السبت، 27 مايو 2023

“لص الزمن” … مسرحية قصيرة في فصل واحد

المكان: حجرة معيشة “طاولة ـ أريكة ـ مقاعد ـ مكتب يحمل كتبًا وأوراقًا ـ صور فوتوغرافية على الحائط”.

الشخصيات: رجلان في منتصف الأربعينيات.

يدخل رجل 1 من الباب كأنه عائد إلى بيته من الخارج .. بعد لحظات قليلة يخرج رجل 2 من إحدى الحجرات شاهرًا مسدسه.

رجل 1 (بجزع): ـ من أنت؟

رجل 2 (بابتسامة ساخرة) ـ مندوب شركة الكهرباء.

ـ كيف دخلت إلى هنا؟

ـ هل تسأل حقًا؟ .. إنني لم أتسلل إلى بيت في حياتي بشكل أسهل مما فعلت اليوم.

ـ ماذا تريد؟

ـ ما يريده أي لص.

ـ حسنًا .. خذ ما تريد وارحل.

ـ يجب أن أبدأ بروحك أولًا.

رجل 1 (بتوسل مرتعش): ـ لماذا؟ .. أرجوك.

ـ لأنك رأيتني.

ـ أقسم لك بأنني سأنسى تمامًا أنك كنت هنا.

ـ أنا أصدقك، ولكني لا أضمن الشيطان الذي قد يتلاعب بأفكارك بعد رحيلي.

ـ أرجوك .. اتركني في سلام .. أنا لم أقاومك، ولن أخبر أحدًا عنك.

ـ هل تظنني قاتلًا؟ .. أنا لص فقط .. ولكن عودتك المبكرة إلى المنزل هي التي كتبت نهايتك.

ـ وهل كنت تعرف موعد عودتي؟

ـ بلا شك .. أنت تعيش وحدك .. تخرج كل يوم في السابعة مساءً ولا تعود إلا قرب منتصف الليل .. لكنك اليوم لم تمكث في الخارج أكثر من ربع ساعة ثم عدت إلى المنزل فجأة.

ـ كنت تراقبني إذن؟

ـ هل تعتقد أنني سأتسلل إلى منزل ما بدون معرفة سابقة عن ساكنه؟ .. لكن أخبرني يا تعيس الحظ؛ ما الذي جعلك تعود سريعًا إلى المنزل اليوم؟

ـ لا شيء .. شعرت بدوار مفاجئ فقررت العودة.

رجل 2 (ساخرًا): ـ يا لقدرك اللعين.

ـ حسنًا .. إذا كنت لصًا فحسب؛ لماذا تحمل هذا المسدس معك؟

ـ من أجل الحماية يا صديقي إذا ما واجهت تهديدًا غير متوقع كما حدث الآن.

ـ لكني لا أهددك بشيء .. خذ ما تريد وصدقني لن أتذكر مطلقًا أي شيء عنك.

“يصوب المسدس إلى وجه رجل 1”: ـ وأنا لم يعد لدي وقت.

ـ انتظر .. أرجوك .. أريد أن أخبرك بشيء غاية في الأهمية.

ـ تكلم سريعًا.

ـ إذا كان محتومًا أن تقتلني الآن، فعلى الأقل اتركني أفعل شيئًا بسيطًا .. مجرد أمنية أخيرة كالتي يحققونها للمحكوم عليه بالإعدام.

ـ ماذا تريد؟

ـ لقد بدأت في كتابة قصة قصيرة صباح اليوم .. قصة أعتبرها الأهم في حياتي .. لكني لم أكتب منها سوى كلمات قليلة .. أرجوك .. لا أطلب منك سوى أن تتركني أكملها سريعًا ثم أنشرها على مدونتي لتكون رسالة وداعي للعالم.

ـ قصة قصيرة؟ .. أنت أحمق دون شك .. هل تظنني سأوافق على هذا العبث؟ .. اتركك تكتب بقية قصتك، وأجلس بجوارك منتظرًا حتى تنتهي منها ثم تنشرها؟ .. وبالطبع ستتضمن هذه القصة نداءً أو استغاثة أو حتى إرشادات عن وجودي في منزلك.

ـ أقسم لك أن الأمر لن يستغرق وقتًا طويلًا كما يمكنك أن تراجع القصة قبل نشرها لتتأكد بنفسك أنها خالية من أي شيء يمثل خطرًا عليك.

ـ هل هذه القصة مهمة بالنسبة لك إلى هذه الدرجة؟

 ـ بكل تأكيد.

ـ حسنًا .. أرني ماذا كتبت منها …

“يأخذ رجل1 ورقة من فوق المكتب ويعطيها لـ رجل 2”: ـ تفضل.

“رجل 2 يقرأ المكتوب في الورقة”: ـ “عدت إلى منزلي مبكرًا ذات مساء على غير العادة، فوجدت لصًا في انتظاري …” .. أنت تمزح؟

ـ كلا.

ـ متى كتبت هذه الكلمات؟

ـ صباح اليوم كما أخبرتك.

ـ كيف عرفت أنني سأحضر إلى منزلك؟

ـ لم أعرف .. هذه قصة خيالية.

ـ خيالية؟ .. إنها نبوءة تتحقق بمنتهى الدقة.

ـ هذا وارد الحدوث.

ـ نعم، وارد الحدوث لمن يعمل بالسحر.

ـ صدقني إنه خيال فحسب.

ـ لكنه أصبح واقعًا الآن وبشكل غير مفهوم .. أنا لا أصدق أنك كتبت هذه الكلمات صباح اليوم.

ـ لكني لم ألمس القلم والأوراق منذ عدت إلى المنزل كما ترى .. أرجوك .. اسمح لي أن أكمل قصتي.

ـ وما هي بقية هذه القصة؟

ـ لا أعرف.

ـ ألم أقل لك إنك تمزح؟ .. “يرفع المسدس إلى وجه رجل 1” لقد نفد صبري.

ـ انتظر من فضلك .. يمكنني الانتهاء منها سريعًا إذا ساعدتني.

ـ أساعدك في ماذا؟

ـ في إنهاء القصة.

ـ كيف؟

ـ أخبرني بأي شيء .. أي شيء يمكنك أن تبوح لي به عن نفسك الآن، ودون يكشف عن هويتك بحسب ما تقرر.

ـ أنت مجنون .. كيف يمكنني أن أتحدث عن نفسي أمامك؟

ـ وما الغريب في ذلك؟ .. إنني أعيش لحظاتي الأخيرة ولن يبقى لما ستقوله لي أي أثر …

ـ لكن هذا الأثر سيظل موجودًا في قصتك.

ـ ومن سيعرف أنه يخصك أنت بالذات؟

“يعيد رجل 2 ورقة القصة إلى رجل 1 الذي يعيدها بدوره إلى سطح المكتب”: ـ حسنًا .. ما الذي تريد أن تعرفه؟

ـ أخبرني أنت …

ـ أنا لص .. أسرق منذ أن كان عمري 13 عامًا .. عملت بمهن عديدة .. لكني لم أتوقف أبدًا عن السرقة .. هل كان هذا مفيدًا لك؟

ـ الحقيقة لا .. أخبرني بالمزيد …

ـ حسنًا .. سأحكي لك أمرًا غريبًا .. منذ فترة كنت أسرق إحدى الشقق .. كالعادة، جمعت كل ما أقدر عليه من أشياء قيّمة، وكنت على وشك المغادرة .. لكنني رأيت فوق إحدى الطاولات صورة داخل برواز صغير .. صورة قديمة بالأبيض والأسود لصاحب الشقة وهو لا يزال تلميذًا في الابتدائي أثناء رحلة مدرسية أو ما شابه .. صورة عادية يمكن أن تجد مثيلاتها في كل البيوت .. لكن شيئًا ما دفعني لأخذ هذه الصورة .. رغبة مفاجئة، لم تنتابني مطلقًا من قبل، أن أحصل على هذه الصورة والاحتفاظ بها .. بالفعل أخذتها معي دون أن أفهم ما الذي جعلني أقوم بذلك .. كانت بداية شغف غامض لم يفارقني حتى الآن .. أصبحت أسرق الصور القديمة، خاصة تلك التي تحمل طابعًا تذكاريًا جماعيًا من الشقق التي اقتحمها واستولي على المقتنيات الثمينة لأصحابها .. أصبحت لص الزمن الذي يمتلك ألبوم صور ممتلئًا بذكريات الآخرين.

ـ معنى هذا أنك كنت ستسرق إحدى صوري القديمة أيضًا؟

ـ بالطبع.

ـ حسنًا .. الصور أمامك على الحائط .. أي واحدة ستختار؟

“يتطلع رجل 2 إلى الحائط ثم يلتقط إحدى الصور المعلقة فوقه”: ـ أعتقد أنني سآخذ هذه .. هذا أنت مع والديك، أليس كذلك؟

ـ نعم .. كنت في التاسعة من عمري، وكنا في حجرة الصالون بمنزل العائلة.

ـ انتظر .. دعني أتأمل هذه الصورة جيدًا.

ـ ما الأمر؟

ـ هذه الملامح ليست غريبة عني.

ـ أي ملامح؟

ـ ملامحكم جميعًا .. أنت وأبواك .. أخبرني: هل كانت لديكم عادة التنزه على كورنيش النيل في الثمانينيات؟

ـ نعم .. كان والديّ في طفولتي يصطحباني للتنزه أحيانًا على الكورنيش في مساء الثمانينيات .. أعتقد أن الكثيرين كانوا ومازالوا يفعلون هذا.

ـ هل تعثرت ذات مرة ووقعت على الأرض بالرغم من أنك كنت تمسك بيد كل منهما بالقرب من مدخل كوبري القطارات؟

ـ غير معقول .. كيف عرفت ذلك؟

ـ ألم تكتم بكاءك وأنت تستند على يديك لتعاود الوقوف ثانية؟

ـ نعم .. نعم .. أخبرني كيف عرفت؟

ـ ألم تنفلت دموعك عندما ظل والداك يضحكان على ما حدث لك وهما ينفضان التراب عن ملابسك؟

ـ هل كنت هناك؟ .. هل رأيت هذا المشهد؟

ـ نعم .. كنت ما زالت طفلًا، وحينئذ كنت أمر بالصدفة وشاهدت كل شيء .. أنا لا أنسى ما أراه أبدًا.

ـ أمر غريب .. لقد مر على هذه الواقعة خمس وثلاثون سنة.

ـ ولو كانت مائة سنة .. لا شيء يسقط من ذاكرتي مطلقًا، خصوصًا ما عشته في طفولتي.

ـ يبدو أنك تستحق هذه الصورة إذن.

ـ وأعتقد أنك تستطيع الآن الانتهاء من قصتك.

ـ ليس بعد.

“يرفع رجل 2 المسدس بغضب إلى وجه رجل 1”: ـ حسنًا .. فلتذهب أنت وقصتك للجحيم .. لقد أهدرت وقتي معك.

ـ انتظر .. أرجوك .. هل يطاوعك قلبك على قتلي وبيننا ماض مشترك.

ـ أي ماض؟

ـ تلك الذكرى الطفولية التي حكيتها عنا الآن.

ـ أي ذكرى؟ ..

ـ سقوطي على الأرض من بين يدي والديّ، وبكائي، وضحكاتهما.

 ـ لقد كنت أكذب عليك.

ـ تكذب؟

ـ بالتأكيد .. أنا لا أعرفك، ولم أر والديك من قبل، وهذا الحدث الذي رويته لك كان من اختلاقي.

ـ كيف؟

ـ نعم .. إنها لم تكن أكثر من حكاية ملفقة خدعتك بها .. خيال كالذي كتبت به قصتك وتصادف أن يكون حقيقة.

ـ هذا غير صحيح .. أنت كنت هناك بالفعل.

ـ وأنت بدأت تخرّف الآن.

ـ نعم .. أنت كنت هناك ورأيت تلك الواقعة التي حدثت لي مع أبي وأمي.

ـ هذيانك مضحك يا صديقي.

ـ ألم تكن ذلك الطفل القصير، ذا الشعر الناعم، الذي يرتدي قميصًا أسود، مرسومًا على صدره طائرًا رماديًا بجناحين مفرودين؟

ـ  مستحيل .. كيف؟

ـ ألم تبتسم لي حين رأيتني أبكي وأنا أعاود المشي ببطء بين والديّ؟

ـ نعم .. لكن ..؟

ـ ألم تظل واقفًا حتى مررنا من أمامك ثم رفعت يدك كأنك على وشك أن تلوّح لي، لكنك أعدتها إلى جوارك سريعًا؟

ـ هذا صحيح .. كيف تتذكر كل ذلك؟

ـ ليس هذا كل شيء.

“يأخذ رجل 1 ألبوم صور من فوق المكتب ويفتحه أمام رجل 2”: ـ أليس هذا هو ألبوم الصور الذي قلت أنك تحتفظ داخله بصور الآخرين القديمة؟

“رجل 2 بذهول” ـ نعم .. كيف حصلت عليه؟

ـ أنظر .. إن هذا الألبوم لا يوجد به سوى صورك أنت .. صور ذكرياتك أنت فقط.

“يندفع رجل 2 نحو رجل 1 بغضب شديد محاولًا انتزاع الألبوم منه، وقد سقطت الصورة التي كان يحملها من يده”: ـ أعطني هذا الألبوم.

“يراوغ رجل 1 اندفاع رجل 2 ويبتعد لمسافة فاصلة عنه”: ـ أنت لص فاشل .. لم يسبق أبدًا أن نجحت في سرقة أي شيء.

“يستمر رجل 2 في ملاحقة رجل 1″ـ قلت لك أعطني الألبوم.

“يراوغ رجل 1 اندفاع رجل 2 ويبتعد عنه مجددًا”: ـ حتى صور ماضيك التي تحتفظ بها، لا يمكنك التخلص من الشعور بأنها لا تخصك .. بأنك لا تملكها.

“يرفع رجل 2 المسدس في وجه رجل 1 وقد وصل غضبه ذروته”: ـ أقسم بأنني سأقتلك.

ـ أنت لم ترغب في الحصول على صورتي القديمة إلا لتوهم نفسك بأنك تسرق ذكرى لا تنتمي إليك، لكنها حينما تنضم إلى هذا الألبوم ستكون مجرد مشهد آخر من ماضيك .. تظهر فيه ولكنك غريب عنه.

يضغط رجل 2 زناد المسدس فتنطلق الرصاصة بصوت قوي، لكن رجل 1 يبقى كما هو محدقًا في وجه رجل 2 الذي يمسك بصدره صارخًا في ألم هائل ثم يسقط على الأرض بلا حركة، كأن الرصاصة قد قتلته هو .. يتأمل رجل 1 جسد رجل 2 الممدد أمامه على الأرض بلا حركة ثم يغلق الألبوم قبل أن يجلس وراء المكتب ويمسك بالقلم ليعاود الكتابة في ورقة القصة.

“ستار”