بدأت أسجّل حياتي بصوتي بعد الأربعين .. قد يبدو هذا مفهومًا لرجل في منتصف العمر، متحسّر، يائس، لم يعد يغادر بيته، ولم يعد يتكلم أو يستمع إليه أحد .. كان الأمر في بدايته ينطوي على متعة غير مسبوقة .. الاستعادات الشاملة لكل ما يعذب ذاكرتي منذ البداية وحتى الوحدة الأربعينية المحكمة .. كنت أتحدث إلى نفسي في لقاءات متلاحقة كشخص آخر، لم يجرّب ما عاشته نفسي، أو على الأقل لم ينغمس كليًا مثلي في ما مرت به، يسترجع الماضي ويتفحص أحداثه ويحاول أن يجيب على الأسئلة المتكاثرة المتوسلة لتفسيره .. لم تكن المتعة ناجمة فقط عن قدرتي على ايجاد الأسباب والدوافع كافة التي تبرر البؤس المهيمن على حياتي، وإنما في توثيق تلك الحياة بصوتي، كما لو أنني مراقِب منفصل عنها بطريقة ما .. كاشف لمشاهد وتفاصيل الذاكرة عبر مسافة تأملية تدخر قدرًا متوهمًا من الأمان .. كانت هذه المسافة هي البصمة الصوتية للوحدة .. كأن المرء حين يختلي بذاته قاصدًا تشريحها، وتحليل هزائمها في تسجيل صوتي فإنه ينزع نفسه عنها بصورة أو بأخرى .. يتخيل اكتسابه حيادًا تطهريًا من شرورها .. يتحوّل إلى صوت محلق، معزول بشكل ما عن الحياة التي يقتحم أغوارها .. ذلك ما يجعله أكثر التصاقًا بذاته .. أكثر توحدًا بكل ما اختبره .. كأنما يسرد حكاية متصورًا امتلاكها على نحو عابر ـ وبالحميمية اللائقة ـ لصديق مجهول، خفي، بعد أن قضى عمره كله عبدًا لتلك الحكاية.
لكنني اكتشفت، ورغم كل التفسيرات والتبريرات، أن ما أسجّله ليست حياتي، وإنما سيرة محتملة للأطياف المتعددة التي تتوارى بداخلي .. شخصيات مختلفة، لم تكتمل، تكوّنها شذرات غائمة ومتأرجحة، وّلدت مع طفولتي، ويسبق أثرها تلك الطفولة .. تسجيلاتي محاولة لاستنطاق تلك الأطياف التي لا يمكنني القبض عليها، أو التمعن في ملامحها، أو حتى الإبقاء على شعور ثابت بوجودها .. محاولة لجعل هذه الشخصيات تستمع إلى نفسها كلما أعدت تشغيل ما سجّلته بصوتي، أي بما جاهدت أن يكون صوتها .. أردت أن تكتشف الشذرات يقينًا مُخلّصًا لها فتكتسب وضوحًا واستقرارًا ومن ثمّ قدرة إعجازية على استرداد بداياتها، على استدراك الحياة والموت، ما يعني الاستحواذ على فنائي قبل لحظة النهاية.
ومع ذلك؛ في كل مرة أستمع خلالها إلى أحد التسجيلات، أو ما دوّنه الطيف مستعيرًا صوتي، وبالرغم من أن الأمر يبدو مفاجِئًا أحيانًا، من كلمات أشعر بأنني أسمعها للمرة الأولى، كأنما غريب بالنسبة لي يتحدث إلى غريب آخر، وكأن ذاكرتي تتواطأ معي بالنسيان المؤقت في إصابة الهدف الأساسي من التسجيلات “الخطاب التفسيري المشوّق والمؤانس للوحدة” ؛ إلا أن كل هؤلاء الغرباء يظهرون في كلامهم وإنصاتهم لبعضهم تعمّدًا بالغ الحسم لطمس أي سيرة مفترضة لهم تسعى للتحرر من خفائي .. تمعن شخصيات الباطن المختلفة في التمزق والتناثر والغياب، فتتحول طفولتي إلى مزيد من التشذر ويتمادى أثرها الذي يسبقها في الضياع .. يصبح الكلام والاستماع في حد ذاتهما وهمًا قاهرًا .. يصبح الكلام استماعًا والاستماع كلامًا .. كلاهما متزامنان، متداخلان، منغمسان في اندماج وتبادل وتفكيك لطبيعتيهما .. كلاهما لعب بالقول والإنصات .. يظل اليقين الوحيد إذن كامنًا في ذلك الفراغ الضبابي بين الشرود والانتباه داخل كل صوت .. الفراغ الذي يخلق الملامح ويمحوها .. يستدعي المشاعر ويبددها .. سيرة الأطياف ليست إلا انتقامًا متعدد النبرات من حرمانها من ألوهيتها .. ذلك هو اليقين الوحيد.
حينما أكملت الخامسة والأربعين أدركت أنني هكذا أصبحت متورطًا في جحيم ذاكرتي أكثر من أي وقت مضى .. كأن الأصوات التي تحفظها التسجيلات قد قطعت بي الخطوات الأخيرة في قاع ذلك الجحيم .. بدأ الضجر يداهمني كلما استمعت إلى التسجيلات .. كل ما اكتشفته أو أدركته كان يخاتل بصيرتي مسبقًا .. كنت أحدس به وأتوقعه وأحاول ـ كشخص آخر ـ أن أحتل المساحات الذهنية التي أعلم أنه سيتجسد داخلها .. كنت أقاوم هذا التجسد المحتوم بكل ما تبقى من طفولتي .. مثل كل شيء؛ لم يكن الكلام والإنصات إلا استمناءً .. هكذا قررت أن أخصص جانبًا من تسجيلاتي لكي أشرح للأطياف الغامضة بداخلي علاقة الشتاء بما يُسمّى “التخييل الذاتي” .. أن تشرح تلك الأطياف المتوارية هذه العلاقة لنفسها .. لا أعتبر ذلك “أملًا” أخيرًا في “معجزة” ما .. هو درس فحسب .. درس في الرواية، وفي الشتاء، وفي الألوهة المضادة .. من يدري! .. ربما تحدث المعجزة حقًا.
جزء من رواية “نبوءات لا مرئية” ـ قيد الكتابة