الأربعاء، 23 سبتمبر 2020

أشباح فيلا “غيث”

هل تسللت أنت وأصدقاؤك ذات ليلة شتوية ممطرة إلى فيلا "غيث"؟ .. هل كان قراركم باكتشاف الأقاويل المخيفة المهترئة والمتداولة عن تلك الفيلا نتيجة غير متوقعة لجلسة تحسين مزاج روتينية، بلغت ذروة جامحة في فندق مارشال المحطة أو القاهرة أو مكة أو كليوباترا أو مقهى معروف أو اللبن؟ .. هل اكتشف كل منكم أنه بمفرده بعد اختفاء الآخرين من حوله بمجرد أن أصبحتم في ظلام الداخل؟ .. هل رأيت جثثًا عارية تنهض في صمت من تحت الأرض بجروح مفتوحة، وكدمات غائرة، وابتسامات متوعّدة ثم تتضاجع وهي تحدق في عينيك الغائمتين كأنما تفعل هذا من أجلك؟ .. هل رأيت طيورًا ضخمة بوجوه عجائز ضاحكات ذات شعور بيضاء طويلة، وأجنحة سوداء عريضة، تتنقل بين الأشجار، وتحوم داخل الغيوم الرمادية الداكنة ثم تختفي فجأة؟ .. هل كانت هناك أثداء ومؤخرات وأفخاذ فخمة، لميلفات أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات تتدلى من الأسقف كزينة عيد الميلاد؟ .. هل رأيتنا: والداك وإخوتك نجلس فوق أريكة في سكون كتماثيل تجمدت غفلتها وهي تتبادل حديثًا عاديًا، بينما يبرز من فم كل منها فرع ممزق من الريحان الذي زرعته في بلكونة البيت؟ .. هل فكرت في أنك لو حاولت أن تلمس أيًا من تلك التماثيل لتتأكد من وجود حياة بداخله فإنه سيتهاوى مفتتًا إلى أجزاء صغيرة؟ .. هل رأيت عيون كائنات تتلفّت في براويزها المعلقة تحت شحوب إضاءة صفراء لا تعرف مصدرها، حيث صور لمن تعتقد أنهم أجداد المدينة المجهولين، ولوحات لأساطيرها القديمة المتوارية؟.. هل فتحت إحدى الحجرات فوجدت غرفتك التي تركتها في المنزل هناك بكل ما فيها عدا أنه لم يكن يضيء ظلامها سوى شموع متراصة حول مقعد فارغ أمام مرآة كبيرة كأنك أنت الذي تجلس فوقه، ولكنك لا تستطيع أن ترى نفسك؟ .. هل سمعت خطوات ثقيلة وغامضة، وذات صدى مروّع تتحرّك في كل مكان؟ .. هل رأيت أطفالًا بأعمار مختلفة يرتدون ملابس نوم ثقيلة، ومع ذلك يرتجفون من البرد، وبلا رؤوس؟ .. هل سمعت ما يشبه تراتيلًا دينية صاخبة غير مفهومة تتدافع من وراء الجدران كأنها آتية من أزمنة بعيدة لبشر بلا عدد، يقرأون من نفس الكتاب، ذي اللغة المبهمة، وبصورة توحي بأن تلك التراتيل تنبعث من داخلك؟ .. هل سمعت صرخات أطفال، متفاوتة النبرات في خلفية التراتيل؟ .. هل فكرت في أنها ربما تكون صرخات الأطفال الذين بلا رؤوس؟ .. هل شعرت بأن جسدك المرتعش يتمدد في الفراغ لدرجة جعلتك عاجزًا عن تعيين حدوده، كأنه على وشك الانفجار، والتحوّل إلى أشلاء متفرقة؟ .. هل رأيت موجات من الدماء القانية تجتاح السلالم، وتغمر كل بقعة تخطو فوقها؟ .. هل رأيت ساعة أثرية هائلة، بلا عقارب، وتوجد جمجة واحدة كبيرة في موضع كل رقم منها، ولها بندول طويل في نهايته قلب بشري ينبض، بينما يروح ويجيء بدقات لها صوت قضم أسنان قوية وحادة لعظام هشة؟ .. هل رأيت ظلالًا بشرية تترنّح مشتعلة في كل اتجاه بنيران متأججة كأنها أجساد حقيقية تتنقل في مساراتها المألوفة على نحو رتيب؟ .. هل كانت تختلط رائحة احتراقهم بعطر الريحان الممزق في أفواهنا؟ .. هل كانت مقابض الأبواب كأنصال تلتصق باليد لحظة فتحها ثم تحررك فتشعر كأن ملايين الشفرات الضئيلة تدفقت وراء جلدك؟ .. هل كانت الستائر المتطايرة بفعل رياح النيل تتشكل تجعداتها طوال الوقت على هيئة ملامحك؟ .. هل كانت ثمة شبابيك مواربة يستقر وراءها ضوء ضبابي أزرق تتطوح داخله عيون مفتوحة بيضاء بلا حدقات، كأنها لغرقى سريين في عمق النهر منذ آماد سحيقة؟ .. هل كانت نقوش الجدران عروقًا بشرية نافرة؟ .. هل كانت هناك ألسنة بشرية هائلة بشعر غزير منتصب كالشوك تخترق شقوق البلاط بكيفية مباغتة وتتبادل اللعق؟ .. هل شعرت بأن التفكير بضمير المتكلم عبء سادي وأنه أكثر الأمور افتقارًا للمنطق؟ .. هل خرجت وحدك دون أن تعثر على بقية أصدقائك مثلما فعل كل منهم حين غادر الفيلا؟ .. هل عدت إلى البيت ـ مثلهم ـ بنسيان تام لما حدث، كأنك لم تفعل أكثر من ترك الفندق أو المقهى ثم العودة إلى حجرتك؟.

جزء من رواية "نصفي حجر" ـ قيد الكتابة.