كيف يمكن للونٍ ما أن يخلق الحياة والموت؟ .. يتحرك حسين البرغوثي في
سيرته "الضوء الأزرق" انطلاقا من التعريفات والإحالات المتعددة للأزرق:
(المضاد للهياج الجنسي .. المهدئ للأعصاب .. لون النفس الأمّارة بالسوء .. لون
طاقة الخلق).
لا تُشكّل الحركة مسارات اكتشاف إذن بل آثار وبصمات قلقة ومتوترة للخلق فيما وراء الذاكرة.. هذه الخطوات يتحالف داخل طاقتها السردية أرق الراوي الذي يهيمن عليه رعب فقدان العقل، وكذلك المقولات والتوجيهات المعرفية المُخلّصة التي يعطيها له "بري" الصوفي التركي، والمجنون المشرد في صيغة إشارات رمزية.
"وكلما سألت "بري" سؤالاَ ما، أجاب جواباً يدل علي عدم رغبة في أن يفتح لي أية بوابة أو ثغرة لأي حوار حقيقي. نادراً ما تحدث عن أية ذكري من ذكرياته، وحتي الآن، لا أعرف شيئاً عن ماضيه. كان بحاراً، وطباخاً، وصوفياً، وطالباً جامعياً، ومشرداً. هذا تقريباً هو كل شيء أعرفه. وحيّرني عالمه، كالبحر، وكنت أجلس علي حجر في الرمال، عارياً، وطفلاً، كما كنت في بيروت، وأحدّق في جهات البحر الثاني: أغوار هذا المخلوق. مرت مدة ونحن، أنا و"بري"، علي مسافة، لا هو يفيض كالبحر، ولا أنا أهرب كطفل الجبال. نقطة تشبه حركة "فريز" "التجمد في المكان" في المسرح".
إن ما يبدو ظاهرياً كحقيقة طاغية للاشتباك بين الأنساق الحكائية والتأملية في "الضوء الأزرق" هو الصراع بين الجنون الذي يسقط حسين تدريجياً في ظلامه، وإنقاذ عسير غائب يُمثل "بري" وعداً حاضراً ومتجسداً لإمكانية تحقيقه .. لكن أساس هذا البناء النثري ربما يكون الحركة ذاتها أكثر من الوصول الفعلي.. ترتيب المسارات أكثر من الحصول علي يقين حاسم يضع حداً لفقدان العقل.. هذا ما يجعل من السيرة انشغالاً بالخلق وليس بالاكتشاف، أو يمكن القول أن الاكتشافات التي يصادفها البرغوثي أثناء التنقيب في الماضي المتزامن مع مراقبة الواقع؛ هذه الاكتشافات يتعامل معها كمواد قابلة للاستثمار السردي .. خامات يتحدد وجودها وفقاً للقدرة علي استعمالها خيالياً في خلق العالم وليس التحرر من كوابيسه .. إن العلاقة بين حسين وبري أقرب إلي التواطؤ الضمني .. اتفاق مستتر بين رجل يبحث عن الخلاص لكتابة حياة أخري، ومجنون مشرد يعاونه علي كتابة هذه الحياة متنكراً في هيئة العارف الذي لا يمكنه إنقاذ نفسه .. بين الأزرق (كخالق)، والفراغ اللائق لرسم المأساة.
"ووجدتني من رواد مكتبات "الأسرار"، من نبوءات نوستراداموس، حتي الـ "آي تشينغ" ("كتاب التغير" السحري في الصين القديمة)، ومن لاوتسو حتي "أعمدة الزن السبعة"، ومن الزن حتي رواية "طريق محارب مسالم" لدان ميلمان، ومنه لكاستينادا الذي يزعم البعض أنه لفق ما كتبه عن السحر عند الهنود الحمر، ومن هناك لـ "يوبيناشادات" (نصوص مقدسة في الهند). كنت أكتب ملاحظاتي في دفتر صغير أحمله معي دائماً. وبدأت بفك طلاسم لغة "بري"".
هل يتوقف بري عند كونه الصوفي التركي الذي ينتج الإرشادات المتقطعة والغامضة لما يبدو أنها حكمة متعالية بطريقة ما، والتي يحاول حسين أن يختبر نجاته الشخصية من الجنون بواسطتها؟ .. لا يقتصر حضور "بري" عند هذا الحد، فوراء علاقته بالسارد التي تأخذ هذه الصورة النمطية يمكننا تخيل أنه كان يستخدم البرغوثي علي نحو غير مباشر من أجل حيازة خلاصه هو الآخر.. كأن هذه الذات المراوغة التي يحكمها مزيج ضبابي صلب من الطيش والترفع واللامبالاة تمتلك يقيناً سرياً بحتمية أن تتمثل في مرآة أخري.. أن تتجسد في كيان بشري مختلف، يحمل طبيعة مضادة، وبالضرورة يساعد هذا الكيان الذي لا يزال محتفظاً بشيء من (التعقل) يساعد ذات "بري" علي التخلص من عمائها الخاص، أو أن يمنحها وجوداً نقياً يتحول تاريخه المخبوء داخل أطره إلي قواعد ومفاتيح لخلود إلهي.. ربما كان حسين جديراً باحتواء هذا التناسخ ـ وهو ما سيتم من خلال كتابة "الضوء الأزرق" مثلاً ـ الأمر الذي يوفر للعلاقة بينهما مبررات للصراع الذي سيقوده الهاجس الفصامي.
"ويبدو أن سبب تغييره لاسمه هو اعتقاده بقدرة الاسم السحرية علي التأثير علي المسمي، سواء أكان حجراً أم بشراً، وبالتالي، فإن تغييره لاسمه يعني رغبته في تغيير هويته، التي تقع تحت السلطة السحرية للاسم الجديد. إن كان اسم "بري" مشتقاً من "باري"، فإنه يتشبه بالله، كما ورد في الـ "تشبهات" الصوفية عند ابن طفيل في "حي بن يقظان"، ومثاله الأسمي أن يكون "حياً" و"يقظاً"، و"نقياً"، وربما إلهاً".
تخرج العلاقة بين حسين وبري من النطاق التبادلي (الإنسان الذي يريد أن يكون إلهاً، والإله الذي يريد أن يكون إنساناً) إلي صراع بين الحقيقتين الإلهية والبشرية داخل ذات كلٍ منهما، أو كأن حسين وبري ليسا إلا طرفي نزاع ينتميان إلي جسد واحد يحاول أحدهما أن يلحق الهزيمة بالآخر ويسيطر عليه في رحلة الإنفلات خارج هذا الجسد (الذاكرة) بينما يتمسكان بالتواري خلف الفكرة التقليدية (الإنسان الذي يبتغي حيازة المعرفة المقدسة والشافية من الإله).
("أهلا، حسين، جئت؟". "جئت طبعاً، أنت تحاول السيطرة علي عقلي يا رجل!". قعد وقال: "من امتيازات العقل الأعلي أن يسيطر علي العقل الأدني. إن لم يكن عقلك دونياً، لا يجب أن تخشي من السيطرة، وإن كان أدني مني، فمن امتيازاتي السيطرة عليه، وتستطيع أن ترحل". "لا! سأبقي، سيطر إن استطعت".
الضوء الأزرق هنا سيكون بمثابة الملامسة الملتذة للصراع .. تأمل الانشطار والتناغم.. سيكون الجسر الرابط بين الاحتمالات المتناقضة: أن تكون بشرياً علي حافة الجنون الكامل، وأن تكون بشرياً أصبح إلهاً.. حسين لا يريد أن يكون بري ومع ذلك يسعي للحصول علي ألوهيته.. بري نجح في التخلص من بشرية حسين ومع ذلك يحاول استرداد عقله الضائع في جسد صديقه وأن يري هذا التأثير كحقيقة متعيّنة.
"انفصام شخصية المكان إلي ضفتين حالة "فضائية"، فيها كل شخصية تستقل عن الشخصية الأخري، ولابد من "ممر" ما، خدعة ما، كي يمكن القول إن الشخصيتين تسكنان معاً في "نفس" الشخص رغم استقلالهما، في "جسم واحد" ومريض واحد، ومكان واحد".
الضوء الأزرق هو الممر والخدعة لأنه طاقة الخلق التي تجمع بين حسين وبري في كيان واحد أي ذلك المنجز الكتابي الذي سيتكفل بأن يكون سيرة لهذه الحياة بينهما، وقبل ذلك لأنه المحرّض علي تشريح هذه العلاقة الجدلية بين طبيعتيهما المتنافرتين، وتفحص دلائل اقترانهما داخل "نفس" الجسم.
"قلبي كان يعبر من عوالم لعوالم أخري مع كل كلمة منه. وكنت مذهولاً من طريقة فهمه للأشياء: أول كائن، أو مجنون، لا يناقشني ولا في أي شيء مما رويته له عن حياتي، ويشير إليّ بأن ألقي بكل "ذاكرتي" في صناديق القمامة. الإنسان هو تجربته، وذاكرتي من تجاربي. هو نفسه قال لي: "تجاربي معبدي ومعبدي مقدس". قلت مستفزاً: "أنت تناقض نفسك، أم تعتقد أنني غبي؟". فصرخ في وجهي: "هل أناقض نفسي؟ نعم، أناقض نفسي. وشو يعني؟ عقلي من ذهب نقي".
علي جانب آخر هناك هذه الفرضية التي ينبغي انتهازها: لا يريد بري تحويل حسين إلي إله مثله بقدر رغبته في رؤية الآثار الواقعية لقدرته كإله علي هذا التحويل تجاه بشري آخر.. الممارسة التي لا يمتحن من خلالها ألوهيته وحسب، وإنما أيضاً بشريته (السابقة)، التي تحاول إثبات غيابها في ذات أخري "الإله الذي بلا ذاكرة"، وفي نفس الوقت التيقن من حضورها في هذا الآخر (الذي يحتفظ بتجاربه).. إن الفصام يمكنه أن يتطور ليصبح أقرب إلي المحاكمة والعقاب (الإنسان الذي يحاكم الإله المناقض لنفسه)، و(الإله الذي يحاكم الإنسان الذي لا يستطيع تجاوز حدود الماضي) .. لابد أن يمتد الاستفهام بالتالي نحو (التجارب) التي يبدو أنها تقع في تلك المنطقة الملتبسة حيث لا يمكن التنازل عنها، وكذلك لا يمكن توظيفها كخبرة منقذة من الجنون.
"كنت سمعته يتحدث عن "الضوء الأزرق" مرات قليلة فقط: مثلاً، حين قال إن "طائري الأزرق" زاره في الليل، وحين قال إنه "سيعيد الضوء الأزرق عارياً نحو بيته"، وفي مرة ثالثة كنا فيها راجعين إلي بيته عبر ممرات الغابة الصغيرة في الحرم الجامعي، ونمشي بقرب سور إسمنتي ما، تحت رذاذ النيون، تمتم لنفسه: "بري، لا! لا!، قلت: لا يا بري!"، سألته عمّ ينهي نفسه عنه، ولكنه لم يجب، ثم قال: "يا رجل، في كل إنسان قوة غامضة مستعدة حتي لمضاجعة الأم والأب والشجر والسعادين!".
إن الضوء الأزرق لا يخلق الفصام بل يخلق أيضاً ما ينطوي عليه من أشكال أخري متنوعة للفصام .. الرهان ـ كأنه فرصة الخلاص المتاحة دائماً ـ علي لذة الرعب من عبور السياج نحو الجنون كما يراها المنزلق نحو الظلام، أو الألوهة كما يراها ذلك الذي استقر علي الجانب الآخر متخلصاً من العقل البشري .. الضوء الأزرق الذي يمثل الشخصية الفصامية للبحر، حيث يمكن لـ حسين الطفل الذي يراقبه أن يظل يتساءل حتي آخر لحظة من عمره: (ماذا لو كان الله قد نسي خلق الكون بأكمله؟ وماذا لو خلقني الله في الكون وحدي فقط؟ وماذا لو لم يكن الله موجودا؟ً) .. إن السيرة تخلق الله أيضاً بينما تخلق عدم وجوده .. تخلق الذكوري والأنثوي في بري / الإلهي، مثلما تخلق ارتكاباتهما المختلسة تحت سطح ذلك البحر .. هل الكتابة إذن هي (عقلنة الجنون المغري والجاذب) أي بحسب حسين البرغوثي إشاحة الوجه عن (معرفة أكيدة، وحتمية جداً) أو (ملامسة الجنون دون إيقاظه)، أم أن الكتابة هي النظر بقوة إلي تلك المعرفة بقدر مفترض من الأمان؟.. بري كان يري ما لم يكن يحتمل حسين أن يراه، ولكن بري لم يكتب بينما فعل حسين ذلك.. الضوء الأزرق ليس مجرد احتفال بالصراع، بل يبدو أيضاً أنه تجميع لقصاصات النصوص التي مزقتها الآلهة ـ كما مزق بري قصيدة حسين ـ كي يكون بوسعنا التهكم واللعب بفصامها عندما تطلب ـ أي الآلهة ـ من الغرقي اتباعها وألا يثقوا فيها أبداً.
لا تُشكّل الحركة مسارات اكتشاف إذن بل آثار وبصمات قلقة ومتوترة للخلق فيما وراء الذاكرة.. هذه الخطوات يتحالف داخل طاقتها السردية أرق الراوي الذي يهيمن عليه رعب فقدان العقل، وكذلك المقولات والتوجيهات المعرفية المُخلّصة التي يعطيها له "بري" الصوفي التركي، والمجنون المشرد في صيغة إشارات رمزية.
"وكلما سألت "بري" سؤالاَ ما، أجاب جواباً يدل علي عدم رغبة في أن يفتح لي أية بوابة أو ثغرة لأي حوار حقيقي. نادراً ما تحدث عن أية ذكري من ذكرياته، وحتي الآن، لا أعرف شيئاً عن ماضيه. كان بحاراً، وطباخاً، وصوفياً، وطالباً جامعياً، ومشرداً. هذا تقريباً هو كل شيء أعرفه. وحيّرني عالمه، كالبحر، وكنت أجلس علي حجر في الرمال، عارياً، وطفلاً، كما كنت في بيروت، وأحدّق في جهات البحر الثاني: أغوار هذا المخلوق. مرت مدة ونحن، أنا و"بري"، علي مسافة، لا هو يفيض كالبحر، ولا أنا أهرب كطفل الجبال. نقطة تشبه حركة "فريز" "التجمد في المكان" في المسرح".
إن ما يبدو ظاهرياً كحقيقة طاغية للاشتباك بين الأنساق الحكائية والتأملية في "الضوء الأزرق" هو الصراع بين الجنون الذي يسقط حسين تدريجياً في ظلامه، وإنقاذ عسير غائب يُمثل "بري" وعداً حاضراً ومتجسداً لإمكانية تحقيقه .. لكن أساس هذا البناء النثري ربما يكون الحركة ذاتها أكثر من الوصول الفعلي.. ترتيب المسارات أكثر من الحصول علي يقين حاسم يضع حداً لفقدان العقل.. هذا ما يجعل من السيرة انشغالاً بالخلق وليس بالاكتشاف، أو يمكن القول أن الاكتشافات التي يصادفها البرغوثي أثناء التنقيب في الماضي المتزامن مع مراقبة الواقع؛ هذه الاكتشافات يتعامل معها كمواد قابلة للاستثمار السردي .. خامات يتحدد وجودها وفقاً للقدرة علي استعمالها خيالياً في خلق العالم وليس التحرر من كوابيسه .. إن العلاقة بين حسين وبري أقرب إلي التواطؤ الضمني .. اتفاق مستتر بين رجل يبحث عن الخلاص لكتابة حياة أخري، ومجنون مشرد يعاونه علي كتابة هذه الحياة متنكراً في هيئة العارف الذي لا يمكنه إنقاذ نفسه .. بين الأزرق (كخالق)، والفراغ اللائق لرسم المأساة.
"ووجدتني من رواد مكتبات "الأسرار"، من نبوءات نوستراداموس، حتي الـ "آي تشينغ" ("كتاب التغير" السحري في الصين القديمة)، ومن لاوتسو حتي "أعمدة الزن السبعة"، ومن الزن حتي رواية "طريق محارب مسالم" لدان ميلمان، ومنه لكاستينادا الذي يزعم البعض أنه لفق ما كتبه عن السحر عند الهنود الحمر، ومن هناك لـ "يوبيناشادات" (نصوص مقدسة في الهند). كنت أكتب ملاحظاتي في دفتر صغير أحمله معي دائماً. وبدأت بفك طلاسم لغة "بري"".
هل يتوقف بري عند كونه الصوفي التركي الذي ينتج الإرشادات المتقطعة والغامضة لما يبدو أنها حكمة متعالية بطريقة ما، والتي يحاول حسين أن يختبر نجاته الشخصية من الجنون بواسطتها؟ .. لا يقتصر حضور "بري" عند هذا الحد، فوراء علاقته بالسارد التي تأخذ هذه الصورة النمطية يمكننا تخيل أنه كان يستخدم البرغوثي علي نحو غير مباشر من أجل حيازة خلاصه هو الآخر.. كأن هذه الذات المراوغة التي يحكمها مزيج ضبابي صلب من الطيش والترفع واللامبالاة تمتلك يقيناً سرياً بحتمية أن تتمثل في مرآة أخري.. أن تتجسد في كيان بشري مختلف، يحمل طبيعة مضادة، وبالضرورة يساعد هذا الكيان الذي لا يزال محتفظاً بشيء من (التعقل) يساعد ذات "بري" علي التخلص من عمائها الخاص، أو أن يمنحها وجوداً نقياً يتحول تاريخه المخبوء داخل أطره إلي قواعد ومفاتيح لخلود إلهي.. ربما كان حسين جديراً باحتواء هذا التناسخ ـ وهو ما سيتم من خلال كتابة "الضوء الأزرق" مثلاً ـ الأمر الذي يوفر للعلاقة بينهما مبررات للصراع الذي سيقوده الهاجس الفصامي.
"ويبدو أن سبب تغييره لاسمه هو اعتقاده بقدرة الاسم السحرية علي التأثير علي المسمي، سواء أكان حجراً أم بشراً، وبالتالي، فإن تغييره لاسمه يعني رغبته في تغيير هويته، التي تقع تحت السلطة السحرية للاسم الجديد. إن كان اسم "بري" مشتقاً من "باري"، فإنه يتشبه بالله، كما ورد في الـ "تشبهات" الصوفية عند ابن طفيل في "حي بن يقظان"، ومثاله الأسمي أن يكون "حياً" و"يقظاً"، و"نقياً"، وربما إلهاً".
تخرج العلاقة بين حسين وبري من النطاق التبادلي (الإنسان الذي يريد أن يكون إلهاً، والإله الذي يريد أن يكون إنساناً) إلي صراع بين الحقيقتين الإلهية والبشرية داخل ذات كلٍ منهما، أو كأن حسين وبري ليسا إلا طرفي نزاع ينتميان إلي جسد واحد يحاول أحدهما أن يلحق الهزيمة بالآخر ويسيطر عليه في رحلة الإنفلات خارج هذا الجسد (الذاكرة) بينما يتمسكان بالتواري خلف الفكرة التقليدية (الإنسان الذي يبتغي حيازة المعرفة المقدسة والشافية من الإله).
("أهلا، حسين، جئت؟". "جئت طبعاً، أنت تحاول السيطرة علي عقلي يا رجل!". قعد وقال: "من امتيازات العقل الأعلي أن يسيطر علي العقل الأدني. إن لم يكن عقلك دونياً، لا يجب أن تخشي من السيطرة، وإن كان أدني مني، فمن امتيازاتي السيطرة عليه، وتستطيع أن ترحل". "لا! سأبقي، سيطر إن استطعت".
الضوء الأزرق هنا سيكون بمثابة الملامسة الملتذة للصراع .. تأمل الانشطار والتناغم.. سيكون الجسر الرابط بين الاحتمالات المتناقضة: أن تكون بشرياً علي حافة الجنون الكامل، وأن تكون بشرياً أصبح إلهاً.. حسين لا يريد أن يكون بري ومع ذلك يسعي للحصول علي ألوهيته.. بري نجح في التخلص من بشرية حسين ومع ذلك يحاول استرداد عقله الضائع في جسد صديقه وأن يري هذا التأثير كحقيقة متعيّنة.
"انفصام شخصية المكان إلي ضفتين حالة "فضائية"، فيها كل شخصية تستقل عن الشخصية الأخري، ولابد من "ممر" ما، خدعة ما، كي يمكن القول إن الشخصيتين تسكنان معاً في "نفس" الشخص رغم استقلالهما، في "جسم واحد" ومريض واحد، ومكان واحد".
الضوء الأزرق هو الممر والخدعة لأنه طاقة الخلق التي تجمع بين حسين وبري في كيان واحد أي ذلك المنجز الكتابي الذي سيتكفل بأن يكون سيرة لهذه الحياة بينهما، وقبل ذلك لأنه المحرّض علي تشريح هذه العلاقة الجدلية بين طبيعتيهما المتنافرتين، وتفحص دلائل اقترانهما داخل "نفس" الجسم.
"قلبي كان يعبر من عوالم لعوالم أخري مع كل كلمة منه. وكنت مذهولاً من طريقة فهمه للأشياء: أول كائن، أو مجنون، لا يناقشني ولا في أي شيء مما رويته له عن حياتي، ويشير إليّ بأن ألقي بكل "ذاكرتي" في صناديق القمامة. الإنسان هو تجربته، وذاكرتي من تجاربي. هو نفسه قال لي: "تجاربي معبدي ومعبدي مقدس". قلت مستفزاً: "أنت تناقض نفسك، أم تعتقد أنني غبي؟". فصرخ في وجهي: "هل أناقض نفسي؟ نعم، أناقض نفسي. وشو يعني؟ عقلي من ذهب نقي".
علي جانب آخر هناك هذه الفرضية التي ينبغي انتهازها: لا يريد بري تحويل حسين إلي إله مثله بقدر رغبته في رؤية الآثار الواقعية لقدرته كإله علي هذا التحويل تجاه بشري آخر.. الممارسة التي لا يمتحن من خلالها ألوهيته وحسب، وإنما أيضاً بشريته (السابقة)، التي تحاول إثبات غيابها في ذات أخري "الإله الذي بلا ذاكرة"، وفي نفس الوقت التيقن من حضورها في هذا الآخر (الذي يحتفظ بتجاربه).. إن الفصام يمكنه أن يتطور ليصبح أقرب إلي المحاكمة والعقاب (الإنسان الذي يحاكم الإله المناقض لنفسه)، و(الإله الذي يحاكم الإنسان الذي لا يستطيع تجاوز حدود الماضي) .. لابد أن يمتد الاستفهام بالتالي نحو (التجارب) التي يبدو أنها تقع في تلك المنطقة الملتبسة حيث لا يمكن التنازل عنها، وكذلك لا يمكن توظيفها كخبرة منقذة من الجنون.
"كنت سمعته يتحدث عن "الضوء الأزرق" مرات قليلة فقط: مثلاً، حين قال إن "طائري الأزرق" زاره في الليل، وحين قال إنه "سيعيد الضوء الأزرق عارياً نحو بيته"، وفي مرة ثالثة كنا فيها راجعين إلي بيته عبر ممرات الغابة الصغيرة في الحرم الجامعي، ونمشي بقرب سور إسمنتي ما، تحت رذاذ النيون، تمتم لنفسه: "بري، لا! لا!، قلت: لا يا بري!"، سألته عمّ ينهي نفسه عنه، ولكنه لم يجب، ثم قال: "يا رجل، في كل إنسان قوة غامضة مستعدة حتي لمضاجعة الأم والأب والشجر والسعادين!".
إن الضوء الأزرق لا يخلق الفصام بل يخلق أيضاً ما ينطوي عليه من أشكال أخري متنوعة للفصام .. الرهان ـ كأنه فرصة الخلاص المتاحة دائماً ـ علي لذة الرعب من عبور السياج نحو الجنون كما يراها المنزلق نحو الظلام، أو الألوهة كما يراها ذلك الذي استقر علي الجانب الآخر متخلصاً من العقل البشري .. الضوء الأزرق الذي يمثل الشخصية الفصامية للبحر، حيث يمكن لـ حسين الطفل الذي يراقبه أن يظل يتساءل حتي آخر لحظة من عمره: (ماذا لو كان الله قد نسي خلق الكون بأكمله؟ وماذا لو خلقني الله في الكون وحدي فقط؟ وماذا لو لم يكن الله موجودا؟ً) .. إن السيرة تخلق الله أيضاً بينما تخلق عدم وجوده .. تخلق الذكوري والأنثوي في بري / الإلهي، مثلما تخلق ارتكاباتهما المختلسة تحت سطح ذلك البحر .. هل الكتابة إذن هي (عقلنة الجنون المغري والجاذب) أي بحسب حسين البرغوثي إشاحة الوجه عن (معرفة أكيدة، وحتمية جداً) أو (ملامسة الجنون دون إيقاظه)، أم أن الكتابة هي النظر بقوة إلي تلك المعرفة بقدر مفترض من الأمان؟.. بري كان يري ما لم يكن يحتمل حسين أن يراه، ولكن بري لم يكتب بينما فعل حسين ذلك.. الضوء الأزرق ليس مجرد احتفال بالصراع، بل يبدو أيضاً أنه تجميع لقصاصات النصوص التي مزقتها الآلهة ـ كما مزق بري قصيدة حسين ـ كي يكون بوسعنا التهكم واللعب بفصامها عندما تطلب ـ أي الآلهة ـ من الغرقي اتباعها وألا يثقوا فيها أبداً.
أخبار الأدب
30/04/2016