يسهل القول أن رواية "الحي الإنجليزي" لحماد عليوة، الصادرة
حديثًا عن دار صرح للنشر هي رواية مكان؛ أي أنها ترتبط بصورة أو بأخرى بحيز جغرافي
محدد، ومُسمّى، ويمتلك بحضوره الواقعي دورًا في أحداثها وبمستويات مختلفة .. لكن
عن أي مكان نتحدث، أو بشكل أدق؛ أي "فكر" للمكان نقصد؟ .. علينا أن
نتجاوز أولًا الرؤية التقليدية حول التأثير المتبادل بين السلطة التاريخية
والاجتماعية للمكان، وبين المتغيرات والتحولات الناجمة عن الوجود البشري المتعاقب
داخله، وهو التأثير الذي يمكن الولوج إليه من خلال إنشاء رابطة للمغتربين الأجانب
كبداية خيط سردي .. يجدر بنا التفكير في مكان ـ كحي المعادي مثلًا حيث تدور أحداث
الرواية ـ بوصفه فضاءًا متجسدًا لما يمكن أن نسميه بالوعد الميتافيزيقي للنجاة (الرجاء
الأخلاقي لما فوق الخير والشر) وفقًا لما تشترطه الحدود غير الثابتة لوجوده، والتي
تفصله بالضرورة عن فضاءات أخرى، أو التي تعمل على تداخله معها .. هنا يصبح المكان
قرارًا خائنًا قبل اتخاذه، وتصبح كل المحاولات للتعامل مع هذه الخيانة الماورائية
هي الصيّغ التي تُشكل الملامح المتبدلة على نحو متتابع للمكان عبر الزمن، مثلما
تشكل الوعي والخيال داخل أطره غير الجامدة أو المتوهمة إن جاز لنا القول.
(أتذكر جيدًا ذلك الإحساس الدافئ الممتع المشبع بالراحة النفسية، حين
أختبئ في أحضان أمي عندما كانت تهطل الأمطار، فينقطع تيار الكهرباء، ويتعطل
التليفون، ويسود الحي هدوء مخيف. في ذات مرة هطل المطر أسبوعًا كاملا، كانت هناك
فترات يتخللها الرذاذ، ثم يعود بغزارة .. رأيت مدام "نينات" سعيدة جدًا،
وقالت لأمي: "لم يحدث أن هطل المطر هكذا منذ عشرين عامًا". ارتوت أحواض
الكروم، وكان اليهود سعداء بذلك، كانت الأشجار تبدو مبتهجة منتعشة، تلمع أوراقها
الخضراء، وتبعث رائحة طيبة. ثمة أشياء أتذكرها طوال الوقت، ورائحة تزكم أنفي لا
أعرف كيف أصفها؛ هل هي مثل عزف أمي على البيانو، أو حضنها في الليالي الطويلة ..
كلما سمعت عزفها وأنا في الشارع اطمأننت لسير الحياة).
تواصل هذه الملامح حرمان تاريخ المكان من ثباته، وتجعله دائمًا قابلًا
للتغيّر، كما أنها لا تعطي استقرارًا للهوية الاجتماعية التي تحكمه، وأيضًا لا
تتوقف عن تعديل جمالياته .. الموت إذن هو الموضوع الشبقي المطلق للمكان، هو الذي
يدبّر صيرورته، وهو الذي يعطي الصور المختلفة التي يتحوّل إليها تأويلات متباينة
بشكل مستمر .. لكن بما أننا نتحدث عن الموت فإننا بالتالي نقصد اللغة .. السلطة
التي تمر وتنتشر وتتغير عبر الكلمات .. التي تؤكد نفسها، وتنتج ظواهرها، وتتوزع
داخل متناقضاتها عبر قوة الخطاب الذي تخضع له الأشياء والتفاصيل الحسية .. يصير
المكان تعبيرًا عن الفرد حينما يحوّل الموت ـ سابق الوجود ـ عبر اللغة جسد هذا
الفرد إلى ما يريد الموت أن يبدو عليه داخل طبيعة خاصة بالمكان، لها مكونات وسمات
محددة، أو ما نظنها كذلك.
(وبالرغم من الضغوط التي تعرضت لها المدام، فإن وجود "آرون
رود" كان يطمئنها. ولذلك كان يتعامل معها رجال النظام بحرص؛ فكان النظام لا
يتحمل ضغوط الجمعيات الحقوقية، التي بدورها تستطيع أن تضغط على الحكومة الأمريكية
في تقليص الدعم المقدم، ولذلك النظام كان لا يستطيع التعرض لـ "سِريا"
مباشرة، لكن يستطيع أن يقترب من أي مصري يعمل معها، علاوة على قدرته على خلق مناخ
حولها يجعل الناس ينبذونها، فكان النظام يتعامل مع "سِريا" أو
"الرابطة" باستهانة؛ فهو يرى أن القضاء على "سِريا"
ومجهوداتها شيء سهل، فبدأ يلاعبها على طريقة القط الذي يتلاعب بفأر منهك).
تبدو الكتابة كأنها تخلق أو تكشف عن الكينونة المشتركة بين المكان
والفرد (الجنسيات المختلفة في الحي الإنجليزي)، أي تُظهر الأثر التأملي للخذلان
الذي يُطمس في ظلام اليومي، المتراكم، المشتت، القهري، الملزم بالامتثال لصيرورته
.. الرواية هي نوع من اليقظة، الصدى الذي يعيّن نفسه مصدرًا للصوت، أي البداية
وليس الماضي، البصمات السيكولوجية خارج ـ وليس انفصالًا عن ـ الصراعات التي
أنتجتها .. لهذا فالكتابة التي تتعمّد الاشتباك مع المكان هي خطوات مقصودة خارج
النمطية التي تكوّن ظاهره المتقدم في سبيل الفناء .. ترك مسافة بين الوعي والخيال
وبين حدود هذا المكان كي يتمكن الوعي من الكشف عن نفسه، ويستطيع الخيال أن يُشيّد
ذاكرة جديدة للمكان .. يتم استثمار التاريخ ليس بوصفه قمعًا، وإنما باعتباره أدوات
استقراء، خطوط لاقتفاء الأثر، أحلام يمكن تفسيرها بعيدًا عن الصواب والخطأ، وخارج
السياق الاجتماعي المتغيّر.
(جلس يتأملها وهي قادمة نحوه تحت ضوء المصباح .. بدا جسدها من وراء
قميص النوم عالمًا كبيرًا يحوي ملايين الأسرار. قفزت بسرعة فوق السرير واندست أسفل
الغطاء؛ فقفز بجوارها .. وعن قرب اكتشف أن النساء عالم خطير؛ كيف كان والده يقسو
عليه ويصفه بالإناث .. كيف؟ خلقهن الله من طينة أخرى، يختلفن عن خلقنا تمامًا ..
جلدهن شفاف رقيق، وعظامهن طرية، لحمهن يخلو من العضلات؛ عالم طري. وجردها من
ملابسها، وبصبر ذئب ظل يكتشف أسرارها, وكلما تنطق اسمه تحت وطأة راحتيه القويتين،
يقول لها: "هذه أملاكي!").
تحوّل الرواية جماليات المكان
من رسائل صامتة إلى افتراضات استفهامية تتجاوز حيزها الجغرافي لتكوّن علاقات جديدة
بالوجود كأفكار ومشاهد لا تنتمي إلى ركائز أو نطاقات بعينها، وإنما تحوم طوال الوقت
حول نشأتها وهلاكها .. لا يظل الموت كعمق شهواني للمكان ـ يحضر امتداده هنا على
سبيل المثال داخل الرغبة الأقرب للغريزة في شخصية "نواف الرشيدي" للعبور
ـ المقترن بلذة التمنّع والمقاومة ـ إلى جسد المرأة من الخلف ـ بل يصير الموت
بواسطة الكتابة حفرًا في فكرة المكان ذاتها، في حكمته ومصيره، في الروح الشبحية
التي تسكن الأماكن كافة، والتي يكافح الكاتب للتوحد بها كي يتقمّص دور الصانع أو
المنقذ أو المراقب السائر في طريق الفهم، أو الذي لا يريد أكثر من التدمير المرح
لكوابيس هذه الفكرة من أجل امتلاكها والسيطرة على جميع الأماكن بالضرورة .. بهذا
يتم تجريد اللغة من تآلفها مع ما تتجسد فيه، من دفعها للإشارة نحو عدمها، تفكيك
خطابها، وهو شكل من أشكال عدم الاعتراف بالموت ـ الانتحار أو القتل كنهاية أنثوية
لفشل العنف الذكوري عند "نواف الرشيدي" في إشباع رغبته ـ بواسطة تخريب
الأجساد ـ انطلاقًا من تقويض جسد الكاتب نفسه ـ التي صنعتها هذه اللغة.
(كانت مديحة ـ وما زالت ـ تختلف عن أشقائها؛ فهي أول من عملت منهم.
منذ أن كانت في الجامعة وهي تعمل بكل جهد، كأنها تسابق شيئًا، أو كأنها ظمآنة وترى
النهر بعيدًا وتريد أن ترتوي؛ فتحاول التجديف بكل قوة وسرعة. معروفة مثل أمها
تمامًا في الحي، ولها أيضًا جمهور من المعجبين، وهم العاملون في متاجر شارع 9، وفي مكتب البوستة الذي تدخر فيه نقودها .. لكنها لا تسمح أبدًا
لأحد بالخوض في حياتها الشخصية؛ الأمر الذي جعل المعجبين يكتفون بالنظر والتمني.
ورفضت رفضًا قاطعًا منذ البداية العمل عند المصريين؛ لأسباب كثيرة، أولها طبقيتهم،
فضلًا عن احتقارهم لهذه الوظائف، وللأمانة أيضًا لأنهم لا يدفعون مثل الخواجات).
أشعر دائمًا بنوع من الرومانسية الراكدة، أو التعميم القاصر فيما
يتعلق بتعبير "شخصية المكان" لأنه يعطي انطباعًا أو إيحاءًا بوجود ما
يحارب للتمسك بهويته، يتحسّر على ما كان عليه، ويتألم مما صار إليه .. يشكو ما
تعرّض له من انتهاكات، ويمتلك ذاكرة لا ينفلت منها شيء (الخدم والموظفون والمُلّاك
والأرستقراطيون والمومسات والقوادون والشيوخ والضبّاط) .. يُشكّل حيوات شخصياته،
ويساهم في تحريك أقدارهم وتوجيه مصائرهم .. يبدو الأمر مثاليًا بالمعنى الخامل
والمقيّد للوصف حينما يكون هكذا .. الكتابة تدفع المكان إلى خارج نفسه، تقود
صيرورته لأن يكون شيئًا آخر .. لا نتحدث هنا عن "شخصية المكان" بل عن
"فصاميته" .. عن تفكيره في ذاته خارج الوعد الميتافيزيقي الذي أُجبر على
أن يكون تجسيدًا له .. خارج الخيانة التي أُرغم علي أن يكون مُمرِرًا لها .. لا أن
يكون حاملًا للموت بل أن يكون الموت متخطيًا نفسه .. أن يتماهى مع اللغة في
سيولتها وتبعثرها متجاوزًا كابوسيتها الخطابية .. إذا كان الإنسان يستطيع أن يتسلل
بعزلته التي ترمز لها الأركان كما يفترض (غاستون باشلار) ليبتعد بتحولاته عن ما
تحتم أن يوجد بداخله؛ فإن المكان نفسه لابد أنه قادر على أن يقوم بهذا انطلاقًا من
النقاط ذاتها أي (الأركان):
(إن كل ركن في البيت، وكل زاوية في الحجرة، وكل بوصة في المكان
المنعزل الذي تعوّدنا الاختباء فيه، أو الانطواء فيه على أنفسنا، هو رمز للعزلة
بالنسبة للخيال أي أنه بذرة الحجرة والبيت. إن الركن المنعزل الذي ننزوي فيه ينزع
إلى رفض أو كبح أو حتى إخفاء الحياة أي أنه يصبح نفيًا للكون، ففيه لا يتحدث
الإنسان مع نفسه. يدعونا دفء المنحنى إلى التكوّر داخل أغطيتنا. إن جلال الخط
المنحنى ليس مجرد حركة برجسونية "حيوية" بسيطة ذات انثناءات مناسبة، ولا
مجرد زمن ينساب، بل مساحة مسكونة مكونة بتناسق).
جريدة (أخبار الأدب) ـ 4 فبراير 2018