لا يغض المسرح طرفه عن الأزمات الملحّة والمشكلات المصيرية وقضايا الرأي العام الساخنة والمثيرة للجدل، فـ"أبو الفنون" هو فن الدور الاجتماعي والوعي الجماهيري، وهو دور لا يقل أهمية لدى الكثيرين عن دوره الأساسي "الجمالي"، إلى جانب ما يقوم به المسرح أيضاً من بث الرسائل الفكرية والفلسفية والتثقيفية والتنويرية وغيرها.
ويكاد يشترك العدد الأكبر من المسرحيين المصريين المعاصرين في الاعتقاد بأن المسرح لا يمكنه أن يدور في فراغ أو يطرح نتاجاً فنيّاً مجرّداً في مثل هذه الحالة اللحظية الراهنة، التي يمتلئ فيها الواقع بإشكالات صارخة وأمور ملتبسة وأوضاع مجتمعية ملتهبة تتطلب المعالجة والنقاش بجرأة، أملاً في تجاوزها إلى حاضر أفضل.
وفي سياق هذه المحددات والمفاهيم، يقدّم الكاتب والمترجم المصري ممدوح رزق نصه المسرحي الجديد "قانون اللعبة" (دار ميتا للنشر، 2023)، منطلقاً من حادثة مأسوية بشعة هزّت الشارع المصري، والعربي، واستولت على اهتمام الرأي العام، خلال الفترة القريبة الماضية.
إنها جريمة مقتل الفتاة نيرة أشرف، الطالبة بجامعة المنصورة بمصر، ذبحاً في الطريق العام، وذلك بيد زميلها محمد عادل، بدعوى أنه يعشقها بجنون، ولا يتحمل رفضها وصدها له، ولا يقدر على تصوّر ارتباطها بغيره. وقد أقدم على قتلها أمام أعين المارّة، قبل أن يتمكنوا من ضبطه، لينال حكماً نهائيّاً وباتاً بالإعدام شنقاً.
صدمة ردود الأفعال
يأتي نص مسرحية "قانون اللعبة" لينكأ جراح مقتل نيرة، إذ يتوقف المؤلف عند صدمة ردود الأفعال التي تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي إزاء الجريمة النكراء، حيث حمّل بعضهم الضحية جانباً من الذنب (لتبرجها وعدم التزامها بالحجاب)، كما راح آخرون يبحثون للجاني عن مبررات لفعلته (لصغر سنه، وهيامه في العشق حد الجنون، وعدم تقدير الضحية لمشاعره).
ويتخذ ممدوح رزق هذه التفاصيل وغيرها مداخل لتشريح منظومة مجتمعية بائسة، تترصد المرأة ذكوريّاً وسلطويّاً وتحت غطاء الدين. كما يثير النص الجريء إشكالية أن القانون نفسه (العرفي حتى)، من الممكن أن يتحوّل إلى "لعبة" انتهازية، من أجل استهداف الطرف الأضعف بالقتل، والعمل على توفير الحماية التشريعية للقاتل الجاني.
ورغم أنّ أحداث المسرحية كلها تستلهم مقتل نيرة أشرف، فإن المؤلف وسّع دائرة الإهداء في مستهل النص، لتشمل أيضاً (إلى جانب نيّرة) كلّاً من: سارة حجازي، ونوال السعداوي.
والأولى، سارة حجازي (1989-2020) هي ناشطة مصرية أثارت الجدل بدفاعها عن المثلية، وانتحرت بعد سفرها إلى كندا، لتثير جدلاً اجتماعيّاً ودينيّاً على نطاق أوسع، حول علاقة المثلية الجنسية بالانتحار ومن ثم بالإلحاد. والثانية، نوال السعداوي (1931-2021)، هي الطبيبة والكاتبة المصرية المعروفة بآرائها الصاخبة والمثيرة والجدلية، في مجال حقوق المرأة بشكل خاص في المجتمعات العربية والإسلامية، وحقوق الإنسان عموماً.
ولعل هذا الإهداء "الثلاثي"، الذي يبدو منطقيّاً بذكره نيّرة أشرف (محور المسرحية) أكثر من منطقيته باستدعاء سارة حجازي ونوال السعداوي، يعكس رغبة المؤلف في تحرير نصّه من الاقتران بواقعة محددة من دون سواها. وهكذا، يُراد للعمل أن يكون جرس إنذار ومنصّة تنبيهية، للتحذير من كل ما يراه المؤلف قوة قمعية استبدادية محيطة، تغتال الحريات الشخصية باسم التقاليد والدين، وتمارس دوراً تسلطيّاً واسعاً، خصوصاً على المرأة، التي يحق لها أن تسعى إلى الانفلات والتمرد والخلاص من إرث الضعف والقيد والقهر والكبت والإهمال والتهميش، وفق رؤية النص المسرحي.
عبر ثلاثة فصول مكثفة، يدير ممدوح رزق (46 عاماً) حوارات دالّة وإسقاطية بين شخوص نصه المسرحي المعتمد على الكلمة وقوة تأثيرها في المقام الأول.
وهؤلاء الشخصيات، الذين يتراوح منطقهم بين التعبير المباشر والترميز الضمني الإيحائي، هم كل من: الزوج والزوجة (في الثلاثينات من العمر)، الشاب والشابة (في العشرينات)، والعجوز: البهلوان/ اللص/ الشرطي (في الستينات من عمره).
في الفصل الأول من "قانون اللعبة"، يُبرز المؤلف، صاحب مسرحيتي "فأر يحتفل بخطاب الحقيقة" و"الخبراء في الحياة" والكثير من الروايات والمجموعات القصصية، كيف يتمكن العجوز من تهديد الزوج والزوجة وخداعهما، مرة بوصفه بهلواناً، وأخرى بصفته لصّاً، وتارة ثالثة باعتباره شرطيّاً، وفي كل مرة هو يخلع سترته الظاهرية، لتظهر تحتها سترة الشخصية التالية.
وهكذا تمكن العجوز من ابتزاز الزوج والزوجة، وسرقة أموالهما ومتعلقاتهما، مرة بحجة أنها بهلوان سيؤدي عرضاً مبهراً وحركات مثيرة، ومرة بحجة أنه لص وقاطع طريق لكنه خلّصهما من سخافة البهلوان، ومرة أخيرة بدعوى أنه شرطي أنقذهما من قاطع طريق محترف، ويستحق الشكر العملي، وأن يستضيفاه في منزلهما! وفي هذا المنزل، يدور بين الزوجين المتحفظين حوار طويل عن الفضيلة والأخلاق والمثل العليا وعلاقة الإنسان الملتزم بربه.
وفي الفصل الثاني، يظهر العجوز برداء اللص قاطع الطريق، كظل خلفي دائم للشاب الذي يجسّد شخصية الطالب الجامعي القاتل، وتدخل الشابة العشرينية التي تجسّد شخصية نيرة أشرف إلى المسرح.
وهنا يستعيد النص واقعة جريمة القتل مثلما حدثت في الحقيقة تقريباً، إذ يلحّ الشاب في عرض حبه ومشاعره وجنونه، وتُمعن الفتاة في نهره وتوبيخه ومطالبته بتركها وشأنها.
ومع قوله إنها حلمه، وقولها إنه كابوسها الذي يعتدي على حريتها، تمتد يده الآثمة لتطعنها بالسكين حتى الموت، ويفعل العجوز قاطع الطريق ذلك أيضًا، باعتباره نسخة حركية من الشاب القاتل.
وفي الفصل الثالث، تتجلى أكثر الجوانب الإسقاطية الترميزية، إذا يشهد حواراً في مكان الزيارة في السجن، بين الزوج والزوجة (الملتزمين) من جهة، والشاب القاتل، الذي تم ضبطه، من جهة أخرى.
ويرى الزوجان أن الشاب يستحق الإعدام بسبب غبائه لا بسبب جريمته الوحشية. يقول الزوج "أنت أعطيت فرصة لكل المذنبين والعاصين أن يشعروا بأنهم أتقياء". وتستطرد الزوجة "فتاة غير محجبة، هل تستحق أن تضيّع نفسك من أجلها؟ هل تستحق أن تجعلها شهيدة؟!".
ويمضي الحوار على هذا النحو الكاشف لرغبة الموروث المجتمعي في إلقاء اللوم على الضحية وإيجاد منجاة للجاني باسْم انتهازية العُرف أو لعبة القانون. ويقلب الزوج المعايير تماماً، حيث يقول للشاب القاتل "كنت توجه طعناتك لنا نحن، حينما جعلتَ الناس يتعاطفون مع فتاة بعيدة عن الله".
نهاية قاتمة
وهنا تقدّم الزوجة سيناريو للقتل، لكنْ من دون أن ينجم عنه أي عقاب، إذ تقول للشاب "كان يمكنك أن تكون أنت الأداة الإلهية لعقابها، وحينئذ لن تكون في انتظار المشنقة حيث توجد الآن، بل ستكون حراً، متفاخراً بما فعلته، يدعمك الآخرون بالثناء والمديح".
وتوضح الزوجة للشاب أنه كان يمكنه ببساطة أن يصير أولاً رمزاً دينيّاً مثلاً، من خلال بث بعض المحاضرات والفيديوات الدينية على اليوتيوب وما إلى ذلك، وتقول: "كنت ستطاردها هذه المرة بالقرآن والسُنّة، وتحرّض عليها كداعية يحارب ضياع القيم وانتشار الرذيلة"، وفي حالة قتلها، فسيكون هذا "هو عدل الله على الأرض"!
وتنتهي المسرحية نهاية بالغة الدلالة في مرارتها وقسوتها، حيث يُخرج الزوج مفتاح "الكلبش" من جيبه، ويحرر يدي الشاب، في حين يقف الشرطي العجوز في منتصف المسرح، ويشعل سيجارة بهدوء وهو ينفث دخانها، متطلعاً إلى المشاهدين بابتسامة ساخرة.
شريف الشافعي
النهار العربي
19-04-2023