يقول الروائي رفائيل ريج:
“ولكننا انتبهنا إلى أن هذا التمرد والتجريب قد خلق قطيعة مع القارئ، لذا قررنا ألا تكون أعمالنا عبارة عن مونولوج داخلي ومغرق في الذاتية، وإنما حاولنا استعادة العلاقة مع المتلقي، ومن ذلك عدنا، نوعًا ما، إلى التجنيس والتصنيف كوسيلة يعرفها القارئ”.
“وبما أننا بالأصل لا نقصد أن نستعرض أو نتبجح أمام القارئ بذكائنا، وأن هدفنا هو التواصل معه، أي يهمنا أن نكون مقروئين، فقد عدنا إلى ما يثق به القارئ وما يهمه .. إلى البحث عن متلقي مكمل وشريك ولاعب مع الكاتب، وخاصة فيما يتعلق بالقضايا التي تهم الإنسان المعاصر”.
“هناك تيار ما بعد الحداثة، وهو الذي أحسب نفسي عليه، حيث ذلك الصنف الذي يتعامل مع الإرث الأدبي نفسه ويسخر منه، فأقوم بمزج الأجناس، أدب عن الأدب .. سخرية حتى من العمل داخل العمل نفسه وكسر قوالب السرد، نوع من المسافة لاحترام القارئ، ولكن دون خداعه”.
إن القارئ بالنسبة للروائي “التجريبي” أو “المتمرد” هو كائن غائم، محتمل، لا يتصف بالعمومية، ولا ينفصل عن الكاتب، ولكنه لا يطابقه كليًا كما يتراءى لنفسه لحظة الكتابة، أي كما يتخيّل الروائي ذاته على نحو تام. هو أشبه بالشبح الذي يتم اكتشافه بواسطة الكتابة، أو القرين الغامض الذي تقتفي الرواية أثره فيبدو أنها تخلقه أكثر مما تعثر عليه، وهذا ما لا يجعل القارئ المحتمل نسخة صارمة من الكاتب وإنما طيفًا خفيًا لوجوده، يفكك بطريقته المراوغة صورة الروائي في مرآة الواقع، فرضية ممكنة وعسيرة تختبئ في كوابيسه. بذلك فإن فكرة “القطيعة مع القارئ” وما يتبعها من “استعادة العلاقة مع المتلقي” هي جزء أصيل من انشغال وعمل هذا الكاتب باعتبارها موضع “تقويض” وليست “رهابًا”؛ حيث أن تخريب الطبيعة النمطية لـ “التواصل” هو مرادف بديهي للتجريب، فضلًا عن أن “الاستعراض” و”التبجح” إلى آخر الصفات التي يستسهل القارئ وبشكل عام إطلاقها على الأعمال “الغرائبية” كدفاع غريزي عن ثوابته ومسلماته؛ حينما يستعملها الروائي نفسه بتصديق وإيمان فإن الأمر لا يرجع لسلطة القارئ نفسه بقدر ما ينتج عن وعي الكاتب بالتمرد، أي بحدوده التي لا يجب ـ في تصوّره ـ أن تطغى على ما يسميه “ثقة القارئ” أو “المتعة الآمنة للمتلقي”. روائي يحذر من اغتنام العداوة الناجمة عن “ضربة الفأس ضد البحر المتجمد” بتعبير كافكا. من هنا يمكن النظر إلى تعبير “احترام القارئ” عند تبني السخرية من الإرث الأدبي أو مزج الأجناس أو كسر قوالب السرد بأنه يدل على نوع من التسوية التي يحاول الروائي من خلالها ـ مدفوعًا بذلك الانحياز ـ إيجاد توازن بين حاجته الضرورية للعب من جهة وبين أن يكون “مقروءًا” من جهة أخرى.
يقول الروائي خافيير غارثيا سانجث:
“أكتب الرواية بطريقة مختلفة لأنه في هذه الأيام، يبدو أن أي أحد يمكنه كتابة رواية، ويجرؤ على نشر قصة خيالية، قصة ركيكة تحت يافطة الرواية. لذا فمن الضروري أو من الأفضل والصحي، ولكن ليس لا غنى عنه، أن توجد كتابة مختلفة، بعض الروايات ليست لمجرد الترفيه، وإنما لتحريك أو لخرق روح القارئ، وإذا أغاظت بعضهم .. فهذا أفضل وهو المُرتجى”.
أحيانًا يبدو ثمة تناقض بين سعي الروائي “لخرق روح القارئ” وبين إدانته أن يكتب “أي أحد” رواية، متعللًا بتلك اللافتة الأزلية “المبتذلة” و”المرهبة” التي تسمى “الركاكة”. لماذا يبدو تناقضًا؟. لأن الروائي يُفترض هنا أن يكون مجابهًا للتسلط بشتى طرقه وأشكاله، ولعل استعمال وصف “الركاكة” بحد ذاته يعتبر سيفًا مجانيًا على رقبة من يريد ممارسة “حقه” في كتابة الرواية كلما أراد من يعد نفسه “روائيًا حقيقيًا” أن يشبع عفويًا ودون اعتراف بذلك شعورًا متوطدًا بالنقص وانعدام الثقة. يبدو تناقضًا لأن الروائي يُفترض هنا أن يستوعب بأن أعماله التي يتفاخر بكونها سببًا “للإغاظة” يسهل في المقابل وبنفس التلقائية أن تبرر وضع سيف “الركاكة” على رقبته من قِبل قارئ أو روائي آخر يترصد في جبهة مضادة، ذلك لأن “الركاكة” شأن أي مفهوم رجعي مستبد ليس أكثر من قناع بلا وجه، يمكن لأي شخص ارتدائه تمجيدًا في ذاته وتحقيرًا مما يعارضه، مشكّلًا ملامحه المصطنعة بما يروق له من أفكار ومبادئ تريد فرض نفسها كمرجعية كونية أو قانون مطلق. لكنه ليس تناقضًا؛ لأنه ليس كل روائي يسعى “لخرق روح القارئ” بوسعه تأمل “قدرته الفعلية” على تحقيق ذلك، أي محاكمة اليقينيات واقتلاع الجذور التي تعطّل بصيرته الروائية عن أن يكون “مخرّبًا” حقًا.
يقول الروائي خافيير مارياس:
“إن الأمر يتعلق بنشاط شعبي يدفع بأي شخص قد تعلم القراءة والكتابة في المدرسة، إلى عدم الاكتراث بأي نوع من أنواع الدراسات العليا ولا التوجه إلى أي تخصص”.
“كتابة الرواية لا تمتلك مميزات خاصة بها؛ والدليل على ذلك هو أنها جنس كتابي ـ اتفق على ذلك أو لم يُتفق ـ يمارس كل أصناف الفردية، مهما كان نوع المهنة أو التخصص، وعليه تُفترض فيه السهولة وخلوه من أية أسرار. وفي ضوء هذا، وحده، يمكنكم تفسير كتابتها من قبل: الشعراء، الفلاسفة، كتاب السيناريوهات، الاجتماعيين، اللغويين، السياسيين، المطربين، المذيعات، مدربي كرة القدم، المهندسين، معلمي المدارس، العمال، الممثلين، النقاد، الأرستقراطيين، القساوسة، ربات البيوت، أطباء النفس، أساتذة الجامعات، العسكريين ورعاة الماعز. وهذا أمر يدعو إلى التفكير بلا شك. وإذا ما تركنا جانبًا سهولتها وخلوها من خصائص محددة، فلا بد أن تعطي الرواية شيئًا ما، أو على الأقل أن تنشئ زخرفية جيدة .. ولكن أي نوع من الزخرف هذا الذي يكون في متناول يد كل المهن؟! وبغض النظر عن مكوناتها السابقة .. ماذا سيقدم؟ هل هي سمعة ومكسب إذًا؟”.
“إن الروائي الواقعي ـ أو الذي يُسمى هكذا ـ هو الشخص الذي يكون عند الكتابة متواجدًا ويعيش على الأرض، كما هي أو كما يحدث فيها من وقائع، مازجًا عمله بعمل المؤرخ أو الصحفي أو الموثق. أما الروائي الحقيقي فهو لا يعكس الواقع، وإنما الأصح، يعكس اللاواقع، مدركًا بأن هذا الأخير لا يمكن تصديقه ولا هو بالفنتازيا .. وإنما ببساطة، هو ما يستطيع الواقع أن يعطيه ولكنه لم يعطه .. وهو شيء على العكس من الأفعال، ومن الحوادث، ومن المعطيات والمعلومات والماجريات .. على العكس من (ما يحدث). هذا فقط ما يمكن اعتباره ممكنًا وتستمر إمكانية وجوده .. هو احتمال أدبي في كل زمان ومكان. ولهذا ما زالت تُقرأ حتى اليوم روايات مثل: دون كيخوته ومدام بوفاري”.
إن كتابة الرواية من قِبل أشخاص، وبالهزل المعتاد المثير للسخرية، يٌحكم عليهم بعدم “الأصالة” لكونهم ينطلقون في كتاباتهم من “تخصصات غير روائية” كما يتم تصنيفهم عند البعض ـ أو الكثيرين ـ ليست حجة حاسمة في استبعادهم عن “الفن الروائي” أو نفي “المقدرة الروائية” عن أعمالهم، استنادًا إلى ما يُطلق عليها “الزخرفية الجيدة” التي بحسب “الأوصياء” على هذا النوع الكتابي لابد أن تقدّمها الرواية؛ فهذه “الزخرفية” مسألة نسبية تمامًا، لا ترضخ لقواعد إلهية أو معايير جازمة، أي أنه لكل عمل روائي، بصرف النظر عن مهنة كاتبه، ما يمكن أن ندعوها “زخرفيته الخاصة” التي تمتلك طوال الوقت فرصة الإشارة إلى اختلافها، أي أن تبين خصوصيتها وسط ما يظن أنه “مشاع روائي” أو مجرد “نشاط شعبي” يستهدف السمعة والمكسب وحسب، بعيدًا عن “القيمة الجمالية” التي لا تضمنها بالتأكيد “الدراسات العليا”، وبهذا فإن إجادة القراءة والكتابة تسمح بالفعل لأي شخص “أن يمارس حقه” في كتابة الرواية، سواء كان مكترثًا بأن يكون “متخصصًا في الأدب” أم لا، فهذه الخصوصية قد تحققت بالفعل لحظة الكتابة. الأمر يرجع إلى اكتشاف الحاجة والرغبة ومن ثمّ اتخاذ القرار الذي يعادل رهانًا شخصيًا لا يُفترض أن تسيطر عليه محاذير استعلائية، حيث تظل كيفية دعم هذا القرار بكل الوسائل الممكنة شأنًا ذاتيًا وليس إلحاحًا أبويًا بالإخضاع والمعاقبة. إن التهديد بـ “الجودة” ليس أكثر من استخدام متعسف للغة، سيادة انتهازية على الكتابة، فالروائي يستهدف “جودته” التي لا تعني في النهاية سوى سرابية “الجودة” نفسها مقابل أن يفعل ما يرى أنه يتحتم عليه القيام به، وليس إرضاء ذائقة معيّنة “متغيّرة بتعدد الأوصياء”، تطارده دومًا من أجل الامتثال لمتطلباتها، هربًا من الوصم بـ “الرداءة”.
ينشأ التمييز أحيانًا بواسطة تحديد تعريفين مختلفين لمصطلحين، يتسم أحدهما بالأفضلية والآخر بالدونية إشباعًا لرغبة “تنظيرية” في إبداء التفوق مع الانتماء إلى المصطلح “الأفضل” والتبرؤ من “الأدنى”. ليس هناك أسهل من ممارسة هذا الخداع اللغوي في مجال “الأدب”، ذلك لأن السمات التي يتم تعيينها للفصل بين المصطلحين “المخترعين” لا تعدو أكثر من “بلاغة”، حين تخضع للخلخلة ستتناثر دون تفاوت “طبقي” بحيث يمكن لأنقاض أي منهما أن تنسب للآخر. التمييز بين الروائي “الواقعي” والروائي “الحقيقي” يندرج تحت هذا الوهم. من الذي يستطيع أن يقرر، وبنقاء كامل من الشك، بأن الرواية التي تقدم ـ بحسب الإكراهات المصطلحية ـ ما يسمى بالحوادث والمعلومات “الموثقة” لا يمكن أن يكون لها “تأثير” الرواية التي تقدم “حيوات متخيلة”، أو “اللاواقع”؟ من الذي يستطيع بالأساس أن يضع حدًا ملزمًا يفصل “الخيال” عن ما يعد توثيقًا للواقع في الرواية؟ أليس “ما جرى” ـ وفقًا لما هو جدير بأن يعرفه كل روائي ـ مهما كانت “الدقة” في استدعائه لن يكون كما هو حين يُكتب، وسيكون دائمًا شيئًا آخر حين يُقرأ؟ ألا يكمن الخيال في ما هو أكثر اتساعًا من “اللاواقع” حيث تكشف “الحادثة” أو “المعلومة” عن جوهرها التخييلي لحظة الكتابة؟ إن مادة المؤرخ أو الصحفي ليست محصنة في “واقعيتها” التي لا يخدشها التوظيف الروائي، ولكنها خيالية أيضًا وفقًا لما يسمى “زاوية النظر” التي لا يضبطها “المصطلح” وإنما مشيئة الرواية نفسها بحيث يمكن لهذه المادة أن تفصح عن ذخيرتها الخيالية وبالأثر ذاته الناجم عن دون كيخوته ومدام بوفاري.
يقول الروائي مانويل فرانثيسكو رينا:
“أعتقد أن أي كاتب يجب أن يشعر بأنه مرتاح مع أي جنس كتابي يعبّر به، مثل الإغريقيين، الذين كان بالنسبة إليهم، كل شيء هو شعر أو (إبداع / خلق) سواء أكان مسرحًا أو أساطير أو نثرًا أو شعرًا، بالنسبة إليّ أشعر بالراحة مع كل هذه الأجناس التي أكتب بها، ولكن بشكل أكبر مع الشعر، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ما يراه أو يعتبره الآخرون أنه الجنس الذي ينجح فيه الكاتب أكثر من غيره، إضافة إلى أنني أضع ما هو شعري دائمًا في كل ما أكتبه، بما في ذلك في الصحافة، المهم في النهاية أن يشعر الكاتب بالراحة في التعبير عبر الجنس الذي يكتب فيه”.
تعيد هذه الكلمات كتابة ما ذكرته سابقًا حول ذلك الفرق المدعي بين الروائي “الواقعي” و”الحقيقي”، فهي كلمات مجابهة للتمييز، وتتموضع في ما يستحق التركيز عليه عند مقاربة الرواية “المهم في النهاية أن يشعر الكاتب بالراحة في التعبير عبر الجنس الذي يكتب فيه”. ذلك هو الأساسي هنا بعيدًا عن “التنظير”، فالأمر يتعلق بالمرح الفردي وبمأساوية هذا المرح عند البناء والهدم، لحظات الاتساق والطيش، المبادلة بين الرصانة والجموح، لا بتحويل هذه الارتكابات إلى “نظام موجِب” للفن الروائي.
يقول الروائي مانويل فرانثيسكو رينا أيضًا:
“بشكل عام، هناك تجريب أقل بكثير مما كان عليه الأمر سابقًا، وأرى أن من بين أسباب ذلك هو أن المستوى الثقافي والمعرفي للكُتاب قد تراجع وكذلك المستوى الثقافي عند القراء، وأصبح أقل مما كان عليه في مراحل سابقة، وشروط السوق، والطلب التي ذكرناها، هي السبب في ذلك، بحيث صار الكتاب الأكثر تجريبية هو الأقل مبيعًا، ولذلك تتم المراهنة على أدب أكثر بساطة ومباشرة ووضوح، كونه يصل إلى القراء بشكل أسهل وأسرع وأوسع”.
يحق للروائي أن يقارن بين عمله “التجريبي” وبين أعمال الآخرين التي يراها “أكثر بساطة ومباشرة ووضوحًا”، أي ما هو “أكثر مبيعًا” وفقًا لما يسمى بـ “تراجع المستوى الثقافي عند الكتّاب والقراء”، وكذلك “شروط السوق”. لكن عليه أن يساءل نفسه: على ماذا تعتمد هذه المقارنة حقًا؟ .. على ما يريد أن يكتبه أم على ما يريد أن يقرؤه غالبية الناس “كما يدل كل شيء ربما”؟ .. على عزلته أم صورته في الخارج؟ .. على “تجريبيته” أم على العنف الذي يعتقد أنه من الضروري ممارسته تجاه “الكتابة الرائجة”؟ .. إن الإجابة على هذه الاستفهامات ستحدد ببساطة طبيعة “الجرح” لدى الروائي؛ الرواية بكل ما تفرضه من قتال ضد النمط والقانون “خاصة الذي يجعل كتابة ما أقل شأنًا من أخرى”، أم تشييد هرم روائي للعالم يبدأ من الأسفل حيث “البيست سيلر” وينتهي في القمة “المعتمة” أو “الأنا”؟
يقول الروائي مانويل فرانثيسكو رينا أيضًا:
“إن بلدنا عالق بين الكهنة الذين ترسخوا في العقود الماضية والذين يسيطرون على عالم الجامعات والمؤسسات والجوائز، ويعيدون أنفسهم بشكل مضجر ومستمر من خلال الكليشيهات والصيغ نفسها، وبين أولئك الذين يتطلعون إلى العثور على نموذج سردي ناجح يتناسب مع صرعات اللحظة الراهنة ومع ما يفترض أن تبحث عنه دور النشر. أجد الأمر مزعجًا وعقيمًا”.
إلى ماذا يتوجه “الغضب الروائي” في حالته التجريبية بالنظر إلى ما يحيط بالكتابة مما يسهل وصفه بعوامل “الانحطاط” أو بتهذيب أكثر “غياب النزاهة”؟ ثمة فرق بين توجيه الغضب إلى “أنواع الرواية الأخرى”، وبين توجيهه إلى السياقات المعرفية السائدة، المتجذرة بطبيعة الحال، التي لا تبدأ بما هو “رسمي” ولا تنتهي بما هو “جماهيري”. السياقات التي تفاضل وتفرز وتقصي وفقًا لآليات “شعبوية” بكل ما تتضمنه هذه الكلمة من علاقات القوة والاستثمار التجاري وإعادة التدوير المروّضة. السياقات التي تكتب تاريخًا زائفًا بالتزامن بين التكريس من جهة والإزاحة من جهة أخرى، وليس “الرواية” نفسها، المغايرة فقط عن روايتك، التي يكتبها شخص آخر لديه ـ مثلك ـ ما يبرر فعل ذلك، وهذا ما يفترض بالضرورة أن يحدد للروائي الدائرة “العتيدة” التي تحاصره، وينبغي أن تستهدفها بصماته التدميرية.
يقول الروائي خوسيه لويس سامبيدرو:
“إن الحقيقة الروائية تصل إلى أقصاها عندما تُكتب بدافع حاجة داخلية … في إحدى مقابلاته الصحفية المنشورة أخيرًا، ينبه رودولف نورييف تلاميذ رقص الباليه، بالقول: (إذا استطعتم العيش بلا رقص، فاتركوه فورًا). هذه النصيحة تصلح أيضًا للكتاب. فالرواية العظيمة تظهر مثل ورم في أحشاء الروائي، ولا بد من إجراء عملية له. أي كتابتها. إذن فليس المؤلف هو الذي يقوم بإنتاجها، وإنما هي التي تتبلور داخله وتستخدم قلمه أو ريشته من أجل الطيران، مثلما يجبر الجنين أمه على الولادة”.
إن الحقيقة الروائية تصل إلى أقصاها حينما يكون ثمة وعي بالاحتياج إلى كتابة رواية تضمر دافعًا مستعادًا لاستجواب تاريخ الفن الروائي. الوصول بالعالم إلى إنكار نفسه، بكل ما يؤطره من نماذج قهرية للكتابة، أي استدراجه نحو ذلك العمى الساحر الذي تنتهي إليه الرواية كغاية مؤجلة، ظلت تخطو عبر أشلاء اللغة قبل أن تتجسد في ما وراء الحياة والموت. الحقيقة الروائية هي التي تنبّه الروائي وعبر متاهاتها غير المتوقعة بأنها ضد كل حقيقة.
أخبار الأدب
6 أكتوبر 2024