هؤلاء القراء يتحدثون باسم جماعات اندماجية تم تكوين الأطر الفكرية
لها (تاريخ القراءة كأحد أنماط الوعي) من خلال إخضاع معطيات المعرفة (الكتابة كأثر
يسهل رصد درجة انسجامه أو عدائيته للواقع الفردي بوصفه ابنًا للمقدس) لما يمكن
تسميته بـ (غريزة التحريم) بمستوياتها وأشكالها المتعددة .. هذا يعني ضرورة
المقاومة الأخلاقية ـ كاحتياج يجب إشباعه، وكما تحددها الطبيعة المراوغة للتآلف
والجدل والرفض بين الذات ولحظة الحقيقة التي صارت إليها المراكمة الثقافية ـ
لتحويل تجربة الحاضر (قراءة عمل أدبي مضاد للانحيازات القيمية والجمالية) إلى مبرر
لتغيير خبرة الماضي (محاكمة القيم والجماليات) .. تقف هذه الجماعات ـ بما تواصل
الاحتماء به واستهلاكه بلذة روتينية من التكدس المتواصل للقوانين (حيث تحضرالمؤسساتية
بكامل هيمنتها عبر شبكات الأنساق والأدوار التفاعلية للقراء) التي تتخذ صيغًا
متنوعة قابلة للتبدل ـ ضد انتهاك العلاقة بين الفضاء التمثيلي (اللغة)، واليقين
الذي يجسّده (التأويل المحكوم بما يُعتبر المبادئ الكلية للثقافة كما أقرتها عمليات
الترويض) .. بين العالم كما يبدو من خلال الكلمات (البراهين والحجج)، والقرار
المتخذ سلفًا بشأن ماهيته (الإخصاء الاستباقي للفكر) .. بين الواقع (حيث لا يوجد
ما يمنع من حدوث أي شيء)، والعقل (حيث لا يجب الشك في المقدس مهما حدث أي شيء).
هنا يمكن النظر إلى الذاكرة الشمولية لهذه (القراءة) كامتداد يتم
توظيف انتقائياته المختلفة، أو انتقالاته المحتملة، أو تغييراته المتناقضة لصالح
فكرتين جوهريتين: الأولى (تثبيت الحقائق الأصلية، ومجابهة الانقطاعات التي يمكنها
أن تضع حدًا للإخضاع المعرفي)، والثانية (إعطاء صفة التطور لهذا التثبيت كضمان
مزيف للمواصلة والاستمرارية لتاريخ التحريم، والذي يمثل معارضته اعتداءً على الذات
وتهديدًا لمصيرها).
تعد القراءة المتزمتة كاتبًا أصليًا نظرًا لكونها الهيكل الأوّلي
(القواعد والمبادئ الرسمية كما حددتها الأنظمة الدينية والتعليمية والتربوية
بأطيافها المتقاطعة) للخيال المكلف بإنتاج الرموز التي تحافظ على ديمومته .. إلى
أي مدى يمكننا بسهولة ـ لو أردنا بالفعل ذلك ـ أن نلاحظ التشابه والتلامس ـ
المنطقي ـ بين الأداءات اللغوية، وطبيعة الأفكار، والانفعالات لدى قطعان هائلة من
القراء العرب على موقع جودريدز مثلا تجاه الأعمال الأدبية المختلفة حتى في ظل
التباين والتقابل بين مراجعاتهم ومواقفهم تجاه هذه الأعمال؟ .. القراءة المتزمتة
داخل المجتمعات العربية ذات الأغلبية المسلمة هي المبدأ الذي يعطي المعنى للصور،
ويحوّلها إلى مفاهيم، ومع كل ما يمكن رصده من فروق بين القراء، ومع كل ما قد
يتغيّر ويتحوّل ويتراجع فإن هناك ابتعاد أو التفاف أو مناوشة ـ في أفضل الأحوال ـ
لما لا يمكن هدمه .. هذا الكاتب الأصلي دائم التعبير عن نفسه عبر الحركة المتجانسة
والمتصارعة للقراء داخل البنية المعرفية التي لا يجب انتهاكها .. يكاد كل احتفاء
بـ (جماهير القراء) أن يكون احتفالا بالجدية الاستهلاكية أو الانقياد العفوي داخل
المسارات (القمعية) التي لم يأت الخلاص بواسطتها بعد، ولكن ليس هناك مفر من
الدوران في وعودها لأن الخروج منها يحتاج لشجاعة أو مقامرة غير مفهومة قبل أن تكون
عسيرة التنفيذ.
موقع (الكتابة) ـ 11 فبراير 2018