فتحت باب الشقة .. نعم، هي شقة ميادة ولكن كما لو أنها لم تسكنها مطلقًا .. كما لو أننا لم نتقابل بين حوائطها طوال السنوات الثلاثة الماضية .. أصبحت الآن وبشكل مؤقت مكانًا محايدًا، يمكن أن يعيش ويموت داخله أي أحد دون أن يتعثر في ذكريات أشباحه .. أخفت ميادة كل ما له علاقة بها: صورها .. ملابسها .. أدوات مكياجها .. كتبها .. لوحات إدوارد مانيه على جدران الصالة وحجرة المكتب .. دفاترها الورقية وعلب الأقلام الملونة ذات الملصقات الطفولية التي كانت مهووسة بها .. إكسسواراتها الأشبه بتمائم السحر الأسود .. حتى صورتي التي كانت مستقرة فوق الكومودينو بجوار سريرها .. أخذت كل شيء .. وستعيده صباح الغد .. هكذا أخبرتني بما تنوي فعله .. لن يكون هناك أثر لها أو لوجودنا خلال تلك الدقائق الأخيرة في عمر حياتنا التي أصبحت الآن أقصر بكثير مما كنت أعتقد .. اللحظات القليلة التي أعطت ميادة احتمالًا أنها قد تمتد حتى الليل .. اللحظات التي سأبقى فيها داخل الشقة كطيف تائه لكي آخذ تذكارها من أجلي أو "التتويج المتسامح لعلاقتنا المنتهية" كما أسمته .. الشيء الوحيد الذي يخصها وتركته هنا .. أشعر الآن بنوع من الامتنان لأنني طوال هذه السنوات لم أجعل هذا البيت ـ ودون تعمّد واضح ـ يحتفظ بأغراض لي .. كنت أتفادى ذلك بشكل عفوي تمامًا بلا مبرر مكشوف أو حتى سؤال من ميادة عن السبب .. كأننا كنا نعرف دون مصارحة بأنني إذا تركت أغراضًا خاصة بي في بيتها سأشعر بالغربة تجاهه .. كنت أنتمي إلى هذا البيت لأنني لا أقيم فيه .. لأنه لا يختزن أشياءً من حياتي التي تحدث خارجه .. امتلكت هذا البيت قدرًا من الزمن لأنني كنت عابرًا له، والآن بعد افتراقي عن ميادة أصبح يمتلكني .. أصبحت ساكنًا له مهما ابتعدت، أي غريبًا عنه .. تركت ميادة من أجلي الشيء الذي لم ترغب في أن تعطيه لي طوال الماضي رغم إلحاحي المتواصل، وهو ما كان يُفضي أحيانًا إلى مشاجرة كلامية وخصام لا يتجاوز الخمس دقائق ينتهي بقبلة اجتياحية طويلة .. كانت دائمًا تخبرني أنها لن تفعل ذلك إلا في نهاية "نزهتنا الإلهية" وكنت أعلم ـ مثلما كانت موقنة هي الأخرى ـ أن غضبي من رفضها إعطائي هذا الشيء ليس راجعًا سوى لأمر محدد .. أنني لا أريد حتى أن أتخيل تلك النهاية.
من رواية “البصق في البئر” ـ قيد الكتابة
اللوحة: إدوارد مانيه