرّف "التنظير" نفسه خارج الإلزامات الناجمة عن شبق احتكار المصطلح، والتي تسعى دائمًا لفصله ـ أي التنظير ـ عن "الخصوصية التأويلية" للناقد، بما في ذلك من خلط بائس بين "المنهجية الصارمة" أو "النمط المتعسف للقراءة" وبين "البصمة الإغوائية للتقويض" التي تميّز "الناقد" عن "القطيع النقدي". 

تحميل العدد

الناقد 5.pdf - Google Drive