شهادتي عن السرد ضمن الملف الذي أعده أ. علي عطا في جريدة “النهار العربي” عن ملتقى الشارقة للسرد:“في البداية تخبرك القصص المصورة والروايات البوليسية والنسخ المبسطة من الكلاسيكيات أن “السرد” يختلف عن طبيعة “الحياة اليومية” .. قد يتشابه ويتقاطع معها لكنهما ليسا متطابقين مهما كانت درجة الالتزام بما “يوجد حقًا في الواقع” أو ما “يحدث بالفعل” .. يستخدم “السرد” و”الحياة اليومية” نفس الأشياء والتجارب التي يمكنك أن تراها أو تختبرها أو تتخيلها، لكنهما لا يفعلان هذا بنفس “الكيفية” .. ثم تكتشف بعد ذلك أن “الكيفية” ليست مجرد انتقاء الكلمات الدالة أو الوصف الدقيق المؤثر أو التخلص المنضبط من الحمولة الزائدة .. تكتشف أن السارد ينبغي أن يكون زارع ألغام خفيًا، يمكنه أن يستعمل أي شيء في سبيل ألا يعثر أحد على ألغامه إلا لحظة انفجارها حتى لو استخدم “طبيعة الحياة اليومية” بكل فوضاها وابتذالها.
منذ قصتي القصيرة الأولى ـ وهو ما سيتجدد اكتشافه والتأكيد عليه مع كل نص لاحق ـ أدركت أن السرد هو الواقع الفعلي بالنسبة لي وليس ما أعيشه كإنسان عادي .. ما أعيشه ليس إلا متاهة مصطنعة ينبغي أن أقطع مساراتها الشائكة في كل مرة بخطوات مختلفة ـ كأنها الأولى ـ للوصول إلى هذا الواقع .. بالضرورة لا يقع السرد في مرحلة التكوّن اللغوي وحسب، وإنما ـ بصورة أعمق ـ في الفكر الذي يسبق ذلك التكوّن .. في العمل الذهني الذي تخوض به الحياة المشتركة مع الآخرين قبل أن يصل بك إلى “عالمك الأصلي” .. لا ينتج السرد نفس العتمة التي تشكّلت احتمالاته في أغوارها حتى لو بدا أنه ينسج تماثلًا لتفاصيلها الغامضة على نحو تام، وإنما يمنحها بواسطة الألاعيب والحيل الممكنة نوعًا من الإفاقة الاستفهامية .. التيقظ الغاضب تجاه “المعنى” أو “الحكمة” وهو ما لا يظل محتفظًا بتجسيد ثابت مع كل إعادة لمواجهة الذكرى ذاتها.
يسهل على أي مشرف ورشة للقصة القصيرة أن يدرّب طلابه على تفادي المحاذير الشائعة: الاسترسال، الفضح، النمطية، التكرار، المبالغة … إلخ، لكن كيف يمكنه أن يخلق من هذه التمرينات غريزة ـ بكل ما تنطوي عليه الكلمة من مقاصد ـ لانتهاك “البنية” في صورتها المطلقة بما فيها “بنية المحاذير السردية” نفسها؟ .. أتحدث دائمًا إلى الأعضاء المتغيرين لورشتي القصصية عن أن الحذر لا يعني “التجنب الأعمى” للاستعمال وإنما للتمعن في “المحظور” أسلوبيًا حين يتوجب استخدامه .. ذلك لأننا لا نتحدث عن “شكليات” وإنما عن طرق تحليل متعددة لـ “موضوع الحكاية” ينشأ عن كل منها جوهر متباين للسرد أو “دعابة فلسفية” مختلفة عن دعابات أخرى.
مجددًا: “كل ما أكتبه هو قصة قصيرة .. في كل رواية كنت أجرّب واكتشف كيف يمكن لقصة قصيرة أن تكتب رواية .. حتى “إثر حادث أليم” التي حاولت بقدر ما تستطيع “ألا تفوّت مما تتصوّر أنها مشاهد من طفولتي” .. لا أتحدث عن توسيع الحدود الشكلية لمنطقة كتابة صغيرة أو استثمارها للارتفاع بطوابق بناء شاهق، وإنما أتحدث عن استخدام البصيرة المقتنِصة والإيقاع اللعوب المتوتر للقصة القصيرة في كتابة رواية .. أن تنسج هذياناً مقتضباً من اللحظات الشاحبة والمشاهد المخبوءة والأحداث الهامشية التي تحافظ فيها القصة القصيرة على طبيعتها المنزوية التي تخلق العالم من ثقب ضئيل مهما زادت الصفحات”.
السرد وفقًا لبصيرتي لا يمكن أن يكون “مفهومًا” مختزلًا في قائمة صارمة من الخصائص؛ حيث لن يصبح جديرًا بمثل هذه اللغة التي أشير بها إليه لو لم يكن في الأساس قائمًا على مراوغة نفسه: تعريفاته وشروطه وأهدافه .. لو لم يكن قائمًا على هدم أصنامه .. لكن ـ وباستعارة مفردة رومانسية كـ “السحر” ـ دائمًا ما تتجلى أكثر البصمات سحرًا للسرد حين يقتنص ما يُعتقد أنها أبعد الطرائد عن مصائده”.