يدفعني التفكير في
(نصائح الكتابة) إلى التمييز بين نوعين من الكتّاب .. الذين تتخذ نصائحهم طبيعة
إيحائية يتضمنها التأمل والاستعادة التوثيقية لتجارب الماضي، مقابل الكتّاب الذين
يحددون على نحو مباشر قوائم من الإرشادات الحاسمة، التي تقرر ما يمكن اعتباره
خلاصة الخبرة الروائية .. نصائح النوع الثاني بشكل عام لا تمثل ـ حتى مع ارتفاع
نبرة القانون البديهي التي تقصد حماية هذه النصائح ـ لا تمثل سوى ذخيرة من الفرضيات
المُلهِمة .. احتمالات قابلة للتحوّل إلى ترتيبات إيجابية نحو تحقيق انتصار ما ..
أتصور أن الخطوات الأولى في حياة الروائي هي أكثر الأزمنة الملائمة لخلق هذه
العلاقة بين إجابات تدعي الصلابة والقدرة على تخطي الألم، والاستفهامات المرتبكة
التي تحاول الوصول إلى نوع راسخ من اليقينيات .. لكن النصائح تعطي أحياناً ما يشبه
الطمأنينة الجمالية الناجمة عن اكتشاف قدر من التطابق أو المشابهة بين الرهانات
السردية عند روائي وآخر .. درجة من التوحد بين أفكار وقناعات خاصة ارتبطت بحالة
كتابة معينة، وهواجس وانحيازات شكّلت وقائعً حقيقية لكتابة أنجزها وعي مختلف ..
التآلف المرتفع فوق الحدود النمطية، حيث متعة التأكد من أنك لست وحدك داخل
المتاهات المنعزلة .. لكن الانسجام مع تاريخ ما لأحد الكتّاب الذين أثبتت معرفة اختباراته
الروائية صواب المنطق الذي تولى تشييد عالمك السردي، هذا الانسجام ينبغي أن يتضاءل
أمام التحرر من النصائح حتى تلك التي كان بوسعها أن تمنح الغنائم الثمينة عند
مواجهة المآزق .. تجاوز التوجيهات حتى تلك التي سبق أن استطاعت توفير الثقة في صحة
الاختيارات، وسلامة الرؤية .. ربما من أسوء ما يمكن أن يرتكبه الكاتب هو القمع
الذاتي الذي يتصدى من خلاله لابتكار ضروري استجابة لتنبيه صارم (مُصاغ كنصيحة) من
روائي ما .. التنازل عن لعبة شخصية في مسودته كخضوع أعمى لتحذير أحد الروائيين من
منتجي التعليمات المستندة إلى رصيد كتابي يُعتقد أن يكون سلطوياً .. أتذكر الآن
جزءً مما كتبته عن كتاب (لماذا نكتب؟): (إن القيمة الجوهرية لتلك الخلاصات تنبع من كونها احتمالات داعمة
للمواساة الضرورية أحياناً .. عزاء يستند إلى قرائن دامغة للتشارك في تفاصيل دقيقة
من هموم عامة .. لكن المواساة في أنجح الأحوال لا تمحو الألم، وإنما يمكنها
المساعدة على التحرر من حصاره اللحظي .. لا يوفر العزاء تحصيناً ضد الأذى، ولكنه
يفتح باباً مغلقاً لتنظر من خلاله إلى سماء أبعد حيث تحلق سكينة ما .. لذا على
الرغم من تلك الأصوات المتعددة التي تخبرك طوال الوقت بأنك لست وحدك في هذه
الورطة، فإن الشعور بالاختناق ربما يظل محتفظاً ببداهته العمياء، التي لا تخفت حتى
مع مرور الزمن عند رصد الاضطراب السردي في عملك (الأخطاء والتكرار)، وعدم قبول
قارىء ما لكتابتك (جحيمك الذي لا يُمتع الآخرين)، ومحاولات النقاد لقتلك (كيف
تجروء على الكتابة هكذا؟!) .. مزيج الندم والغضب والسأم الذي يغرقك كل مرة كأنه
جرحك الأول، ربما لأن كل كتابة ستبقى في الواقع كأنها كتابة أولى تختبر الإجابات،
وتستجوب الحقائق، وتراوغ اليقينيات، وتحاكم العقائد، وتنقب في العالم عن
الاحتمالات المنقذة).
شهادتي ضمن ملف (هل يمكن للوصفات التي تنظر للكتابة أن تصنع كاتبا) للكاتبة (خلود الفلاح) في صحيفة (العرب).