الخميس، 31 أكتوبر 2024

تحميل العدد الرابع من مجلة "الناقد"


 https://www.academia.edu/125131774/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D8%B9_%D9%85%D9%86_%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D9%82%D8%AF?fbclid=IwY2xjawGQXh1leHRuA2FlbQIxMAABHcjbnDvAu5LdGEeVK1SRGWT_sQ6Sz3vMfmEtrq0e7jDwf6N_6ebuX5EmSw_aem_9fqgEVwKtH8wdmR6N4jtnA

إحراق البدايات

مرت لحظات صمت بيننا، كأن كلًا منا يفكر في ما يتعيّن عليه قوله ـ دون خطأ ـ حتى وصولنا المقهى .. اللحظات التي قد تحرّض بصورة لئيمة ومشوّشة على الشعور بأنها بداية حياة المرء على نحو ما .. بداية حياته مع الآخر .. بداية العالم .. آدم وحواء يسقطان من السماء في شارع طلعت حرب .. مطرودان من ألوهتهما ليتحوّلا إلى شيطانين يكتبان سرديتهما الخفية من داخل مخبأهما “الإنساني” .. ليكتشفا انتقامهما من الألوهة .. كنت وميادة تائهين بالرغم من معرفتنا الأكيدة بالمسار إلى “زهرة البستان” .. كأن علينا بناء الكوكب بركام آلامنا وتعميره بالفناء الذي سيتناسل من جثتينا دون أي ذاكرة .. لكنني لم أشعر في تلك اللحظات بأنني وميادة نستنسخ بداية ما، وإنما نختبر نزوة محتملة لإحراق البدايات .. نمنع إحراز الهدف الذاتي في الإعادة التليفزيونية .. نضع رأس الكون في شرجه .. كأنني وميادة سبق أن رسمنا صورة ضبابية لجنازة لا تضم سوانا؛ نحن الراقدان في ظلام النعشين، والجالسان وحدنا أمامهما، ومن يحفران وحدهما قبرين لنا في سماء أخرى منسوجة من دمائنا ثم يتلاشيان في العالم مجددًا كبشر عاديين؛ يتجولان بعظام مكسورة وحقائب مشتعلة في سفر بلا انعطافات .. كنت وميادة نفتش عن هذا الوداع الذي تشاركنا في تخيّله بالتسويات المأساوية الساخرة كافة التي يدبرها مزاج الغضب لدى كل منا تجاه مهانة وجوده .. ومثلما يغيب المكان كلما اقتربنا، ويضيع تمامًا كلما وصلنا إليه؛ فإن الوداع الذي كنت وميادة نطارده منذ اللحظة الأولى كان يتبدد بضراوة متصاعدة، ورغم محاذير “الخبرة”، كلما صرنا أكثر تشبثًا ببعضنا .. كلما صار كل منا أكثر التصاقًا وتورطًا مع نفسه تحت وطأة هذا التعلق .. كان غريبًا ومفجعًا أن يؤدي القرب بيننا إلى أمل في “تغيير العالم”.

لم أتوجه بنظرتي ناحيتها وهي تسير على يميني وإن كنت لم أتوقف عن استراق النظر لملامحها وجسدها بطرف عين، وأحيانًا كنت أنظر لأسفل شاكرًا القدر أنها ترتدي حذاءً لا يُظهر أصابع قدميها .. كان بوسعي سماع أنفاسها اللاهثة رغم الضجيج، بل بدا كأن ضجيج الشارع تحديدًا هو ما يدعم هذا الوضوح لصوت أنفاسها دون أن يمتزج به؛ صار لهاثها الرقيق نغمة متفردة والضجيج كورال مشتت في خلفيتها .. كانت القاهرة هذا المساء غريبة: ليست بالغة القبح أو شديدة الجمال كما تكون دائمًا حين آتي إليها في مرات نادرة .. كانت غريبة لأنني للمرة الأولى أمشي في شارع قاهري محاولًا إبطاء خطواتي التي يشكو من سرعتها “غير المبررة” كل من يرافق سيري، ومع ذلك ثمة شابة لا أعرفها، بينما يتلاصق جسدانا من حين لآخر بصورة خاطفة، تخبرني إيقاعات كعبها العالي بأنني لست في حاجة لهذا الإبطاء، لأنها أيضًا تمتلك طبيعة من يهرع لإنقاذ أحد ما أو اللحاق بشيء مجهول حتى لو كان المشوار مجرد نزهة أو ذهاب إلى مقهى …

جزء من رواية قيد الكتابة

الصورة لـ joel peter witkin

لهذا نكتب الروايات: استجواب العالم

تنطوي كتابة رواية جديدة ـ ولو بشكل غير واع ـ على مراجعة للماضي. المنجز الروائي للكاتب، متضمنًا بالضرورة رؤيته وقناعاته تجاه “تاريخ الرواية”، وهو ما يشمل الملابسات العديدة المرتبطة بفعل الكتابة مثل الحياة الشخصية للروائي، وملامح وتوجهات “المناخ الثقافي”، والشروط العامة التي يُعتقد أنها تهيمن على الاستجابات القرائية والنقدية. هي مراجعة استجوابية للغة حيث تبدو “الخبرات” و”التجارب” كأنها تحديدًا ما يضمن لكتابة رواية جديدة أن تظل دائمًا محاولة لكتابة الرواية الأولى. مراجعة استجوابية للعالم.يمثل كتاب “لهذا نكتب الروايات”، شهادات وحوارات روائيين إسبان، ترجمة وإعداد وتقديم د. محسن الرملي، والصادر عن منشورات تكوين، يمثل رفيقًا حميميًا في هذه المغامرة الجدلية للاشتباك مع الفن الروائي، بكل الأرق المتجدد الذي يتسم به العمل على رواية جديدة. من هنا تأتي الخصوصية الممتعة للكتاب التي شكّلها بهاء الترجمة وتنوع الأفكار والقضايا الهامة التي يناقشها عبر الشهادات والحوارات.

يقول الروائي رفائيل ريج:

“ولكننا انتبهنا إلى أن هذا التمرد والتجريب قد خلق قطيعة مع القارئ، لذا قررنا ألا تكون أعمالنا عبارة عن مونولوج داخلي ومغرق في الذاتية، وإنما حاولنا استعادة العلاقة مع المتلقي، ومن ذلك عدنا، نوعًا ما، إلى التجنيس والتصنيف كوسيلة يعرفها القارئ”.

“وبما أننا بالأصل لا نقصد أن نستعرض أو نتبجح أمام القارئ بذكائنا، وأن هدفنا هو التواصل معه، أي يهمنا أن نكون مقروئين، فقد عدنا إلى ما يثق به القارئ وما يهمه .. إلى البحث عن متلقي مكمل وشريك ولاعب مع الكاتب، وخاصة فيما يتعلق بالقضايا التي تهم الإنسان المعاصر”.

“هناك تيار ما بعد الحداثة، وهو الذي أحسب نفسي عليه، حيث ذلك الصنف الذي يتعامل مع الإرث الأدبي نفسه ويسخر منه، فأقوم بمزج الأجناس، أدب عن الأدب .. سخرية حتى من العمل داخل العمل نفسه وكسر قوالب السرد، نوع من المسافة لاحترام القارئ، ولكن دون خداعه”.

إن القارئ بالنسبة للروائي “التجريبي” أو “المتمرد” هو كائن غائم، محتمل، لا يتصف بالعمومية، ولا ينفصل عن الكاتب، ولكنه لا يطابقه كليًا كما يتراءى لنفسه لحظة الكتابة، أي كما يتخيّل الروائي ذاته على نحو تام. هو أشبه بالشبح الذي يتم اكتشافه بواسطة الكتابة، أو القرين الغامض الذي تقتفي الرواية أثره فيبدو أنها تخلقه أكثر مما تعثر عليه، وهذا ما لا يجعل القارئ المحتمل نسخة صارمة من الكاتب وإنما طيفًا خفيًا لوجوده، يفكك بطريقته المراوغة صورة الروائي في مرآة الواقع، فرضية ممكنة وعسيرة تختبئ في كوابيسه. بذلك فإن فكرة “القطيعة مع القارئ” وما يتبعها من “استعادة العلاقة مع المتلقي” هي جزء أصيل من انشغال وعمل هذا الكاتب باعتبارها موضع “تقويض” وليست “رهابًا”؛ حيث أن تخريب الطبيعة النمطية لـ “التواصل” هو مرادف بديهي للتجريب، فضلًا عن أن “الاستعراض” و”التبجح” إلى آخر الصفات التي يستسهل القارئ وبشكل عام إطلاقها على الأعمال “الغرائبية” كدفاع غريزي عن ثوابته ومسلماته؛ حينما يستعملها الروائي نفسه بتصديق وإيمان فإن الأمر لا يرجع لسلطة القارئ نفسه بقدر ما ينتج عن وعي الكاتب بالتمرد، أي بحدوده التي لا يجب ـ في تصوّره ـ أن تطغى على ما يسميه “ثقة القارئ” أو “المتعة الآمنة للمتلقي”. روائي يحذر من اغتنام العداوة الناجمة عن “ضربة الفأس ضد البحر المتجمد” بتعبير كافكا. من هنا يمكن النظر إلى تعبير “احترام القارئ” عند تبني السخرية من الإرث الأدبي أو مزج الأجناس أو كسر قوالب السرد بأنه يدل على نوع من التسوية التي يحاول الروائي من خلالها ـ مدفوعًا بذلك الانحياز ـ إيجاد توازن بين حاجته الضرورية للعب من جهة وبين أن يكون “مقروءًا” من جهة أخرى.    

يقول الروائي خافيير غارثيا سانجث:

“أكتب الرواية بطريقة مختلفة لأنه في هذه الأيام، يبدو أن أي أحد يمكنه كتابة رواية، ويجرؤ على نشر قصة خيالية، قصة ركيكة تحت يافطة الرواية. لذا فمن الضروري أو من الأفضل والصحي، ولكن ليس لا غنى عنه، أن توجد كتابة مختلفة، بعض الروايات ليست لمجرد الترفيه، وإنما لتحريك أو لخرق روح القارئ، وإذا أغاظت بعضهم .. فهذا أفضل وهو المُرتجى”.

أحيانًا يبدو ثمة تناقض بين سعي الروائي “لخرق روح القارئ” وبين إدانته أن يكتب “أي أحد” رواية، متعللًا بتلك اللافتة الأزلية “المبتذلة” و”المرهبة” التي تسمى “الركاكة”. لماذا يبدو تناقضًا؟. لأن الروائي يُفترض هنا أن يكون مجابهًا للتسلط بشتى طرقه وأشكاله، ولعل استعمال وصف “الركاكة” بحد ذاته يعتبر سيفًا مجانيًا على رقبة من يريد ممارسة “حقه” في كتابة الرواية كلما أراد من يعد نفسه “روائيًا حقيقيًا” أن يشبع عفويًا ودون اعتراف بذلك شعورًا متوطدًا بالنقص وانعدام الثقة. يبدو تناقضًا لأن الروائي يُفترض هنا أن يستوعب بأن أعماله التي يتفاخر بكونها سببًا “للإغاظة” يسهل في المقابل وبنفس التلقائية أن تبرر وضع سيف “الركاكة” على رقبته من قِبل قارئ أو روائي آخر يترصد في جبهة مضادة، ذلك لأن “الركاكة” شأن أي مفهوم رجعي مستبد ليس أكثر من قناع بلا وجه، يمكن لأي شخص ارتدائه تمجيدًا في ذاته وتحقيرًا مما يعارضه، مشكّلًا ملامحه المصطنعة بما يروق له من أفكار ومبادئ تريد فرض نفسها كمرجعية كونية أو قانون مطلق. لكنه ليس تناقضًا؛ لأنه ليس كل روائي يسعى “لخرق روح القارئ” بوسعه تأمل “قدرته الفعلية” على تحقيق ذلك، أي محاكمة اليقينيات واقتلاع الجذور التي تعطّل بصيرته الروائية عن أن يكون “مخرّبًا” حقًا.

يقول الروائي خافيير مارياس:

“إن الأمر يتعلق بنشاط شعبي يدفع بأي شخص قد تعلم القراءة والكتابة في المدرسة، إلى عدم الاكتراث بأي نوع من أنواع الدراسات العليا ولا التوجه إلى أي تخصص”.

“كتابة الرواية لا تمتلك مميزات خاصة بها؛ والدليل على ذلك هو أنها جنس كتابي ـ اتفق على ذلك أو لم يُتفق ـ يمارس كل أصناف الفردية، مهما كان نوع المهنة أو التخصص، وعليه تُفترض فيه السهولة وخلوه من أية أسرار. وفي ضوء هذا، وحده، يمكنكم تفسير كتابتها من قبل: الشعراء، الفلاسفة، كتاب السيناريوهات، الاجتماعيين، اللغويين، السياسيين، المطربين، المذيعات، مدربي كرة القدم، المهندسين، معلمي المدارس، العمال، الممثلين، النقاد، الأرستقراطيين، القساوسة، ربات البيوت، أطباء النفس، أساتذة الجامعات، العسكريين ورعاة الماعز. وهذا أمر يدعو إلى التفكير بلا شك. وإذا ما تركنا جانبًا سهولتها وخلوها من خصائص محددة، فلا بد أن تعطي الرواية شيئًا ما، أو على الأقل أن تنشئ زخرفية جيدة .. ولكن أي نوع من الزخرف هذا الذي يكون في متناول يد كل المهن؟! وبغض النظر عن مكوناتها السابقة .. ماذا سيقدم؟ هل هي سمعة ومكسب إذًا؟”.

“إن الروائي الواقعي ـ أو الذي يُسمى هكذا ـ هو الشخص الذي يكون عند الكتابة متواجدًا ويعيش على الأرض، كما هي أو كما يحدث فيها من وقائع، مازجًا عمله بعمل المؤرخ أو الصحفي أو الموثق. أما الروائي الحقيقي فهو لا يعكس الواقع، وإنما الأصح، يعكس اللاواقع، مدركًا بأن هذا الأخير لا يمكن تصديقه ولا هو بالفنتازيا .. وإنما ببساطة، هو ما يستطيع الواقع أن يعطيه ولكنه لم يعطه .. وهو شيء على العكس من الأفعال، ومن الحوادث، ومن المعطيات والمعلومات والماجريات .. على العكس من (ما يحدث). هذا فقط ما يمكن اعتباره ممكنًا وتستمر إمكانية وجوده .. هو احتمال أدبي في كل زمان ومكان. ولهذا ما زالت تُقرأ حتى اليوم روايات مثل: دون كيخوته ومدام بوفاري”.

إن كتابة الرواية من قِبل أشخاص، وبالهزل المعتاد المثير للسخرية، يٌحكم عليهم بعدم “الأصالة” لكونهم ينطلقون في كتاباتهم من “تخصصات غير روائية” كما يتم تصنيفهم عند البعض ـ أو الكثيرين ـ ليست حجة حاسمة في استبعادهم عن “الفن الروائي” أو نفي “المقدرة الروائية” عن أعمالهم، استنادًا إلى ما يُطلق عليها “الزخرفية الجيدة” التي بحسب “الأوصياء” على هذا النوع الكتابي لابد أن تقدّمها الرواية؛ فهذه “الزخرفية” مسألة نسبية تمامًا، لا ترضخ لقواعد إلهية أو معايير جازمة، أي أنه لكل عمل روائي، بصرف النظر عن مهنة كاتبه، ما يمكن أن ندعوها “زخرفيته الخاصة” التي تمتلك طوال الوقت فرصة الإشارة إلى اختلافها، أي أن تبين خصوصيتها وسط ما يظن أنه “مشاع روائي” أو مجرد “نشاط شعبي” يستهدف السمعة والمكسب وحسب، بعيدًا عن “القيمة الجمالية” التي لا تضمنها بالتأكيد “الدراسات العليا”، وبهذا فإن إجادة القراءة والكتابة تسمح بالفعل لأي شخص “أن يمارس حقه” في كتابة الرواية، سواء كان مكترثًا بأن يكون “متخصصًا في الأدب” أم لا، فهذه الخصوصية قد تحققت بالفعل لحظة الكتابة. الأمر يرجع إلى اكتشاف الحاجة والرغبة ومن ثمّ اتخاذ القرار الذي يعادل رهانًا شخصيًا لا يُفترض أن تسيطر عليه محاذير استعلائية، حيث تظل كيفية دعم هذا القرار بكل الوسائل الممكنة شأنًا ذاتيًا وليس إلحاحًا أبويًا بالإخضاع والمعاقبة. إن التهديد بـ “الجودة” ليس أكثر من استخدام متعسف للغة، سيادة انتهازية على الكتابة، فالروائي يستهدف “جودته” التي لا تعني في النهاية سوى سرابية “الجودة” نفسها مقابل أن يفعل ما يرى أنه يتحتم عليه القيام به، وليس إرضاء ذائقة معيّنة “متغيّرة بتعدد الأوصياء”، تطارده دومًا من أجل الامتثال لمتطلباتها، هربًا من الوصم بـ “الرداءة”.

ينشأ التمييز أحيانًا بواسطة تحديد تعريفين مختلفين لمصطلحين، يتسم أحدهما بالأفضلية والآخر بالدونية إشباعًا لرغبة “تنظيرية” في إبداء التفوق مع الانتماء إلى المصطلح “الأفضل” والتبرؤ من “الأدنى”. ليس هناك أسهل من ممارسة هذا الخداع اللغوي في مجال “الأدب”، ذلك لأن السمات التي يتم تعيينها للفصل بين المصطلحين “المخترعين” لا تعدو أكثر من “بلاغة”، حين تخضع للخلخلة ستتناثر دون تفاوت “طبقي” بحيث يمكن لأنقاض أي منهما أن تنسب للآخر. التمييز بين الروائي “الواقعي” والروائي “الحقيقي” يندرج تحت هذا الوهم. من الذي يستطيع أن يقرر، وبنقاء كامل من الشك، بأن الرواية التي تقدم ـ بحسب الإكراهات المصطلحية ـ ما يسمى بالحوادث والمعلومات “الموثقة” لا يمكن أن يكون لها “تأثير” الرواية التي تقدم “حيوات متخيلة”، أو “اللاواقع”؟ من الذي يستطيع بالأساس أن يضع حدًا ملزمًا يفصل “الخيال” عن ما يعد توثيقًا للواقع في الرواية؟ أليس “ما جرى” ـ وفقًا لما هو جدير بأن يعرفه كل روائي ـ مهما كانت “الدقة” في استدعائه لن يكون كما هو حين يُكتب، وسيكون دائمًا شيئًا آخر حين يُقرأ؟ ألا يكمن الخيال في ما هو أكثر اتساعًا من “اللاواقع” حيث تكشف “الحادثة” أو “المعلومة” عن جوهرها التخييلي لحظة الكتابة؟ إن مادة المؤرخ أو الصحفي ليست محصنة في “واقعيتها” التي لا يخدشها التوظيف الروائي، ولكنها خيالية أيضًا وفقًا لما يسمى “زاوية النظر” التي لا يضبطها “المصطلح” وإنما مشيئة الرواية نفسها بحيث يمكن لهذه المادة أن تفصح عن ذخيرتها الخيالية وبالأثر ذاته الناجم عن دون كيخوته ومدام بوفاري.

يقول الروائي مانويل فرانثيسكو رينا:

“أعتقد أن أي كاتب يجب أن يشعر بأنه مرتاح مع أي جنس كتابي يعبّر به، مثل الإغريقيين، الذين كان بالنسبة إليهم، كل شيء هو شعر أو (إبداع / خلق) سواء أكان مسرحًا أو أساطير أو نثرًا أو شعرًا، بالنسبة إليّ أشعر بالراحة مع كل هذه الأجناس التي أكتب بها، ولكن بشكل أكبر مع الشعر، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ما يراه أو يعتبره الآخرون أنه الجنس الذي ينجح فيه الكاتب أكثر من غيره، إضافة إلى أنني أضع ما هو شعري دائمًا في كل ما أكتبه، بما في ذلك في الصحافة، المهم في النهاية أن يشعر الكاتب بالراحة في التعبير عبر الجنس الذي يكتب فيه”.

تعيد هذه الكلمات كتابة ما ذكرته سابقًا حول ذلك الفرق المدعي بين الروائي “الواقعي” و”الحقيقي”، فهي كلمات مجابهة للتمييز، وتتموضع في ما يستحق التركيز عليه عند مقاربة الرواية “المهم في النهاية أن يشعر الكاتب بالراحة في التعبير عبر الجنس الذي يكتب فيه”. ذلك هو الأساسي هنا بعيدًا عن “التنظير”، فالأمر يتعلق بالمرح الفردي وبمأساوية هذا المرح عند البناء والهدم، لحظات الاتساق والطيش، المبادلة بين الرصانة والجموح، لا بتحويل هذه الارتكابات إلى “نظام موجِب” للفن الروائي.

يقول الروائي مانويل فرانثيسكو رينا أيضًا:

“بشكل عام، هناك تجريب أقل بكثير مما كان عليه الأمر سابقًا، وأرى أن من بين أسباب ذلك هو أن المستوى الثقافي والمعرفي للكُتاب قد تراجع وكذلك المستوى الثقافي عند القراء، وأصبح أقل مما كان عليه في مراحل سابقة، وشروط السوق، والطلب التي ذكرناها، هي السبب في ذلك، بحيث صار الكتاب الأكثر تجريبية هو الأقل مبيعًا، ولذلك تتم المراهنة على أدب أكثر بساطة ومباشرة ووضوح، كونه يصل إلى القراء بشكل أسهل وأسرع وأوسع”.

يحق للروائي أن يقارن بين عمله “التجريبي” وبين أعمال الآخرين التي يراها “أكثر بساطة ومباشرة ووضوحًا”، أي ما هو “أكثر مبيعًا” وفقًا لما يسمى بـ “تراجع المستوى الثقافي عند الكتّاب والقراء”، وكذلك “شروط السوق”. لكن عليه أن يساءل نفسه: على ماذا تعتمد هذه المقارنة حقًا؟ .. على ما يريد أن يكتبه أم على ما يريد أن يقرؤه غالبية الناس “كما يدل كل شيء ربما”؟ .. على عزلته أم صورته في الخارج؟ .. على “تجريبيته” أم على العنف الذي يعتقد أنه من الضروري ممارسته تجاه “الكتابة الرائجة”؟ .. إن الإجابة على هذه الاستفهامات ستحدد ببساطة طبيعة “الجرح” لدى الروائي؛ الرواية بكل ما تفرضه من قتال ضد النمط والقانون “خاصة الذي يجعل كتابة ما أقل شأنًا من أخرى”، أم تشييد هرم روائي للعالم يبدأ من الأسفل حيث “البيست سيلر” وينتهي في القمة “المعتمة” أو “الأنا”؟

يقول الروائي مانويل فرانثيسكو رينا أيضًا:

“إن بلدنا عالق بين الكهنة الذين ترسخوا في العقود الماضية والذين يسيطرون على عالم الجامعات والمؤسسات والجوائز، ويعيدون أنفسهم بشكل مضجر ومستمر من خلال الكليشيهات والصيغ نفسها، وبين أولئك الذين يتطلعون إلى العثور على نموذج سردي ناجح يتناسب مع صرعات اللحظة الراهنة ومع ما يفترض أن تبحث عنه دور النشر. أجد الأمر مزعجًا وعقيمًا”.

إلى ماذا يتوجه “الغضب الروائي” في حالته التجريبية بالنظر إلى ما يحيط بالكتابة مما يسهل وصفه بعوامل “الانحطاط” أو بتهذيب أكثر “غياب النزاهة”؟ ثمة فرق بين توجيه الغضب إلى “أنواع الرواية الأخرى”، وبين توجيهه إلى السياقات المعرفية السائدة، المتجذرة بطبيعة الحال، التي لا تبدأ بما هو “رسمي” ولا تنتهي بما هو “جماهيري”. السياقات التي تفاضل وتفرز وتقصي وفقًا لآليات “شعبوية” بكل ما تتضمنه هذه الكلمة من علاقات القوة والاستثمار التجاري وإعادة التدوير المروّضة. السياقات التي تكتب تاريخًا زائفًا بالتزامن بين التكريس من جهة والإزاحة من جهة أخرى، وليس “الرواية” نفسها، المغايرة فقط عن روايتك، التي يكتبها شخص آخر لديه ـ مثلك ـ ما يبرر فعل ذلك، وهذا ما يفترض بالضرورة أن يحدد للروائي الدائرة “العتيدة” التي تحاصره، وينبغي أن تستهدفها بصماته التدميرية.  

يقول الروائي خوسيه لويس سامبيدرو:

“إن الحقيقة الروائية تصل إلى أقصاها عندما تُكتب بدافع حاجة داخلية … في إحدى مقابلاته الصحفية المنشورة أخيرًا، ينبه رودولف نورييف تلاميذ رقص الباليه، بالقول: (إذا استطعتم العيش بلا رقص، فاتركوه فورًا). هذه النصيحة تصلح أيضًا للكتاب. فالرواية العظيمة تظهر مثل ورم في أحشاء الروائي، ولا بد من إجراء عملية له. أي كتابتها. إذن فليس المؤلف هو الذي يقوم بإنتاجها، وإنما هي التي تتبلور داخله وتستخدم قلمه أو ريشته من أجل الطيران، مثلما يجبر الجنين أمه على الولادة”.

إن الحقيقة الروائية تصل إلى أقصاها حينما يكون ثمة وعي بالاحتياج إلى كتابة رواية تضمر دافعًا مستعادًا لاستجواب تاريخ الفن الروائي. الوصول بالعالم إلى إنكار نفسه، بكل ما يؤطره من نماذج قهرية للكتابة، أي استدراجه نحو ذلك العمى الساحر الذي تنتهي إليه الرواية كغاية مؤجلة، ظلت تخطو عبر أشلاء اللغة قبل أن تتجسد في ما وراء الحياة والموت. الحقيقة الروائية هي التي تنبّه الروائي وعبر متاهاتها غير المتوقعة بأنها ضد كل حقيقة.

أخبار الأدب

6 أكتوبر 2024

نزع الوجه

يرى نفسه واقفًا أمام المرآة ويقرّب وجهه من سطحها المصقول الواسع .. يرفع أظافره السوداء الطويلة كمخالب ويغرزها بقوة في وجهه .. لا يشعر بألم، لكنه يرى نسخته داخل المرآة على وشك الصراخ .. يخفض يديه إلى جواره بينما تواصل اليدان في المرآة نزع وجه نسخته .. تجرّد جمجمته من الجلد الذي يُشكّل ملامحه مع تفجر الدماء بغزارة فوق ملابسه .. يظل واقفًا أمام المرآة في ترقب لكن الأمر يبدو أنه لن يتوقف .. كأن لوجهه طبقات لانهائية من الأقنعة تواصل أظافره السوداء الطويلة انتزاعها بينما صرخات نسخته في المرآة تدوي بداخله .. في باطن جسده هو .. لم يعد يتحمّل .. تحرّك من أمام المرآة وأحضر بروازًا فارغًا .. مجرد إطار خشبي من غير صورة لكنه ثقيل بما يكفي ليحطم مرآة .. بكل ما لديه من قوة قذف البرواز في سطح المرآة حيث نسخته لا تزال داخلها تواصل نزع وجهها وتصرخ .. ارتطم البرواز بسطح المرآة فشعر كأنما ركلة بالغة الشدة أصابت وجهه مع سماعه لصوت تحطم لوح زجاجي .. سقط على الأرض بوجع وحشي ودوار حاد وضباب كثيف في عينيه .. لكن ذلك لم يمنعه من رؤية نسخته في المرآة وقد استعادت هيئتها السابقة .. رأى نفسه مجددًا يقف هناك عبر السطح المصقول الواسع، مرتديًا نفس ملابسه، وجهه كاملًا وسليمًا، دون أظافر أو دماء  .. ظلت نسخته تنظر إليه وهو ممدد على الأرض، بتنفس واهن، يوشك على الإغماء أو الموت .. تبتسم إليه من داخل المرآة .. ابتسامة مغوية كأنها تدعوه لمضاجعتها .. حاول والدنيا قاربت على الغياب عن وعيه أن يبادلها الابتسام لكن نسخته اختفت من المرآة في اللحظة التي لم يعد يدرك فيها أي شيء.

اللوحة للفنان السوري عمران يونس

عن "سماء القبو"

كلما قرأت ثلاث قصص متتاليات أو أقل، أشعر بتعب في رأسي. حاولت التأمل في السبب، ووجدت أنه بسبب التفكير الشديد ووضع الرموز والأشياء غير المترابطة أساسًا، والتي تغوص في اللاوعي.

في سماء القبو هي المجموعة القصصية الثانية التي أقرأها لصانع القصة القصيرة وأستاذها، ممدوح زرق. تجد ديمومتك حيث أنت في الحاضر تقرأ وتلتمس شيئًا من الماضي وتتمنى أو تخاف شيئًا في المستقبل. أنت تفعل ذلك أو تفعله بك القصص؛ فهي تفعله مع نفسك، فما بالك إذا فعلته مع نفسك حلقت مع ديمومة الكاتب أيضًا؟ في نفس ذات اللحظة التي تدور في فلك نفسك .
لكل كاتب، هذه القصص تعد دروسًا في فن القصة، أفضل من مائة شرح نظري وأكاديمي. على مستوى المتعة والمؤانسة، حققت المطلوب. الجميل هو التنوع في الأفكار، فهي غير متكررة حتى مع مجموعات قصصية أخرى، وهذا يدل على إبداع في مجال القصة القصيرة لا ينضب.
نقدي الوحيد هو غلاف المجموعة والذي لايعبر عن الإسم ولا يناسب حجم المجهود والإبداع المبذولين.
محمود عبد الغني

درس التخييل الذاتي

بدأت أسجّل حياتي بصوتي بعد الأربعين .. قد يبدو هذا مفهومًا لرجل في منتصف العمر، متحسّر، يائس، لم يعد يغادر بيته، ولم يعد يتكلم أو يستمع إليه أحد .. كان الأمر في بدايته ينطوي على متعة غير مسبوقة .. الاستعادات الشاملة لكل ما يعذب ذاكرتي منذ البداية وحتى الوحدة الأربعينية المحكمة .. كنت أتحدث إلى نفسي في لقاءات متلاحقة كشخص آخر، لم يجرّب ما عاشته نفسي، أو على الأقل لم ينغمس كليًا مثلي في ما مرت به، يسترجع الماضي ويتفحص أحداثه ويحاول أن يجيب على الأسئلة المتكاثرة المتوسلة لتفسيره .. لم تكن المتعة ناجمة فقط عن قدرتي على ايجاد الأسباب والدوافع كافة التي تبرر البؤس المهيمن على حياتي، وإنما في توثيق تلك الحياة بصوتي، كما لو أنني مراقِب منفصل عنها بطريقة ما .. كاشف لمشاهد وتفاصيل الذاكرة عبر مسافة تأملية تدخر قدرًا متوهمًا من الأمان .. كانت هذه المسافة هي البصمة الصوتية للوحدة .. كأن المرء حين يختلي بذاته قاصدًا تشريحها، وتحليل هزائمها في تسجيل صوتي فإنه ينزع نفسه عنها بصورة أو بأخرى .. يتخيل اكتسابه حيادًا تطهريًا من شرورها .. يتحوّل إلى صوت محلق، معزول بشكل ما عن الحياة التي يقتحم أغوارها .. ذلك ما يجعله أكثر التصاقًا بذاته .. أكثر توحدًا بكل ما اختبره .. كأنما يسرد حكاية متصورًا امتلاكها على نحو عابر ـ وبالحميمية اللائقة ـ لصديق مجهول، خفي، بعد أن قضى عمره كله عبدًا لتلك الحكاية.

لكنني اكتشفت، ورغم كل التفسيرات والتبريرات، أن ما أسجّله ليست حياتي، وإنما سيرة محتملة للأطياف المتعددة التي تتوارى بداخلي .. شخصيات مختلفة، لم تكتمل، تكوّنها شذرات غائمة ومتأرجحة، وّلدت مع طفولتي، ويسبق أثرها تلك الطفولة .. تسجيلاتي محاولة لاستنطاق تلك الأطياف التي لا يمكنني القبض عليها، أو التمعن في ملامحها، أو حتى الإبقاء على شعور ثابت بوجودها .. محاولة لجعل هذه الشخصيات تستمع إلى نفسها كلما أعدت تشغيل ما سجّلته بصوتي، أي بما جاهدت أن يكون صوتها .. أردت أن تكتشف الشذرات يقينًا مُخلّصًا لها فتكتسب وضوحًا واستقرارًا ومن ثمّ قدرة إعجازية على استرداد بداياتها، على استدراك الحياة والموت، ما يعني الاستحواذ على فنائي قبل لحظة النهاية.

ومع ذلك؛ في كل مرة أستمع خلالها إلى أحد التسجيلات، أو ما دوّنه الطيف مستعيرًا صوتي، وبالرغم من أن الأمر يبدو مفاجِئًا أحيانًا، من كلمات أشعر بأنني أسمعها للمرة الأولى، كأنما غريب بالنسبة لي يتحدث إلى غريب آخر، وكأن ذاكرتي تتواطأ معي بالنسيان المؤقت في إصابة الهدف الأساسي من التسجيلات “الخطاب التفسيري المشوّق والمؤانس للوحدة” ؛ إلا أن كل هؤلاء الغرباء يظهرون في كلامهم وإنصاتهم لبعضهم تعمّدًا بالغ الحسم لطمس أي سيرة مفترضة لهم تسعى للتحرر من خفائي .. تمعن شخصيات الباطن المختلفة في التمزق والتناثر والغياب، فتتحول طفولتي إلى مزيد من التشذر ويتمادى أثرها الذي يسبقها في الضياع .. يصبح الكلام والاستماع في حد ذاتهما وهمًا قاهرًا .. يصبح الكلام استماعًا والاستماع كلامًا .. كلاهما متزامنان، متداخلان، منغمسان في اندماج وتبادل وتفكيك لطبيعتيهما .. كلاهما لعب بالقول والإنصات .. يظل اليقين الوحيد إذن كامنًا في ذلك الفراغ الضبابي بين الشرود والانتباه داخل كل صوت .. الفراغ الذي يخلق الملامح ويمحوها .. يستدعي المشاعر ويبددها .. سيرة الأطياف ليست إلا انتقامًا متعدد النبرات من حرمانها من ألوهيتها .. ذلك هو اليقين الوحيد.

حينما أكملت الخامسة والأربعين أدركت أنني هكذا أصبحت متورطًا في جحيم ذاكرتي أكثر من أي وقت مضى .. كأن الأصوات التي تحفظها التسجيلات قد قطعت بي الخطوات الأخيرة في قاع ذلك الجحيم .. بدأ الضجر يداهمني كلما استمعت إلى التسجيلات .. كل ما اكتشفته أو أدركته كان يخاتل بصيرتي مسبقًا .. كنت أحدس به وأتوقعه وأحاول ـ كشخص آخر ـ أن أحتل المساحات الذهنية التي أعلم أنه سيتجسد داخلها .. كنت أقاوم هذا التجسد المحتوم بكل ما تبقى من طفولتي .. مثل كل شيء؛ لم يكن الكلام والإنصات إلا استمناءً .. هكذا قررت أن أخصص جانبًا من تسجيلاتي لكي أشرح للأطياف الغامضة بداخلي علاقة الشتاء بما يُسمّى “التخييل الذاتي” .. أن تشرح تلك الأطياف المتوارية هذه العلاقة لنفسها .. لا أعتبر ذلك “أملًا” أخيرًا في “معجزة” ما .. هو درس فحسب .. درس في الرواية، وفي الشتاء، وفي الألوهة المضادة .. من يدري! .. ربما تحدث المعجزة حقًا.

جزء من رواية “نبوءات لا مرئية” ـ قيد الكتابة

رسائل مع دفا (3)


"البرد"

هل جربت أن يكون الباب المقفول بالمفتاح حلمًا بالنسبة لك؟ ...

لم يكن بابا يصدقني كي لا يشعر بالذنب .. الذنب الذي لم تكن ملامحه قادرة على إخفائه .. الذنب الذي لم يعطّل قسوته إلا في لحظات نادرة ...

كان بابا عنيفًا جدًا، سليط اللسان إلى أبعد مدى، وحينما كان يشعر بعزّة نفسي لم يكن يتورّع عن ضربي بالحذاء على وجهي أو البصق عليّ كلما راق له ذلك ...

في البداية كنت أبكي في صمت، ثم أصبحت أمتنع عن البكاء أمامه، وفي إحدى المرات لم أستطع منع نفسي من الضحك فثار جنونه بعدما أحس أنه أضعف مني بكثير .. طردني من البيت وأخبرني بأنه لا يريد أن يراني مرة أخرى.

كنت وقتها في الكلية، فحملت حقيبتي ووضعت فيها بعض الملابس والكتب ومحفظتي، وحينما توجهت ناحية الباب قالت لي ماما "لا ترحلي، هذا بيتك وليس بيته، ولا يقدر على إذلالك لكونه ينفق عليكِ، هو لم يفعل إلا أقل مما يفعله أي شخص لأولاده" .. كنت مصممة على الرحيل لكنني وجدته خائفًا من معرفة الناس بأنه قد طرد ابنته الجامعية المتفوقة فمنعني من الخروج ...

هل تعرف يا ممدوح ما هي نوعية الكوارث التي كانت تبرر له أن يفعل ذلك بي! .. مجرد أن يكون لي رأي مخالف لرأيه، والأسوء أن أدافع عن أمي حين يضربها بالعصا .. ذات مرة وهو يعتدي عليها أمسكت يده بقوة لا أعرف من أين جئت بها ثم جذبت العصا وأخذتها منه رغمًا عنه وأنا أصرخ فيه قائلة "طلقها إذا لم تكن تعجبك، ولكن لا تهنها بهذا الشكل".

اكتشفت بعد موته أنني كنت أحبه جدًا، والأفظع أنني ما زلت أشفق عليه حين أتذكر رفضي أن أحكي له خصوصياتي عن أصدقائي والجامعة وما إلى ذلك .. كيف كان  يمكن أن أحكي له وهو بهذه القسوة، وكيف كان يمكنني تجاهل إحساسي بكونه غريبًا عني بعدما ظللت أعوامًا طويلة لا أراه إلا شهرين فقط كل سنة؟

بعد وفاته بدأت أحس بالأعراض، فأجريت فحوصات، ولما عرفت حقيقة مرضي رفضت البقاء في مصر وسط نظرات ومشاعر الشفقة والشماتة، وقررت السفر إلى مكان لا أحد يعرفني فيه.

بابا مات في حضني، لكن تعرف؛ ليس الموت هو الذي أحزنني .. ما أحزنني هي البرودة التي بدأت تسري في جسمه حينئذ .. شعرت أن البرد هو الذي أخذه وليس الموت.

أنت ستكون أبًا حنونًا جدًا، ساخرًا كعادتك من الأبوة يا ممدوح ...

متى كانت آخر مرة سالت فيها الدموع من عينيك دون بكاء؟

دفا

الجمعة ـ 23 يوليو 2004

* * *

"الرابط السيّئ"

أن أكتب لكِ ـ كبوحٍ مقابل ـ عن صفعات أبي عقابًا لي على عدم أداء الصلاة، أو التأخر في الرد على ندائه فهذا لن يجعلها صفعات حقيقية ـ بالنسبة لي على الأقل ـ بقدر ما ستكون إيماءات خجولة، بالغة الشحوب نحو تلك التي ما زالت تتعاقب فعليًا على وجهي، محتفظة بثقلها الحارق، في نصوصي ...

لم أر أبي يضرب أمي مطلقًا، لكنني أشهد له بأنه كان بارعًا للغاية في إذلالها، من غير أن يحتاج حتى إلى توجيه سباب لها ...

ردًا على سؤالك الذي توقعته في نهاية الرسالة فقد حدث ذلك بعد موت أمي بيومين .. قبل ذلك كنت قد  خرجت من المستشفى إلى الشارع ومشيت بين الناس مذهولًا، غير مصدق أنهم يسيرون بطريقة طبيعية، وأن الحياة مستمرة، لدرجة أنني كنت أريد أن أستوقف كل من أقابله في طريقي وأسأله: (ألا تعرف أن أمي ماتت الآن؟) .. كنت الوحيد من الأسرة الذي بقيت معها في المستشفى خلال مرضها الذي لم يستغرق إلا أيامًا قليلة، ورأيتهما تموت أمامي من وراء زجاج غرفة العناية المركزة، ومع ذلك ظلت دموعي تؤجل الإفصاح عن نفسها .. جاءت إلى البيت لتقديم العزاء بائعة اللبن العجوز التي كانت أمي تستضيفها كل صباح وتعد لها الإفطار وتجلس لتأكل معها لأنها ـ كما أخبرتني ـ تشفق عليها؛ امرأة كبيرة السن، تخرج في الصباح الباكر من قريتها، وتدور كثيرًا على البيوت من دون أن تضع لقمة في فمها .. حينما فتحت باب الشقة ورأيت هذه العجوز انصرفت من أمامها ودخلت إلى حجرة مكتبي وظللت واقفًا في الشباك، شاردًا في الذكريات المعذِّبة لفترة طويلة، انتبهت في نهايتها أن الدموع قد أغرقت وجهي بدون أن أشعر.

أستمتع الآن إلى فرانك سيناترا "”Moon River ولكنني لا أتخيل نفسي كالعادة كلما استمعت إلى هذه الأغنية وأنا أحلق عاليًا وحدي بين ألوان ونسائم الغروب نحو مدى لا نهائي، وإنما أفكر في أجمل مشهد تتخيلين نفسك فيه كما أخبرتيني من قبل: ترقصين تحت المطر بكعب عال من دون شمسية في شوارع خالية حتى تصلين إلى شارع جانبي ينتظرك فيه حبيبك كي يعتصرك بين يديه وهو يقبّلك .. الرابط السيّئ بين ما يتخيله كلٍ منا حول "المشهد الأجمل" لم يصبح بعد ـ بالنسبة لكِ ـ واضحًا بشكل كامل .. لا يزال يخفي أمام عينيكِ حقيقة المأساة الهزلية التي نعيشها معًا كقمة جبل جليدي.

ممدوح

السبت ـ 24 يوليو 2004

 موقع "الكتابة" الثقافي

5 أكتوبر 2024