شعر بالندم لأنه حرّك عينيه تلك السنتيمترات القليلة من شاشة
التليفزيون إلى طفلته الجالسة بجواره .. كان التفاته عفويًا بعدما لمح يديها
ترفعان هاتفها المحمول فجأة ليتبين له أنها تلتقط صورة مقرّبة لوجه الولد الصغير "جيسون
دروكر" بطل فيلم Diary of a Wimpy Kid: The Long Haul .. في هذه اللحظة أراد بشكل مباغت أن يتذكر اسم
صاحب محل النظارات القديم، والذي كان مطبوعًا على الجراب الجلدي للنظارة التي
تستعملها أمه الميتة... حاول على الفور معالجة تطفله غير المتعمّد بعدما انتبهت
طفلته بارتباك لم تنجح في إخفائه إلى رؤيته لها وهي تلتقط الصورة؛ فسألها بابتسامة
ودودة إن كانت ترغب في أن يحمّل لها الفيلم من الإنترنت على الجهاز الخاص بها ..
أجابته بخفوت مصطنع في الاهتمام بأنه لا بأس لو فعل ذلك .. تذكر حينئذ أنه لم يعرف
أبدًا إجابة لهذا الاستفهام: لماذا يبدأ أحيانًا تآكل بعض الصور التي مر عليها زمن
طويل من حوافها أي في الأطراف المحيطة بالوجوه التي تسكنها، بينما يبدأ تآكل الأخرى
من منتصفها حيث توجد الملامح تمامًا؟ .. نهضت طفلته وتوجهت إلى حجرتها في حين بقي
هو أمام التليفزيون يتأمل ملامح الولد الصغير على الشاشة كأنما عينيه عاهتان
مستديمتان أعيد فتحهما للتو .. لم يعش لحظة كهذه مع طفلته من قبل، لكنه يسترجع
فجأة ما كتبه منذ ثماني سنوات تقريبًا في إحدى رواياته عن ذكرى واقعية: شقيقته
الكبرى تلتقط من التليفزيون صورًا بكاميرا الموبايل لأحد الممثلين الأتراك، بعد أن
رفض تنزيل صوره لها من الإنترنت الذي لم تكن تجيد استخدامه وقتئذ .. فكّر في لماذا
ظل هذا المشهد متواريًا للحظات بالنسبة له وهو يتمعّن في وجه طفلته منذ قليل ..
كانت شقيقته في بداية الثلاثينيات حينما أطفأت ضوء الحجرة وجذبت البطانية لتغطي
جسدها وهي تمسك بالموبايل وتحدق في صورة الممثل، أما الآن فهي ترقد داخل قبرها بعد
أن أنهت حياة ستين عامًا وحيدة في بيت العائلة .. شعر بأن شيئًا غامضًا في داخله
تعمّد ذلك النسيان المؤقت .. نفس الشيء ربما الذي يحاول أن يصل باللعبة الأزلية
معه إلى مستوى أكثر جموحًا فيقوده للتفكير في أن الأمر ليس راجعًا للصدفة أو
لضرورة التماثل، بل إليه هو نفسه .. يدفعه للاعتقاد بأنه حينما كتب هذا المشهد منذ
سنوات فقد جعله قدرًا حتميًا لطفلته .. كان أبعد ما أراده، وأكثر ما تمنى فعله أن
يدخل حجرة طفلته الآن.أنطولوجيا السرد العربي ـ 14 سبتمبر 2020
اللوحة: Henri Charles Manguin