في رواية «غرباء» الصادرة عن دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع في
دمشق في 223 صفحة، بترجمة خالد الجبيلي؛ يحاول الكاتب الياباني تايشي يامادا إثارة
شغف قارئه بهذا الاستفهام: لماذا يحتاج رجل في الثامنة والأربعين من عمره، الى
استرداد أبويه اللذين فقدهما وهو في سن الثانية عشرة؛ بعد أن طلَّق زوجته، وانفصل
عن ابنه الوحيد، ثم اكتشف أن صديق مهنته على وشك الزواج من طليقته؟ ليس الأمر مجرد
عودة إلى ما يتم النظر إليه من داخل اليأس المحكم لهذه اللحظة الفارقة من الزمن
بوصفه أماناً أبوياً فحسب، ولكنه أيضاً حلم بإعادة ولادة، تستدرك جحيم الذاكرة.
(«لا أنا لست كذلك»، قلت محتجاً، «فأنا لست ذاك الرجل الذي يبدو
أنكما تظنان أنه أنا. فقد فشلت كزوج، ولم أكن أباً جيداً أيضاً. أنتما شخصان طيبان
– أما أنا فلا. إنكما شخصان ودودان، رقيقان إلى درجة كبيرة إلى درجة فاجأتني. يجب
أن يكون لكل شخص أب وأم مثلكما، حتى ابني. ومع أنني لعبت دور الابن المخلص معكما،
فلا يعرف أحد كيف كان من الممكن أن أعاملكما لو كنتما تعيشان كل هذه السنوات. أما
بالنسبة إلى مهنتي، فأنا لم أنجز شيئاً عظيماً حقاً. أنا مجرد كاتب من الدرجة
الثانية).
الاعتراف هو الضرورة العفوية التي استخدمها بطل الرواية لبعث ذاتي
جديد، كأنه يسعى من خلال الإقرار بخيبته الأسرية والمهنية إلى الحصول على الغفران
من أبويه، كطفل مذنب، لم ينجح في رحلة تحتم أن يخوضها وحده مبكراً. سيمنح الوالدان
(طفلهما) هذا الخلاص، ولن يكون مجرد إنكار مُطَمئِن لهذه الخيبة التي اعترف بها ابنهما
فقط ـ وهو دعم للإنكار نفسه الذي ربما يكمن في وعي البطل وراء اعترافه وإنما سيكون
أيضاً محاولة إعجازية للتفاهم مع الموت.
(«كلّ شيء سيكون على ما يرام يا بني»، قال أبي، «لا تقل كلمة أخرى».
«إننا فخورون بك كثيراً» قالت أمّي. «إننا فخورون جداً بك»، ردّد أبي، «إصنع لنا
معروفاً وتوقّف عن أن تكون قاسياً على نفسك. يجب على الرجل أن يعتمد على نفسه، كما
تعرف. لن يفعل ذلك أحد غيره»).
إن تأمل بطل الرواية لإنكسارات الماضي عند هذه الخطوة المتقدمة من
العمر، هو مراقبة للموت باعتباره طغياناً متصاعداً بدأ في الإفصاح القهري عن وجوده
منذ الحادث الذي قتل أبويه، ويمر الآن بواقع اختتامي أشبه بخلاصة فاجعة من
الأخطاء، تتجلى بحدة ناصعة، كظلام ثقيل على وشك الاكتمال.
يأخذ الأمر صيغة أشبه بالتبادل؛ فعودة الشبحين الأبويين إلى العالم هي
منح الحياة مجدداً لزوجين حرمهما القدر من ابنهما، وبالتالي إعطاؤهما القدرة على
التعويض لما فقدته أبوتهما نتيجة هذا الحرمان. في الوقت نفسه؛ هي تجاوز استباقي
للحد الفاصل بين الحياة والموت الذي أصبح الابن قريباً من عبوره فعلياً، أي أنها
استكشاف للعالم الآخر يختبره الابن بواسطة والديه للتأكد من أمانه، أو من صلاحيته
كفضاء يمكنه الحفاظ على انتماء ما للحياة، وبالتالي يكون مهيئاً لأن تحصل أسرة
هالكة على طريق بديل، غير قابل للضياع.
تقترن هذه التجربة بعلاقة يخوضها بطل الرواية مع شبح جارته التي عانت
من حرق بشع شوَّه صدرها، والتي حاولت ذات ليلة أن تروض وحدتها بدعوته إلى شرب
الشمبانيا فأدى رفضه إلى انتحارها. يرتبط بطل الرواية بشبح الجارة كرجل وامرأة؛ إذ
لا يتمكن من اكتشاف حقيقتها إلا في النهاية، وبعدما أصبح معتلاً بمرض لم يقدر على
استيعابه.
تنبهنا هذه العلاقة إلى هاجس قد يكون أكثر ما في الاغتراب من قسوة،
وهو الغفلة المعتمة التي يساهم شخص وحيد من وراء أبوابها المغلقة، ومن دون قصد، في
قتل أحد الغرباء الآخرين الذين يحتضرون داخل وحدة مماثلة. ليس هذا أكثر ما في
الاغتراب من قسوة وحسب، ولكنه الأكثر عبثية أيضاً؛ إذ إن الحياة تكشف حينئذ عن
نفسها، وبأبلغ صورة ممكنة كحشد عشوائي ومتكاثر من الاحتمالات البشرية التي تنظم
إرادتها تلقائياً، كي تظل للأبد مجرد لعبة مشوّقة للموت.
لم يكن للتجربتين اللتين مرَّ بطل الروية بهما طبيعة عقابية، بل على
العكس، هي أشبه بتجسيد حلم خارق، موزَّع بين أمنيتين: استرداد أبوين، والحصول على
شريك مخلص، يخفف من آلام الوحدة، والدليل على ذلك استمرار بطل الرواية في الذهاب
إلى بيت والديه، وتمسكه ببقاء الجارة معه حتى بعد اكتشافه أنها شبح. (بأمل أن أبطل
مفعول قوة السحر، رفعتُ أنا أيضاً صوتي، وقلتُ: «كي، سنكون معاً، أنا لا أعبأ بما
يمكن أن يحدث لي عزيزتي كي»).
هذا ما يجعل في الغربة، أو في هذا الحلم الناجم عنها حقيقة كونية
مضادة للعالم تتخطى حدود استعادة ابن لوالدين ميتين، والعيش برفقة شبح امرأة
متفانية، أثقلتها خيبة الأمل حتى اللحظة الأخيرة. إن يامادا صنع في روايته هذه ما
يمكن أن نطلق عليه تاريخاً مغايراً للغرباء، يستند إلى تأمل انكسارات الماضي في
منتصف العمر، وانتحار امرأة وحيدة مشوهة. كأن هذا التاريخ يقوم على نوع من التخاطر
المبهم بين الغرباء. تواطؤ لبدء حياة من الوهم السحري، لها ركائز العالم الواقعي
نفسها: أب؛ أم؛ ابن؛ رجل وامرأة؛ علاقات تعيد بناء الدنيا منذ البداية، ولكن على
نحو صائب، أي وفقاً لخبرة الاغتراب، حتى لو كانت هذه الحياة موقتة، أو تستلزم دفع
ثمن خطر كالمرض الجسدي مثلاً. حتى لو كان عدم الاستمرار في الوجود داخل هذا
التاريخ، والبقاء في عالم الألم والفقدان هو رغبة راسخة، لا يمكن التخلص منها.
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الثلاثاء، 24 يوليو 2017