الخميس، 31 أكتوبر 2024

إحراق البدايات

مرت لحظات صمت بيننا، كأن كلًا منا يفكر في ما يتعيّن عليه قوله ـ دون خطأ ـ حتى وصولنا المقهى .. اللحظات التي قد تحرّض بصورة لئيمة ومشوّشة على الشعور بأنها بداية حياة المرء على نحو ما .. بداية حياته مع الآخر .. بداية العالم .. آدم وحواء يسقطان من السماء في شارع طلعت حرب .. مطرودان من ألوهتهما ليتحوّلا إلى شيطانين يكتبان سرديتهما الخفية من داخل مخبأهما “الإنساني” .. ليكتشفا انتقامهما من الألوهة .. كنت وميادة تائهين بالرغم من معرفتنا الأكيدة بالمسار إلى “زهرة البستان” .. كأن علينا بناء الكوكب بركام آلامنا وتعميره بالفناء الذي سيتناسل من جثتينا دون أي ذاكرة .. لكنني لم أشعر في تلك اللحظات بأنني وميادة نستنسخ بداية ما، وإنما نختبر نزوة محتملة لإحراق البدايات .. نمنع إحراز الهدف الذاتي في الإعادة التليفزيونية .. نضع رأس الكون في شرجه .. كأنني وميادة سبق أن رسمنا صورة ضبابية لجنازة لا تضم سوانا؛ نحن الراقدان في ظلام النعشين، والجالسان وحدنا أمامهما، ومن يحفران وحدهما قبرين لنا في سماء أخرى منسوجة من دمائنا ثم يتلاشيان في العالم مجددًا كبشر عاديين؛ يتجولان بعظام مكسورة وحقائب مشتعلة في سفر بلا انعطافات .. كنت وميادة نفتش عن هذا الوداع الذي تشاركنا في تخيّله بالتسويات المأساوية الساخرة كافة التي يدبرها مزاج الغضب لدى كل منا تجاه مهانة وجوده .. ومثلما يغيب المكان كلما اقتربنا، ويضيع تمامًا كلما وصلنا إليه؛ فإن الوداع الذي كنت وميادة نطارده منذ اللحظة الأولى كان يتبدد بضراوة متصاعدة، ورغم محاذير “الخبرة”، كلما صرنا أكثر تشبثًا ببعضنا .. كلما صار كل منا أكثر التصاقًا وتورطًا مع نفسه تحت وطأة هذا التعلق .. كان غريبًا ومفجعًا أن يؤدي القرب بيننا إلى أمل في “تغيير العالم”.

لم أتوجه بنظرتي ناحيتها وهي تسير على يميني وإن كنت لم أتوقف عن استراق النظر لملامحها وجسدها بطرف عين، وأحيانًا كنت أنظر لأسفل شاكرًا القدر أنها ترتدي حذاءً لا يُظهر أصابع قدميها .. كان بوسعي سماع أنفاسها اللاهثة رغم الضجيج، بل بدا كأن ضجيج الشارع تحديدًا هو ما يدعم هذا الوضوح لصوت أنفاسها دون أن يمتزج به؛ صار لهاثها الرقيق نغمة متفردة والضجيج كورال مشتت في خلفيتها .. كانت القاهرة هذا المساء غريبة: ليست بالغة القبح أو شديدة الجمال كما تكون دائمًا حين آتي إليها في مرات نادرة .. كانت غريبة لأنني للمرة الأولى أمشي في شارع قاهري محاولًا إبطاء خطواتي التي يشكو من سرعتها “غير المبررة” كل من يرافق سيري، ومع ذلك ثمة شابة لا أعرفها، بينما يتلاصق جسدانا من حين لآخر بصورة خاطفة، تخبرني إيقاعات كعبها العالي بأنني لست في حاجة لهذا الإبطاء، لأنها أيضًا تمتلك طبيعة من يهرع لإنقاذ أحد ما أو اللحاق بشيء مجهول حتى لو كان المشوار مجرد نزهة أو ذهاب إلى مقهى …

جزء من رواية قيد الكتابة

الصورة لـ joel peter witkin