المختارات الشعرية لكليفتون (1936-2010)، الصادرة حديثاً باللغة العربية بترجمة ممدوح رزق عن دار "ميتا" للنشر، تكثف الضوء على نماذج متنوعة منتقاة بعناية لقصائد الشاعرة الأميركية، غزيرة الإنتاج، صاحبة المجموعات المتميزة "الأوقات الجيدة" و"أخبار جيدة عن الأرض" و"امرأة عادية"، و"كتاب النور" و"نعمة القوارب" وغيرها. على رغم صغر حجم المختارات العربية (32 صفحة)، فإنها تبرز انفتاح الإبداع الشعري للوسيل كليفتون على عوالم متداخلة، تتخطى محددات الزنوجة والشتات الأفريقي، لتعبر عن شعرية الشتات الإنساني الأعم "من هو الإنسان في هذا المكان؟/ الشيء المجرور أم الذي يجره؟/ ما الذي ستقوله ابنتي؟/ الشمس قرحة فوق الرأس، لو بقيت على قيد الحياة، لن يمكنني تحملها".
هم خاص وأزمات عامة
هذه العوالم المتداخلة، التي تحلق الشاعرة في فضاءاتها، يتفجر فيها الألم الشخصي، كالضعف الأنثوي، والاغتراب، والمعاناة من السرطان والوفاة بسببه، وغير ذلك من تفاصيل قصتها الخاصة "كنت أغادر سنتي الثامنة والخمسين، عندما ختم إبهام الجليد نفسه بقوة، قريباً من قلبي، لديك قصتك الخاصة"، كما يتفجر في هذه العوالم الشعرية الخصيبة، في الوقت نفسه، الهم المجتمعي والبشري المشترك، كقضايا الحرية والعدالة والتسامح والكرامة والهوية والتراث والطفولة والأمومة والحياة الأسرية وغيرها، وهو ما تطرحه لوسيل شعرياً بحس فلسفي مبسط، ينزع عن الظواهر قشورها، ليقتنص لبها وماهيتها.
وتأتي هذه التفجرات كلها لديها، إلى جانب الدعوة إلى إحياء القدرة الإنسانية على الحب اللامحدود واللامشروط، والتغلب على النمطية والاستهلاكية ومواضع الضعف في النفس والضمير، والتشبث بالأمل في مواجهة اختناقات الحياة العابسة، تلك الحياة التي صارت تضيق يوماً بعد يوم، وتسلب الفرد كل شيء، حتى ذاكرته النشطة "ألم نكن أطفالاً صالحين؟!/ ألم نرث الأرض حقاً؟!/ يجب أن تعرفي كل شيء عن هذا، من حياتك المرتجفة".
موسيقى الجذور
تستلهم لوسيل كليفتون موسيقى الجذور البدائية، وإيقاعات القلب الأخضر النابض في غابات كانت موجودة ذات يوم، وتستيقظ كل صباح في واقعها المفروض عليها "لكي تستعيد رقصتها الأولى". هي لا ترى حاضراً صالحاً حولها، ولا مستقبلاً مبشراً أمامها، في هذا العالم المدني الراهن، الموصوف بالحضاري "سكان المدينة يغنون انتصارنا القادم/ بينما الأمل ينزف ببطء من فمي، داخل القذارة التي تغطينا جميعاً/ لقد انتهيت من هذا الغبار العفن، لقد انتهى مني". هو عالم مليء بالسوداوية العمياء، وبالمادية الطاغية، التي خلفت كوارث شتى، منها العنصرية بالتأكيد، ومنها أيضاً الحروب والصراعات والمجاعات والتلوث والأوبئة. وإن أفضل ما يمكن فعله إزاء هذا التاريخ الحالي للإنسانية، هو خلعه كملابس رثة بالية "ليس هناك مستقبل، في تلك الملابس، لذلك أنزعها عني".
وتبقى لوسيل كليفتون شاعرة متمردة في طبيعتها وجوهرها، فهي ترى أن الثبات موات، والأمكنة محطات خلقت للتنقل بينها "هاتان الفخذان الكبيرتان تحتاجان إلى مساحة واسعة للتنقل". وتعتبر الشاعرة أن النوافذ المفتوحة انتصارات، لأنها طعنات غائرة في الحوائط الجاثمة على الأنفاس. ولذلك، فإن هناك دائماً ما يستحق الاحتفال، طالما بقيت للحياة ظلال على الأرض "تعال واحتفل معي، بأنه في كل يوم، شيء ما يحاول قتلي، ويفشل"، بل إن الزمن أيضاً لا معنى له في مخيلتها الشعرية، إذا هو لم يتحول إلى إعلان واضح لتوقيت الرفض في كل المناسبات "الساعات تضرب جميعاً في وقت واحد: لا". وإن لم تكن ثمة نبوءات واضحة على الأرض، التي صارت كرة يركلها الرجال ببطشهم وجهلهم، فلا يأس أيضاً، فلشجرة الأحلام فروع باسقة تمتد عالياً حتى أعلى طبقات النور والعلم والمعرفة، ولربما "تكون السماء ممتلئة، بالرجال العاشقين للقراءة والكتابة".
رأب الصدع
تطور الشاعرة الأميركية نشيد المقاومة في الكتابة الإبداعية، ليكون بمثابة معادل لرحلة الكفاح الطويلة في هذه الحياة المريرة، ذات المحطات الوعرة. إن الكتابة كمغامرة، ورحلة الكفاح كمعركة "لا ينبغي أن أكون أقل صلابة من جبل"، تعكسان معاً محاولات لاهثة لا تنقطع، لرأب الصدع في الإنسان الحجري المتآكل، وفي بنيان العالم المتهاوي "أتذوق في غريزتي الطبيعية، رباط الأشياء الحية في كل مكان".
وتحت هذه المظلة الفضفاضة (غياب الإنسان وانحدار العالم) تتشابك الانشغالات والقضايا والأزمات، الذاتية والمجتمعية والبشرية والكونية، التي تنصهر مع بعضها بعضاً في تجربة لوسيل، النابعة من خلفيات زنوجية أولية، لكنها لا تقف عندها. هي ببساطة، مثلاً، تضفر في كلمات قليلة أبجديات الدعوة إلى الحرية كمفهوم عام، بعد شحنها باستحقاقات النضال النسوي ضد الرجل، ومنجزات النضال ضد العبودية، كما أنها لا تغفل في إسقاطاتها الحرية العقائدية "فخذان حرتان/ تجابهان الكبح/ لم تستعبدا أبداً/ تذهبان إلى حيث تريدان/ تفعلان ما ترغبان القيام به/ فخذان قويتان، سحريتان/ تأسر تعويذتهما الرجل/ ثم تدوخانه كإله غافل".
وعلى هذا المنوال الذكي تنسج لوسيل كليفتون عادة قصائدها الزاخمة المشاكسة، المربوطة بحبل سري في الأمومة والجذور والمنابت الطفولية للفتاة الأفريقية الصغيرة "كانت أمي تتنقل بين الأيام، مثل جنية الأحلام في حقل". ومع اشتداد عود النص الشعري في حقله الواقعي/ الأسطوري، المعيش/ الماضوي، يبدأ تفرعه واشتباكاته مع كل هذه الدوائر النارية من الاهتمامات والقضايا والاشتعالات والصرخات، التي تترجم صوت الإنسان العصري الباحث عن وجوده وحقيقته، أينما كان، ولربما لا يجد ضالته في نهاية المطاف إلا في داخله "ينبغي أن أعود الآن، ينبغي أن أعود إلى الداخل الآن".