يقترح الروائي التشيكي بوهوميل هرابال في روايته "عزلة صاخبة
جداً"، والتي صدرت ترجمتها حديثًا بتوقيع منير عليمي عن منشورات المتوسط في (110) صفحة؛ يقترح تأملا يتجاوز الحدود الضيقة لفكرة الطغيان الذي
تمارسه الأنظمة البوليسية ضد الثقافة، وما يمكن أن يُتخذ من سُبل في مواجهة هذا
القمع التقليدي. تضعنا الرواية أمام منطق رمزي يجعل من كوابيس الوجود الشخصي معادلا
للبطش البوليسي، وبالتالي يفترض أن فعل القراءة، أي التأويل معادلا للسحق.
بهذه الكيفية يمكن لرواية بوهوميل هرابال حينما تدور حول عامل عجوز
يُدعى هانتا قضى خمسة وثلاثين عاماً في قبو مكرساً حياته لإتلاف الكتب بواسطة آلة
الضغط الهيدروليكي كما يليق بخاضع متكرر لاستبداد الدولة البوليسية فكأنها تدور
بالضبط حول شخص يقرأ تحت وطأة القهر الاعتيادي للحياة والموت، ويحوّل بشكل
"آلي" ما يقرأه عبر التخييل الهادم والمفتت لبنية النصوص إلى شيء آخر ـ
مهما بلغ مستوى التماثل أو درجة التطابق ـ يخص ذاكرته الفردية. حينئذ يبدو أن ما
كان يُعد معرفة للعالم، كان في الأساس رصيد خاص، مجهّز للأنا.
"لا أستطيع التمييز تماماً بين الأفكار التي تأتي مني أو من
كتبي. هذا ما أبقاني منسجماً مع نفسي ومع العالم حولي خلال الخمسة وثلاثين سنة
الماضية. لأنني عندما أقرأ، أنا لا أقرأ حقاً، بل أرمي جملة جميلة في فمي، وأمصّها
كالسكاكر، أو أرشفها كشراب كحولي".
إننا حين نتمعن في آلة العامل هانتا كأننا نتفحص الوعي الذاتي الذي لا
تعدو مقارباته للمعرفة سوى نوع من السلوك التدميري الذي يفكك عناصرها ـ أي يلحق
بالأصل خسارة حتمية ما عندما ينتقل إلى ذهن مغاير ـ ويعيد إنتاج هذه العناصر وفقا
لغريزته، ليس كنتيجة للرفض أو الإدانة أو الرغبة في الطمس بل أيضًا كأثر للقبول
والتجاوب وربما التقديس كذلك.
"أنا جزار مجيد وحسب. الكتب علمتني نشوة التدمير. أعشق العواصف
وانكسار البواخر. أستطيع أن أجلس ساعات بانتباه محدقاً في مشاعر خبراء المتفجرات،
وهم يفجرون منازل وشوارع بأكملها... وأن ألمح الفضاء، وهو يعج بالشظايا".
تدفعنا رواية "عزلة صاخبة جداً" لاكتشاف علاقتنا بكتبنا
الشخصية التي لم نطعمها بالتأكيد لآلة هيدروليكية، بالقدر الغامض غير المشروط
بنظام بوليسي كي يمارس الطغيان، والذي يحرّك استجاباتنا المختلفة تجاه العوالم المستقرة
بين الأغلفة، بحواس التلقي لدى كل منا، التي حينما تستعمل وثائق الآخرين فهي تخرّب
بصورة أو بأخرى النقاء السابق للمعنى، أي أنها تقود علاقات القوة داخل المعرفة نحو
سياقات بديلة، دائمة التوالد، تنحرف على نحو مستمر عما كان يُفترض أنه أصل للمتن.
"سأحملها معي إلى المنزل، وأُخفيها في مكان ما بين الأشجار في
حديقة جدي عندما يحين الوقت. سأضع كومة واحدة في اليوم، لكن؛ أية كومة؟ خلاصة كل
الأكوام.سأسكب فيها كل الأوهام التي علقت في رأسي. كل شيء أعلمه، كل شيء
أحمله".
سنلاحظ مدى انسجام الأسلوب الذي يتبعه بوهميل هربال مع هذا الاقتراح؛
فالسارد هانتا يخاطبنا طوّال الوقت كما لو كان ممسوسًا بحُمى التقويض، بهذيان
الفصل بين اللغة وإحالاتها. نجد في هذا التدفق العفوي المتوتر هوساً (صاخباً)
بتحويل الأفكار والعواطف والمشاهد والتخيلات وصور الذاكرة إلى تناثر عشوائي من الأشلاء
والأنقاض التي كافحت في الماضي لتكوين يقين ما أو إطار مرجعي غير قابل للشك. إنه
خطاب قد يعيدنا إلى كلمات "جاك دريدا" عن التفكيك: "لا! ليست
للرسالة وجهة معينة أو محطة أخيرة، وما ذلك بالعامل السلبي. إنه الشرط التراجيدي
الأكيد ولكنه الوحيد لكي يحدث ويُجدّ جديد". بهذا يتقمص العامل هانتا آلته
فيتحوّل إلى جسد هيدروليكي ينتهك الظواهر التي تسعى لإثبات نفسها، ويحطم بنهم طائش
سلطة المتعة الجمالية، ويُبقي أمانها مرجئاً طوال الوقت. هذا ما يبرر خشيته من أن
تسحقه كالفأر أطنان الكتب التي يحتفظ بها انتقاماً من تاريخه.
"أستطيع أن أسمع تهشُم الهياكل العظمية. بينما أسحق جماجم وعظام
الأعمال الكلاسيكية عظامها، كأني أسمع التلمود يقول: نحن أشبه بحبات زيتون. فقط
عندما نُسحق نُظهر أفضل ما لدينا".
أعتقد أنه جدير بالانتباه هذا التماس اللافت بين هانتا في "عزلة
صاخبة جداً" وجان باتيست غرنوي بطل رواية "العطر" لباتريك زوسكيند.
لنقارن القبو الذي كان يسحق هانتا الكتب
داخله، بمدبغة جريمال التي عمل غرونوي وسط روائحها النتنة. هانتا يستخرج الأفكار
من جثث الكتب، وغرونوي يستخلص العطور من الجثث البشرية. كلاهما موصومان بلعنة
حسية؛ هانتا بسبب قذارته الجسدية ـ حيث تعيش الفئران في ملابسه، ولا يحب الاستحمام
ـ الناجمة عن الطبيعة الكريهة لعمله، وغرونوي نتيجة غياب الرائحة عن جسمه. الوحدة.
يصير هانتا كياناً من شظايا اللغة المنتزعة من الكتب التي أتلفها، بينما تتحوّل
هوية غرونوي إلى مزيج من عطور البشر الذين قتلهم.
بمقدورنا النظر إلى إنقاذ هانتا لكثير من الكتب في ضوء "نشوة
التدمير" إذا ما وجّهنا تركيزنا في هذه اللحظة نحو حاجته للاحتفاظ بالآلة بعد
تقاعده. إن الإقرار الذي يقدمه هانتا عن نفسه كمجرم في مقابل تصوّره عن
"جمالية التدمير" يبدو كأنه تجسيد للصراع نفسه بين أن تكون ذاتك ـ بكامل
مراوغتها ـ هي كتابة الآخر في وضعيتها اللامنتمية إلى عالمك المغلق، أي كوجود خام
منفصل تعبر إليه متجرداً من ذاكرتك نحو خلاص محتمل، وبين أن تستخدم هذه الكتابة،
أي توظفها لآلامك بحسب ما يقتضي الأمر، وبالتالي تُفقدها حيادها كموضوع خارجي
فتلحق بها الإتلاف المتوقع. كان هانتا يُدمر نسخاً داخل مكان ما في وقت معين، وهذا
يعني أنه لم يكن يخرّب جميع النسخ في كل مكان وزمان، ولهذا فالرواية لا تدور حول
الدولة البوليسية أو التخلص من الكتب أو عن العامل الذي أصبح وآلته شيئاً واحداً
بقدر ما تدور حول العنف الذي يحكم الاشتباك بين الوعي والأفكار داخل حيز ضئيل في
لحظات مؤقتة ممثلا في عناصر شكلية مألوفة. تتعلق باستفهامات القراءة والتأويل ولذة
الهدم، ومثلما كان يعرف هانتا ربما بأن الأفكار لا تفنى مهما تم تدمير النسخ، وأن
ما يبقى معها هو "نشوة تدميرها" فإن بوهوميل هرابال ربما كان يعرف أيضاً
أن كل قراءة لـ "عزلة صاخبة جداً" هي سحق ضروري لها.
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الثلاثاء، 20 فبراير 2018