الثلاثاء، 1 أبريل 2025
إكمال المعجزة
جزء من رواية “نبوءات لا مرئية” ـ قيد الكتابة
اللوحة: رينيه ماغريت
الحبكة المحتالة (5): الحكمة الذكورية لحكاية الصبية المقتولة
إن الأمر لا يتعلق بالقتل أو اكتشاف الجاني أو العقاب، وإنما بكيفية تلفيق حبكة عن “القوة” و”العدل” لخليفة يعتمد على حكمة “الحكايات” في تبرير مشيئته .. هنا لا يهم المنطق، وإنما كيفية تمرير صورة خارجية مهيبة للخليفة يخضع ويتودد لها المحكومون، غير المساءلين أو المجادلين، بل والمؤمنين والمدافعين عن تفاصيل هذه الصورة وما تستند إليه .. هؤلاء ليسوا مقصورين على زمن محدد، بل إن الذين لديهم استعداد للتغني بهذا الشكل الوحشي للحكم، والذي تبرره أعراف وتقاليد ذكورية راسخة، هؤلاء يتناسلون في تزايد لا ينقطع عبر الزمن .. أعراف وتقاليد ليست منفصلة بالتأكيد عن الغريزة العقائدية أو سلطة “الدين”، ويمكن القول إن الإيمان بالمقدس الغيبي يوفر بديهيًا إمكانية تحريضية بالغة السهولة لانتهازه في ممارسة هذه الأعراف لسطوتها.
أستعيد الآن فقرات من مقالي عن رواية “يوم آخر للقتل” للكاتبة هناء متولي:
“تخاطب شهرزاد الرجل الذي يدرك بشكل غير واع بأنه حُرم من أصل كامل ومحصن، وأنه بكفاحه الغريزي المستمر لتعويض هذا الحرمان (الفعل الدنيوي) قد ازداد ابتعادًا عن ذلك الأصل المجهول أي تعمّق غيابه في بشريته. تخاطب الرجل الذي يتمرد دون استيعاب على قدره كإنسان، أي على النموذج المثالي الذي تجرّد منه، مجاهدًا بهذا التمرد أن يسترد ذلك الأصل أو ما حوّله الإنسان إلى مثال كوني مطلق يتم الخضوع له أو استرضاء ما يُعتقد أنها الإرادة الخفية لهذا النموذج، وليتبرأ بفعل الكبت من هذا التمرد بإحالته عفويًا إلى قوى غيبية مستقلة مثل “الشيطان” يُنسب لها العصيان أو الممارسات الفاسدة، خاصة تلك التي تتصل مباشرة بما يُسمى “الماورائيات”. تخاطب شهرزاد الرجل الذي يحتمي بنصوص تمييزية اتخذت طبيعة السلطة الذكورية (التقاليد والأعراف والمحرمات) التي أنتجتها منذ القدم، وتوطدت سطوتها عبر الزمن”.
“أصبح تمرد شهريار على الصفة الإنسانية والإرادة الضمنية لامتلاك الأصل الخيالي الغامض الذي يعجز أن يكونه، وباعتماده على الأسس النصية التي خطها التحيز الذكوري؛ أصبح هذا التمرد قائمًا على “قتل النساء”.
“يتخذ الأمر إذن هذه الصيغة: رجل يحاول تعويض “إعجازيته الغائبة” عبر جسد المرأة، ولكن استمتاعه بهذا الجسد يرسخ افتقار الرجل لذلك الأصل الإعجازي، كلما حاصر هذا الجسد وقمعه كلما أيقن أن سلطته الذكورية زائفة، غير مطلقة، ومن ثمّ يتعيّن عليه مواصلة الانتقام من هذا الجسد حتى يستعيد نموذجه الخيالي. على جانب آخر تحاول المرأة تعويض “شهرزادها المتعالية” بأن تكون شهية من غير تنكيل بحريتها، كما أرادت سارة في المرآة أيضًا “تؤكل من دون جهد”، ولكن جسدها يوقن أنه لن يمنح المتعة الأبدية، ومن ثمّ يتعيّن عليها الثأر من شهوة الرجل الذي دمغ جسدها بالشر وقدمها قربانًا لخلاصه المستحيل، حتى تسترد ذلك الجسد المقصي (تمنحه لها المرآة) الذي يُشبِع دون نقصان”.
كان “الرجل” في حكاية “الصبية والتفاح وريحان العبد” يستعمل المرأة في محاولة إثبات ألوهيته، وفي الانتقام من عجزه عن أن يكون “إلهًا”.
السكير
ترجمة: ممدوح رزق
مثّل موت السيد دولي صدمة قاسية لأبي. كان مسافرًا تجاريًا وله ابنان في الدومينيكان، ويمتلك سيارة؛ لذا كان يتفوق علينا اجتماعيًا بكثير، ومع ذلك لم يكن موصومًا بالكبرياء الزائف. عُرف السيد دولي كرجل مثقف، ومثل جميع المثقفين، أحب الكلام أكثر من أي شيء آخر. بصورة محدودة كان أبي مثقفًا أيضًا؛ يقرأ جيدًا، ويمكنه تقدير المتحدث الذكي. تميّز السيد دولي بذكاء ملحوظ، ومع علاقاته المهنية واتصالاته الكنسية؛ بدا كما لو أنه لا شيء يخفى عليه. تعوّد كل مساء أن يعبر الشارع إلى بوابة بيتنا كي يسرد لأبي خبرًا تلو الآخر، بصوت منخفض ونبرة عميقة وابتسامة واثقة. كان أبي ينصت إليه مندهشًا، ويُظهر من حين لآخر دليلًا على استيعابه لموضوع المحادثة ثم يدخل إلى أمي وزهو الانتصار يتوهج على ملامحه قائلًا: “هل تعرفين ما الذي أخبرني به السيد دولي؟”.
منذ ذلك الحين، وكلما أبلغني شخص ما بمعلومة غير متداولة؛ كنت أجد نفسي على وشك سؤاله “هل أخبرك بذلك السيد دولي؟”.
حتى اللحظة التي رأيته خلالها ممددًا بالفعل في كفنه البني مع حبات المسبحة متشابكة بين أصابعه الشمعية؛ لم أعتبر خبر موته جادًا. حتى في ذلك الحين شعرت أنه حتمًا ثمة شيء غير عادي، وأنه في إحدى الأمسيات الصيفية سوف يظهر السيد دولي مرة أخرى عند بوابة بيتنا ليخبرنا عن العالم الآخر.
كان أبي متأثرًا للغاية لأن السيد دولي يماثله في العمر، وهو ما يعطي دائمًا طابعًا شخصيًا لموت رجل آخر، وأيضًا لأنه لم يعد لديه الآن من يخبره عن الأعمال القذرة التي تدور في الخفاء. كان يمكنك أن تعد على أصابعك عدد الرجال في شارع بلارني الذين يقرؤون الصحف كما اعتاد السيد دولي أن يفعل، ولم يكن أي من هؤلاء ليغفل عن حقيقة أن أبي مجرد عامل. حتى النجار سوليفان، وهو شخص عادي، كان يعتبر نفسه أفضل من أبي. وفاة السيد دولي كانت بالتأكيد خسارة فادحة.
“الساعة الثانية والنصف في كوراغ” قال أبي في شرود وهو يزيح الصحيفة.
“لكن، هل تفكر في الذهاب إلى الجنازة؟” سألت أمي بقلق.
“هذا بديهي” قال أبي مشتمًا المعارضة. “لن أترك لأحد فرصة الانتقاد”.
“أعتقد أن ذهابك للكنيسة أكثر مما يتوقع أي شخص” قالت أمي بتوجس مكبوت.
كان الذهاب إلى الجنازة يعني شيئًا واحدًا بالنسبة لأمي: خسارة أجر نصف يوم.
“الناس بالكاد يعرفوننا” أضافت.
“الله يحول بيننا وبين كل ضرر” أجاب أبي بسمو. “سنكون سعداء حين نؤدي دورنا”.
للحق؛ كان أبي مستعدًا للتنازل عن أجر نصف يوم من أجل جاره القديم. لم يكن الأمر متعلقًا بحبه للجنازات بقدر ما يرجع لضميره الذي يقود أفعاله، وما كان هناك أكثر عزاءً لموته المحتمل مثل الاطمئنان إلى جنازة تليق به. للحق أيضًا؛ لم يكن ما يؤرق أمي هو أجر نصف اليوم بحد ذاته، بالرغم من وضعنا المالي السيء، وإنما كانت المسألة ترتبط بنقطة ضعف أبي الكبرى وهي الشُرب.
كان باستطاعته أن يبقى صامدًا لشهور عدة، بل حتى لسنوات متتالية، وأثناء ذلك يتحوّل إلى جوهرة بشرية؛ يستيقظ صباحًا قبل الجميع، ويجلب لأمي فنجان الشاي في السرير، ويبقى بالمنزل مساءً ليقرأ الصحيفة. كان يدخر المال ويشتري لنفسه بدلة جديدة من القماش الأزرق وقبعة بولر، ساخرًا من حماقة الرجال الذين يهدرون أموالهم التي كسبوها بعناء أسبوعًا تلو الآخر عند أصحاب الحانات. أحيانًا، ولكي يمرر ساعة من وقت فراغه؛ كان يُحضر ورقة وقلمًا ويحسب بدقة ما وفره كل أسبوع أثناء امتناعه عن شرب الكحول. بإغواء من طبيعته المتفائلة؛ كان يستمر أحيانًا في إجراء هذه الحسابات قياسًا بفترة وجوده المتوقعة بالمنزل ليحصل في النهاية على نتيجة مذهلة. كانت لحظة موته ستأتي وفي رصيده مئات الألوف من الجنيهات.
لم أكن أعلم أن ذلك نذير شؤم؛ فقد أكسبه الامتناع عن الكحول وادخار المال تشبعًا بالكبرياء الروحي فبدأ يتخيل نفسه أفضل من جيرانه، وسريعًا تضاعفت حدة هذا الكبرياء مما استدعى شكلًا من الاحتفال. تناول كأسًا من البيرة ـ مشروب غير ضار بعكس الويسكي ـ وتلك كانت هي النهاية. شعر بأنه أحمق؛ فتناول الكأس الثاني لينسى ذلك، ثم تناول الثالث لينسى أنه لا يمكنه النسيان، وفي آخر الليل عاد إلى المنزل ثملًا.
من هذه اللحظة فصاعدًا كان “انهيار السكير” كما يٌكتب في المطبوعات الأخلاقية. في اليوم التالي مكث بالمنزل بسبب صداع شديد بينما ذهبت أمي لتقدم اعتذاره في العمل. خلال أسبوعين ظل فقيرًا ومكتئبًا ومتوحشًا مرة أخرى. بمجرد أن يبدأ الشُرب لا يكون بوسعه التوقف، وكانت أمي وأنا نعرف جميع المراحل اللاحقة، ونخشى مخاطرها كافة. الجنازات كانت واحدة من تلك المخاطر.
“عليّ الذهاب إلى دنفي للعمل نصف يوم” قالت أمي بقلق. “من سيرعى لاري؟”
“سأعتني بلاري”، قال أبي بلطف. “قليل من المشي سيفيده”.
لم يكن هناك المزيد ليقال. على الرغم من معرفة الجميع بأني لست في حاجة لعناية أي شخص، وأن بمقدوري البقاء في المنزل ورعاية سوني، لكنني كنت متورطًا في الحرب كلجام لأبي. ككابح لم يحرز نجاحًا في مهمته على الإطلاق. لكن، مع ذلك، كانت أمي تؤمن بي كثيرًا.
في اليوم التالي، وعندما عدت من المدرسة، وجدت أبي وقد أعد لنا كوبين من الشاي. كان بارعًا في تحضير الشاي، ولكنه ثقيل اليد في أي أمر آخر، مثل طريقته الصادمة في تقطيع الخبز. بعد ذلك توجهنا إلى الكنيسة، وكان أبي يرتدي أفضل بدلة زرقاء لديه، وقبعة دائرية مائلة إلى جانب رأسه مع أقل قدر من الخيلاء. لفرحته الكبيرة اكتشف وجود بيتر كراولي بين المعزين. كان بيتر إشارة خطر أخرى كما علمتني جيدًا بعض تجارب ما بعد قداس الأحد الصباحي. رجل لئيم، مثلما تقول أمي، يذهب إلى الجنائز فقط من أجل الحصول على المشروبات المجانية. تبين أنه لم يكن يعرف السيد دولي أصلًا! وكان أبي ينظر إليه بنوع من الازدراء باعتباره أحد السذّج الذين يبددون أموالهم الثمينة في الحانات بدلًا من توفيرها. لم يهدر بيتر كراولي الكثير من أمواله!
كانت الجنازة ممتازة من وجهة نظر أبي. درس كل شيء جيدًا قبل أن ننطلق خلف النعش في شمس الظهيرة. “خمس عربات!” صاح. “خمس عربات وست عشرة عربة مغطاة! هناك عضو مجلس محلي، واثنان من المستشارين، وبالطبع الكثير من الكهنة. لم أر جنازة كهذه منذ أن توفى ويلي ماك الحانوتي”.
“آه، لقد كان محبوبًا جدًا” قال كراولي بصوته الشاحب.
“يا إلهي، ألا أعرف ذلك!” قال أبي. “ألم يكن أفضل أصدقائي! قبل ليلتين من وفاته ـ فقط ليلتين ـ كان هنا يخبرني بما يحدث بشأن عقد الإسكان. هؤلاء الرجال في البلدية لصوص ليلًا ونهارًا. لكن حتى أنا لم أتخيل أبدًا أنه كان معروفًا بهذا الشكل”.
كان أبي يخطو كصبي صغير، مبهورًا بكل شيء: المشيّعون والبيوت الجميلة على الطريق. كنت منتبهًا إلى إشارات الخطر الحاضرة جميعها بما يشبه التواطؤ: يوم مشمس، جنازة رائعة، ورفقة متميزة من رجال الدين والمسؤولين تستفز كل الغرور الطائش المعتاد في شخصية أبي. كان يبدو أن شيئًا من فرح حقيقي ينتابه حين رأى صديقه القديم ينزل إلى القبر مع إدراكه أنه قد أدى واجبه حقًا، وأنه مهما افتقد السيد دولي في أمسيات الصيف الطويلة فذلك أفضل من أن يكون السيد دولي المسكين هو الذي يفتقده.
“سنبدأ في الرحيل قبل أن يتفرقوا” همس أبي إلى كراولي بينما كان حفار القبور يلقي بالدفعات الأولى من الطين ثم انطلق بعيدًا يقفز مثل الماعز من نتوء عشبي إلى آخر. كان السائقون ـ الذين تتملكهم على الأرجح الحالة ذاتها رغم أنهم لم يمضوا شهورًا مثل أبي في الامتناع عن الشُرب ـ ينظرون إلى أعلى بشوق كبير.
“هل انتهوا تقريبًا، ميك؟” صاح أحدهم.
“انتهى كل شيء الآن، عدا الصلاة الأخيرة” أعلن أبي بنبرة من يجلب بشرى عظيمة.
مرت العربات بنا في سحابة من الغبار على بُعد مئات اليارادات من الحانة، وأبي، الذي كانت قدماه تسببان له المتاعب في الطقس الحار، راح يخطو سريعًا ويتلفت بشكل متوتر بحثًا عن أي علامة تشير إلى قدوم الجموع الرئيسية من المعزين عبر التل. في حشد مثل هذا، قد يُترك الرجل في انتظار بلا آخِر.
حين وصلنا إلى الحانة كانت العربات متوقفة في الخارج، ورجال تبدو عليهم الجدية يرتدون أربطة عنق سوداء يقدمون بحذر تعزياتهم إلى نساء مجهولات، تمتد فقط أيديهن بتواضع من وراء الستائر المسدلة داخل العربات. لم يكن في الحانة سوى السائقين وامرأتين ترتديان ملابس ضيقة وتغطيان رأسيهما بالشال. شعرت أنها اللحظة المناسبة إذا كان عليّ أن أكون كابحًا حاسمًا لأبي. بدأت أجذبه من ذيل معطفه…
“أبي، هل يمكننا العودة إلى المنزل الآن؟” سألت.
“دقيقتان فقط” قال مبتسمًا بمودة. “مجرد زجاجة عصير ليمون ونذهب إلى المنزل”.
كنت أعلم أنها رشوة، ولكنني في نفس الوقت كنت دائمًا طفلًا ضعيف الشخصية. طلب أبي عصير الليمون وكأسًا كبيرًا من البيرة. كنت عطشانًا فابتلعت شرابي دفعة واحدة. لكن ذلك لم يكن أسلوب أبي. كانت خلفه شهور طويلة من الامتناع، وأمامه أبدية من المتعة. أخرج غليونه، نفخ فيه، ملأه ثم أشعله بفرقعة عالية وعيناه تبرزان فوقه. بعد ذلك استدار عمدًا عن البيرة، ثم استند بمرفقيه على الطاولة في وضعية رجل لا يعرف أن ثمة بيرة خلفه، وبدأ ينظف يديه من التبغ. لقد أصبح يومه جاهزًا كما يليق بخبرة جميع الجنازات المهمة التي حضرها من قبل بانتظام. غادرت العربات وتدفق المعزون حتى امتلأت الحانة إلى نصفها.
“أبي” قلت وأنا أجذب معطفه مرة أخرى. “هل يمكننا الذهاب إلى المنزل الآن؟”
“آه، أمك لن تعود قبل وقت طويل” قال بما يكفي من الود. “ألا تريد الخروج للعب في الشارع؟”.
بدا رائعًا جدًا أن يفترض الكبار إمكانية اللعب بمفردك في طريق غريب. بدأت أشعر بالملل مثلما شعرت به كثيرًا من قبل. كنت أعلم أن أبي يستطيع البقاء هناك حتى حلول الظلام، وأنني قد أضطر لإعادته إلى المنزل وهو في حالة سُكر أعمى أمام أعين جميع النساء المسنات في شارع بلارني، الجالسات عند أبواب منازلهن، واللاتي سيباركن خطواتنا بالجملة نفسها “ميك ديلاني في حالته مرة أخرى”.
كنت أعلم أن أمي ستكون نصف مجنونة من القلق، وأنه في اليوم التالي لن يذهب أبي إلى العمل، وقبل نهاية الأسبوع سوف تهرول إلى محل الرهن مع الساعة تحت شالها. لم أستطع أبدًا التغلب على الشعور بالوحدة داخل المطبخ وهو خال من الساعة.
ظل العطش يلازمني بدرجة ما، ووجدت أنه إذا وقفت على أطراف أصابعي سوف أتمكن من الوصول إلى كأس أبي. راودتني فكرة أنه سيكون مثيرًا معرفة محتويات هذا الكأس. كان قد أدار ظهره بما يمنعه من ملاحظة الأمر. أخذت الكأس وتناولت رشفة بحذر. شعرت بخيبة أمل رهيبة مقترنة بالدهشة من أنه يمكن لأحد شُرب مثل هذا الشيء. بدا كما لو أن أبي لم يجرّب عصير الليمون مطلقًا، وكان ينبغي عليّ أن أنصحه بهذا الشأن، لكنني سمعته يتحدث بأسلوب رائع. كان يقول إن الفرق الموسيقية تمثل إضافة مميزة للجنازات. رفع ذراعيه على هيئة شخص يحمل بندقية بالمقلوب وتمتم ببعض نغمات المارش الجنائزي لشوبان”1″. أومأ كراولي برأسه تقديرًا. أخذت رشفة أكبر وبدأت أعتقد أن بيرة “بورتر””2” قد تكون لها مزاياها. شعرت بنشوة لطيفة كما لو أنها إشراق للحكمة. أخذ أبي يهمهم ببعض نغمات “المسيرة الميتة” من “شاول” “3”.
كانت حانة جميلة وجنازة رائعة، وكنت متأكدًا أن السيد دولي المسكين يجب أن يكون راضيًا للغاية في الجنة الآن. اعتقدت أيضًا أنه كان يجب عليهم إحضار فرقة موسيقية لجنازته. كما قال أبي: الفرق الموسيقية إضافة مميزة.
لكن الرائع في الـ “بورتر” هي الطريقة التي تجعلك تقف على جانبك، أو بالأحرى تطفو في الهواء مثل ملاك يتدحرج فوق سحابة، وتشاهد نفسك وأنت تعقد ساقيك، متكئًا على بار، دون القلق بشأن التوافه، بل بتفكير عميق في أمور جادة وناضجة حول الحياة والموت. عند النظر إلى نفسك بهذا الشكل لن يكون بوسعك بعد فترة سوى التفكير إلى أي مدى تبدو مضحكًا. فجأة شعرت بالخجل ورغبت في الضحك، لكن بمرور الوقت الذي انتهيت فيه من الشراب تجاوزت تلك المرحلة، ووجدت صعوبة في إعادة الكأس إلى مكانه. بدا أن الطاولة قد ارتفعت كثيرًا، وعاودت الكآبة هجومها.
“حسنًا” قال أبي بوقار وهو يلتفت ليأخذ مشروبه “لتسترح روح الرجل المسكين، أينما كانت!” ثم توقف محدقًا إلى الكأس ثم إلى الناس من حوله.
“مرحبًا” قالها بنبرة مرحة إلى حد ما، كما لو أنه جاهز لتقبّل مزحة حتى لو كانت سيئة. “من كان هنا؟”.
مرت لحظة صمت بعدها نظر الحانوتي والنساء المسنات إلى أبي أولًا ثم إلى كأسه.
“لم يكن هناك أحد يا سيدي الفاضل”. قالت إحدى النساء بنبرة مستنكرة. “هل تظن أننا لصوص؟”.
“آه، لا يوجد هنا من سيفعل شيئًا كهذا. ميك” قال الحانوتي مصدومًا.
“حسنًا، شخص ما فعلها” قال أبي وابتسامته تتلاشى.
“إذا حدث ذلك فهو من كان الأقرب” قالت المرأة بحنق وهي ترمقني بنظرة احتقار. في نفس اللحظة بدأت الحقيقة تنكشف لأبي. أفترض أنني بدوت كمن يحلم بصورة ما، انحنى وهزني …
“هل أنت بخير، لاري؟” سألني بقلق.
نظر بيتر كراولي إليّ وابتسم.
“هل يمكنك التغلب على ذلك؟” صاح بصوت خشن.
بدأت أشعر بالتعب. قفز أبي إلى الوراء برعب مقدس من أن أُفسد بدلته الجميلة ثم وجدته يفتح سريعًا الباب الخلفي للحانة …
“اهرب! اهرب! اهرب!” صرخ.
رأيت الجدار المضاء بأشعة الشمس في الخارج والمغطى بفروع اللبلاب المتدلية فركضت. كانت عزيمتي جيدة لكن أدائي كان مبالغًا فيه لأنني اصطدمت بالجدار وألحقت به ضررًا كبيرًا كما بدا لي، وبما أنني كنت مهذبًا للغاية؛ قلت “عذرًا” قبل أن تداهمني النوبة الثانية. جاء أبي ـ وهو لا يزال قلقًا بشأن بدلته ـ من خلفي بحذر ثم أمسك بي وشعرت بالأعراض تتفاقم.
“هذا ولد جيد!” قال مشجعًا. “ستكون رائعًا حينما تتخلص من ذلك”.
لكنني لم أكن رائعًا! كانت الروعة هي آخر ما يمكن أن أكون عليه. أطلقت صرخة واحدة بلا رحمة بينما كان يعيدني إلى الحانة ويجلسني على مقعد قريب من النساء اللاتي يرتدين الشالات. أشحن بوجوههن على نحو مهين، كن ما زلن غاضبات من تصوّره بأنهن شربن كأسه.
“يا إلهنا!” تمتمت واحدة منهن وهي تتطلع إليّ بشفقة. “أليس لأمثالهم آباء؟”.
“ميك”. قال صاحب الحانة بقلق وهو ينثر نشارة الخشب على آثار قدميّ. “ليس من المفترض أن يكون هذا الطفل هنا على الإطلاق، من الأفضل أن تأخذه إلى المنزل سريعًا قبل أن يراه شرطي”.
“يا إلهي الرحيم!” تذمر أبي رافعًا عينيه إلى السماء ثم صفق بيديه في صمت كما اعتاد أن يفعل حين يكون مضطربًا. “ما هذه المصيبة التي حلت بي؟ وماذا ستقول أمه؟ .. لو كان يمكن للنساء البقاء في المنزل والاعتناء بأطفالهن!” أضاف تلك الكلمات بنبرة غاضبة نحو النساء ذوات الشالات.
“هل رحلت العربات كلها، بيل؟”.
“العربات رحلت منذ زمن، ميك” رد صاحب الحانة.
“سآخذه إلى المنزل”. قال أبي في يأس. “لن أخرجك مرة أخرى”، مستطردًا بتهديد. أضاف وهو يعطيني المنديل النظيف من جيب صدره “ضع هذا على عينك”.
كانت الدماء على المنديل هي أول إشارة حصلت عليها بأنني قد جرحت، وفورًأ راح صدغي ينبض، وبدأت أصرخ ثانية.
“اسكت! اسكت! اسكت!” قال أبي بحدة وهو يخرجني من الباب. “يمكن لأحد أن يظن أنك قُتلت. هذا لا شيء، سنغسله عندما نصل إلى المنزل”.
“اهدأ الآن، يا صديقي القديم!” قال كراولي وهو يتحرك إلى جانبي الآخر. “ستكون بخير خلال دقيقة”.
كان برفقتي رجلان خبيران في تأثير الشًرب. أصابني دفء الشمس ونسمة الهواء النقي الأولى بالدوار أكثر من أي وقت مضى. رحت أتمايل مع الرياح وبين والمد الجزر حتى بدأ أبي يتذمر مجددًا.
“يا إلهي، ألا يمكنك السير مستقيمًا؟”.
لم أستطع، ورأيت بوضوح أن كل امرأة صغيرة وكبيرة في شارع بلارني كانت تتطلع من بابها نصف المفتوح، أو جالسة على عتبته. توقفن عن الثرثرة ليحدقن جميعًا إلى هذا المشهد الغريب لرجلين رصينين في منتصف العمر، يسندان ولدًا صغيرًا مخمورًا لديه جرح فوق عينه. كان أبي ممزقًا بين الرغبة الخجولة في إعادتي إلى المنزل بأسرع ما يمكن، والحاجة لتفسير الموقف أمام الجيران بأن ذلك لم يكن خطأه. توقف أخيرًا أمام منزل السيدة روش.
كانت هناك مجموعة من العجائز خارج باب أحد المنازل على الجانب الآخر من الشارع. لم تعجبني ملامحهن من البداية. بدت عليهن علامات الاهتمام المفرط بي. اتكأت على جدار كوخ السيدة روش ويداي في جيبي بنطالي، أفكر بحزن في السيد دولي المسكين الراقد في قبره البارد، والذي لن يخطو في هذا الشارع مرة أخرى أبدًا، وبحماس كبير بدأت أغني إحدى أغنيات أبي المفضلة.
“على الرغم من ضياعه في مونونيا وبرودة قبره
إلا أنه لن يعود إلى كينكورا مرة أخرى”.”4″
“ياللطفل المسكين!” قالت السيدة روش. “ألا يمتلك صوتًا رائعًا، الله يباركه”!
هذا ما اعتقدته أيضًا عن نفسي، لذا كنت أكثر دهشة عندما قال أبي “اصمت!” وهو يرفع إصبعه مهددًا. بدا لي أنه لم يدرك مدى ملاءمة الأغنية لهذه اللحظة فبدأت أعيد غناءها بصوت أعلى.
“اصمت، أقول لك!” صاح بحدة ثم حاول أن يُظهر ابتسامة للسيدة روش. “نحن قريبون من المنزل الآن. سأحملك بقية الطريق”.
رغم ثمالتي؛ كنت أدرك بأني لا يجب أن أُحمل بهذه الكيفية المهينة.
“الآن” قلت بجدية، “ألا يمكنك أن تتركني في حالي؟ أستطيع المشي جيدًا. المشكلة فقط في رأسي. كل ما أريده هو الراحة”.
“يمكنك أن ترتاح في سريرك” قال أبي معنّفًا وهو يحاول رفعي، وعرفت من احمرار وجهه أن غضبه قد وصل إلى الذروة.
“آه، ياللمسيح” قلت بغضب “لماذا أعود إلى المنزل؟ لماذا لا يمكنك أن تدعني وشأني؟”.
لسبب ما، اعتقدت مجموعة العجائز على الجانب الآخر من الشارع أن ذلك كوميديًا جدًا. كادت ضحكاتهن تنفجر. شعرت باستياء شديد يتصاعد بداخلي وأنا أفكر في أنه ليس بوسع المرء أن يتناول قطرة شراب دون أن يتجمع الجيران في الخارج للسخرية منه.
“على من تضحكون؟” صرخت، مشهرًا قبضتي نحوهن. “سأجعلكن تضحكون من الجانب الآخر لوجوهكن إذا لم تتركوني أمر”.
بدا أنهن وجدن ذلك أكثر مرحًا، لم أر أبدًا في حياتي أناسًا يفتقرون إلى التهذيب مثل هؤلاء.
“ابتعدن أيتها العاهرات اللعينات!” قلت.
“اسكت، اسكت، أقول لك اسكت!” زأر أبي متخليًا عن أي تظاهر بالمرح. سحبني من يدي، والضحكات الصارخة للعجائز تثير جنوني فضلًا عن بلطجته غير المبررة ضدي. حاولت تثبيت كعبيّ في الأرض لكنه كان قويًا جدًا بالنسبة لي، ولم أستطع النظر إلى العجائز إلا من فوق كتفي نحو الوراء.
“احذروا وإلا سأعود وأريكم!” صرخت. “سأعلمكن كيف تتركون الناس المحترمين يمرون. من الأفضل أن تبقوا في منازلكن وتغسلن وجوهكن القذرة”.
“لن يحدث ذلك مرة أخرى، ولو عشت ألف عام، لن يحدث ذلك مرة أخرى”.
حتى يومنا هذا لم أعرف هل كان أبي يقصدني أنا بهذا التعهد أم الشُرب، بينما رحت أردد بقوة أغنية “أولاد ويكسفورد””5” احتفالًا بمزاجي البطولي وهو يسحبني إلى داخل المنزل.
أسرع كراولي بالهرب مع شعوره بالتورط بينما قام أبي بتبديل ملابسي وأدخلني إلى السرير. منعني الدوار من النوم، وشعرت بالتعب ثانية. جاء أبي بقطعة قماش مبللة وراح يدلك رأسي بها. كنت محمومًا وأنا أنصت إليه يقطع الأغصان لإشعال النار ثم سمعت صوت تحضير المائدة.
فجأة، انفتح الباب الأمامي بعنف ودخلت أمي تحمل سوني ولم تكن كعادتها لطيفة وخجولة وإنما امرأة غاضبة وثائرة بشدة. كان واضحًا أنها عرفت من الجيران كل شيء.
“ميك ديلاني” صاحت بشكل هستيري. “ماذا فعلت بابني؟”
“اسكتي، اسكتي، اسكتي!” همس وهو يتأرجح من قدم لأخرى. “هل تريدين أن يسمع الشارع كله؟”.
“آه” صاحت بضحكة مروّعة. “الشارع يعرف كل شيء. الشارع يعرف كيف ملأت طفلك البريء المسكين بالشراب لتسلي نفسك أنت وذلك الوحش القذر”.
“لكنني لم أعطه أي مشروب” صرخ مذهولًا من التفسير المرعب الذي اختاره الجيران لمأساته. “لقد تناوله من وراء ظهري. ماذا تظنين عني؟”.
“آه” أجابت بمرارة. “الجميع الآن يعرف من أنت. الله يسامحك. تضيّع النقود القليلة التي نكسبها بشق الأنفس على الشراب، وتربي طفلك ليصبح سكيرًا مثلك”.
ثم دخلت غرفة النوم وركعت على ركبتيها بجانب سريري. كان أنينها واضحًا عندما رأت الجرح فوق عيني. في المطبخ، بدأ سوني يبكي بصوت عال من تلقاء نفسه، وبعد لحظة ظهر أبي عند باب الحجرة وقبعته تغطي عينيه بينما الشفقة على الذات تعتصر ملامحه لأقصى درجة.
“إنها طريقة جيدة لتتحدثي معي بعد كل ما مررت به” قال متذمرًا. “هذا اتهام لطيف بأنني كنت أشرب الخمر. لم تلمس قطرة شراب واحدة شفتي طوال اليوم. كيف كان يمكنني ذلك وهو قد شرب كل شيء؟ أنا من يستحق الرثاء بعدما دُمر يومي، وعُرضت مهانتي أمام الجميع في الشارع”.
في صباح اليوم التالي وبعد أن خرج أبي بهدوء إلى العمل مع سلة غذائه؛ اندفعت أمي نحوي في السرير وقبلتني. بدا أن كل ما حدث كان بسببي، وأنني قد مٌنحت أجازة حتى تتحسن عيني.
“يارجلي الصغير الشجاع!” قالت بعينين لامعتين. “الله هو من أراد أن تكون هناك. كنت الملاك الحارس لأبيك”.
…………………….
1ـ من أشهر الألحان في عالم الموسيقى الكلاسيكية، وهي الحركة الثالثة لـ “سوناتا البيانو الثانية” والمعروفة أيضًا بـ “السوناتا الجنائزية” التي انتهى فريدريك شوبان من كتابتها عام 1839 وعُزفت في مراسم جنازته.
2ـ يُطلق عليها “الذهب الأسود” وهي نوع من البيرة غالبًا ما تكون داكنة اللون، وتتميز برغوتها السميكة ونكهتها القوية المالحة، وتُصنع عادة من حبوب الشعير المحمصة. يرجع أصلها إلى بريطانيا في القرن الثامن عشر حيث كانت مشروبًا مفضلًا لعمال المرافئ، لذا سُميت “بيرة البورتر” أي “بيرة الحمّال”.
3ـ أوراتوريو “مقطوعة موسيقية تحتوي نصًا دراميًا دينيًا” من ثلاثة فصول كتبها جورج فريدريك هاندل عام 1738، والنص لتشارلز جينينز مأخوذ من سفر صموئيل الأول. عُزفت “المسيرة الميتة” في الفصل الثالث، وأصبحت عنصرًا أساسيًا للجنازات الرسمية.
4ـ أغنية Remember The Glories Of Brien The Brave للكاتب والشاعر الغنائي الإيرلندي توماس مور.
5ـ المعروفة أيضًا باسم “رحلة الإيرلز” وهي قصيدة تُخلّد ذكرى الثورة الأيرلندية عام 1798، وتحديدًا ثورة ويكسفورد. كان هدف الثورة التخلص من السيطرة الإنجليزية على الشؤون الأيرلندية، وأسفرت عن قانون الاتحاد عام 1801.
الحبكة المحتالة (4): التبرير القسري لنقيض إدجار آلن بو
لم يجب الراوي في قصة إدجار آلن بو عن أسئلة كهذه لأنها تقوّض ذلك النظام الصارم من الفروق الملفقة بين قوة التحليل والبراعة الذهنية، والذي خُلقت على أساسه شخصية صديقه سي أوجست دوبان .. النظام الذي يمكن إنتاج نسخ مماثلة له دون حد، استنادًا أيضًا إلى اختلاقات صلبة من الفروق الناجمة عن إرادات شخصية مختلفة فحسب، مثلما ستتغافل تلك التحديدات كذلك عن الانقطاع البديهي الذي يفكك تماسكها المفترض من دون أن يخضع لمنطق أو توقع: الشرود المباغت خارج سياق التفكير نتيجة دافع مبهم أو مؤثر لحظي .. الومضة الذهنية التي تنتهك بشكل غامض ومفاجئ التسلسل المتناغم من التأملات الاستدلالية .. الذكرى المتنافرة التي تقطع الطريق على نحو ملغّز وغير منتظر أمام تدفق الملاحظات والاستنتاجات المترابطة.
لهذا لم يكن مفيدًا للراوي في قصة بو اختراع نماذج إثباتية لتلك الفروق، أو التأكيد المتكرر على انبهاره المذهول بعقلية صديقه دوبان .. وبتقمّص روح ذلك الصديق الذي تخيّل هذا الترتيب لتفكير الراوي خلال تجوالهما: “شانتيلي ثم كوكبة أوريون ثم الدكتور نيكولس ثم الفيلسوف إبيقور ثم علم قطع الحجارة ثم حجارة الشارع ثم بائع الفاكهة”؛ يمكن تصوّر ـ كمجرد مثال موازٍ ـ أن كلمة علم قطع الحجارة التي تفوّه بها الراوي أعقبها استدعاء لمشهد من الماضي كان يسير خلاله مع أبيه في شارع مرصوف بشكل مشابه، وأن ثمة أشجارًا في ذلك الشارع كانت تُشكل فروعها العالية مع غيوم السماء لوحة أخّاذة، وهو ما دفع الراوي للنظر إلى أعلى محاولًا استرجاع ذلك المنظر القديم، ومن ثمّ لم يكن غريبًا في تلك اللحظة أن يتذكر التنبيه المتكرر لأبيه الذي يمشي إلى جواره بضرورة أن يفرد قامته، وهو ما جعله يعدّل انحناءته ويسير منتصبًا .. ذكريات يفترض أن دوبان لا يعرفها، وقد تكون هي مصدر كل الأداءات الصامتة للراوي، ولهذا لا يكفي أن تكون ثمة معرفة مشتركة، أو معلومات تضمنها حديث سابق بين الصديقين حتى تكون استنتاجاته صحيحة.
لكن بو أراد أن يكون دوبان محقًا .. أن تكون كل ملاحظاته سليمة واستنتاجاته صائبة، بالرغم من أنه يمكن استبدالها كليًا بملاحظات واستنتاجات مغايرة لن تكون أقل صحة منها .. أراد أن يصوغ بشكل متعجّل وهزيل معلومة القبض على إنسان الغاب في نهاية القصة كأنما يواري جثتي الأم وابنتها بحفنة تراب أو بورقة جريدة أثناء عاصفة.
لماذا أراد بو ذلك؟ .. لأن دوبان هو النسخة المضادة لـ “بو” .. لأن بو كما نعرفه في “القلب الواشي” أو “القط الأسود” مثلًا كان يحلم بقرينه المناقض .. يختبر العقلانية مقابل جنونه الدموي .. المنطق مقابل كوابيسه التدميرية .. كان بو يجرّب وحدته الغامضة في عناية نظير عكسي؛ يمتلك الوضوح المثالي والرصانة المنهجية .. ما الذي يثبت ذلك؟: بحث الصديقين عن كتاب واحد نادر جدًا واستثنائي جدًا في لقائهما الأول (يتعمّد الراوي عدم ذكر اسمه، ولكنه يثبت التحالف بينهما من خلال الاتفاق على أمر “نادر جدًا واستثنائي جدًا”؛ أي أن هذا الكتاب يعادل الذات الفريدة التي تكوّنت باندماجهما) .. الكآبة الغريبة التي تميّز مزاجهما المشترك .. معيشتهما معًا في قصر بمنطقة مهجورة ومنعزلة .. عدم البحث في الخرافات التي أبقت القصر خاليًا كتوطيد للعقلانية .. انقطاعهما عن الزملاء والمعارف السابقين، والمتوّج بهذا التعبير الجوهري الذي يثبت أنهما ذات واحدة “كنا نوجد فقط داخل أنفسنا”؛ لم يقل “كان كل منا يوجد فقط داخل نفسه” .. إضفاء الراوي صفات مقصودة على دوبان مستمدة من عالم بو كالغرابة والجموح، دون أن تتجسّد بحدة دامغة في سلوكياته مقابل صلابة النزعة المنطقية لتفكيره .. استسلام الراوي لما أسماها “نزوات” دوبان، والتي يسهل بالطبع إدراك اتزانها المسالم عند مقارنتها بالنزوات الشيطانية في أعمال بو.
يمكننا أن نتأمل حرص بو على تبرير نسخته المضادة المتعيّنة في شخصية دوبان ولو بشكل متحايل باعتبارها تمثل ـ خاصة في ضوء مظاهر الارتباط الذهني والجسدي بين الراوي وصديقه في القصة ـ تمثّل نوعًا من التناغم مع ما يشبه “مثلية كونية” تلهم بها نظريات إبيقور التي تحدث دوبان حول إثبات علم نشأة الكون الحديث لصحتها: الذرات كأصل الوجود التي يؤلف التقاؤها المركبات حيث أنها متحركة بذاتها وعلة حركتها موجودة فيها “كنا فقط نوجد داخل أنفسنا” .. الإحساس كصورة مطابقة للواقع تنشأ من اتصال بين جسمين “المزاج المشترك ـ العيش المنعزل في منطقة مهجورة ـ الانقطاع عن الآخرين” .. تولّد الفكر (اللذات العقلية) من الإحساسات (اللذات الجسمية) التي تعود جميعها إلى (اللمس) ومن خلالها يتم التوافق مع الطبيعة: “بعد ذلك نتجوّل في الطرقات وقد تأبطت ذراعه مستمرين في مناقشة موضوعات النهار، أو نجول في كل مكان حتى ساعة متأخرة باحثين ـ وسط الأضواء المبهرة والظلال للمدينة المزدحمة ـ عن المتعة العقلية اللانهائية التي يمكننا الحصول عليها بالملاحظة الصامتة لما يدور حولنا”.
إن الطيف أو الخاطر أو الهاجس الذي تحفّزه أي من الألعاب والحيل والمكائد النفسية اللانهائية المجهولة، وغير المضمونة يمكنه أن يخرّب بصورة عفوية أكثر مسارات الاستدلال تيقنًا، وهو ما يجعل ذلك المُسمّى في قصة “جريمتا شارع مورج” بـ “قوة التحليل” و”البراعة الذهنية” متساويين ليسا في كونهما قادرين على التشابه فقط، وإنما في كونهما بالدرجة الأولى خاضعين طوال الوقت لجميع المؤثرات التي تدمج بينهما وتجعلهما يبدوان على غير ما اعتقدنا عن صورتيهما المنفصلتين حيث تتبدل دائمًا تلك التغيرات ليكوّنا وفرة من احتمالات تراوغ حدودها، ودون هوية مؤكدة.
من كتاب “الحبكة المحتالة” ـ قيد الكتابة
شوك وحيد: تفكيك المصير
“مربع معلق في الهواء بخيوط، كل خيط يمثل عمر أحد ساكنيه، في شماله بوابات تغير واقع من يسكنه، في الجزء الغربي منه يعيش أهل المقت، والشرقي لا يملك سوى أرض واسعة، وادٍ ضيق، وشلال، في منتصف المربع متاهة، وحوائط متوازية، في جنوبه أعمدة قماشية، جسم معلق غريب، وقنوات حمراء، الجنوب الشرقي منه يعيش في أهل النور. للمربع مدخل مظلم مجهول، ساكنو المربع، يملكون أجسامًا لولبية في صدورهم، يتصلبون أحيانًا، طعامهم الهواء الأصفر. ينغلق المربع كثيرًا، النور يأتي عليه فتتغير الأشياء فيه، المربع ينتج البشر والأقدار التي نراها حولنا”.
كنوتة “جاز” سردية كتبت ابتهال الشايب روايتها “شوك وحيد”. يتظاهر النص شكليًا ـ كما في “الجاز” ـ بنوع من الانضباط الأدائي، حركات ثابتة بتنويعات منسجمة، أحلام تتكوّن وتتطاير ومشاهد تُنسج وتتداخل، أماكن وأشواق وهواجس، أحاجي وتبدلات وتصنيفات، تنفتح على انسلالات وعرة، جامحة، تتحوّل بدورها إلى ما يشبه الهيكل الكابوسي للرواية أو متاهتها المتشذرة، كأنما تكشف هذه الانسلالات عن نفسها كبنية خفية أو كصوت رئيسي ـ ممزق ومتوعد ـ للسرد. ما يبدو اتساقًا إذن هو عناية ماكرة بالطيش، لتصبح النغمات والإيقاعات المتفاوتة “أصداءً” غامضة لما يقع خارج فكرة الانتظام، أي خارج المعنى ذاته.
“القدر العظيم
أنا مجرد فكرة في مربع معلق في الهواء بعيدًا في أرجاء الحياة، وُلدت من نفس أحد الوحيدين الموجودين بكثرة داخل المربع. بالرغم من أن لا أحد يسمعني، لكنني ورثت من ذلك الوحيد أسلوبه في الحديث، وجميع الكلمات. ستعرفون الوحيد الآن.
الوحيد
ليس بوسع كل منّا التصلب، إلى ثبات طويل وقوي يحتاج، لا يملكه أغلب ساكني المربع الذي أعيش فيه. ذلك أفضل، لأنه يسهل نزع الأجسام اللولبية المعلقة في صدورهم، فيلتصقون بمصادر الضوء الساكنة أعلى المربع، يختفون، مخلفين في الهواء قطع غبار لطيفة أستنشقها فأهدأ”.
هذه الأصداء، تحضر شعوريًا بالأساس، وبتكثيف مغوٍ، أي أنها لا تنبعث كناتج لأصل معرفي، أو كأثر لوجود ملموس ومن ثمّ إلى غاية قابلة للفهم “تجسيد عقلاني للنجاة”، ولكنها تحضر كناتج لما لا يوجد، كأثر لغياب، إيماءات إلى العدم بوصفه مصيرًا استباقيًا لما يُسمى “الإدراك”. الأصداء ليست سوى نفسها: أداءات مضادة فحسب، وخزات موسيقية متأرجحة، لطشات ألوان كامدة في لوحة تجريدية، تلويحات لغوية لإزاحة اللغة؛ ليس فقط “أي حكاية يمكنها أن تكون شيئًا آخر”، ولكن “لا حكاية يمكنها أن تكون أصلًا”.
“الوحيد
بين حلقات المتاهة نتخذ أول طريق مستقيم يظهر لنا، لا أعرف هل رأى الشبيه المتاهة مثلي؟ يجري أمامي، جسمه ضئيل قليلًا عني، أحاول اللحاق به، خيط آخر تُخرجه عيني، تربطني بذراعه كي لا أضيع بسبب ضعف نظري، صياح مرفقي من الألم أتجاهله وأقاوم، أخيرًا إلى غرب المربع نصل”.
من هنا يبدو “النزاع” ضبابيًا أو في احتمال دائم للتشوّش، بالنظر إلى أن “المفاهيم” التي تحدد موضوع النزاع معطوبة في جوهرها، أي أنها ـ فضلًا عن قابليتها المستمرة للتغير والاستبدال ـ صيرورة محو ذاتي، وذلك تحديدًا ما تمثله الانسلالات الوعرة والجامحة في “الجاز”: تفتيت الغرض، أو بالأحرى تفكيك المصير.
“الوحيد
شارد أنا، في أي مكان أريد التصلب ولا أستطيع، كُره أبي يقلص قدرتي على تحمل التصلب، القليل من الغبار أريد، أكره المربع وساكني الجزء الغربي وأهل النور، في غرفتي تترك عيناي جسمي، ليسقط على الأرض رأسي، ظهري يحتاج إلى رأسي كمسند، كيف سيراني أهل النور؟! كيف سألصق بمصادر الضوء ساكني المربع؟! ماذا سأفعل بعيني؟! أتثبت رأسي بجسمي أم تحمي جسمي اللولبي، أم تنزع الجسم اللولبي الخاص بالآخرين، أم بها أبتلع الهواء الأصفر أم ماذا؟! سيظل رأسي مخلخلًا إذا أمسكت عين واحدة بجسمي، وشيئًا آخر فعلته العين الأخرى”.
لهذا يمكن ملامسة هذا الأنين الجنائزي في الرواية، لا باعتباره وعيًا ناجمًا عن التنافر بين الرؤى ، وإنما كخيال بلا “واقع”. الوجود لم يحدث، اصطنع قرينًا سرابيًا فحسب. الخيال عدم حضور، حدس بما يخاطبه الشعور، ولا يمكن للتأمل استبصاره. الوجود خارج ما يُفترض من “مقولات” لتكريس “حقيقة” الكائن الذي بعجزه عن استرداد “كونيته” تحتم أن يصنع نموذجه الأمثل، صورته اللازمنية، ظله المتعالي الذي لا يُخدش. ذلك النموذج المستأثر بـ “الوجود”، يضمن إنقاذ الكائن من “اللاوجود” ليعبر بتلك العدمية المؤقتة نحو التعويض الأبدي.
“الوحيد
صوت أبي إلى أذني يتسرب، يناديني، الشجار يبدأ، يجلدني بعنف عن طريق الإهانات، والذل بالهواء الأصفر الذي أخذه منه.
“جريت كأن الخوف منهم هو ما سينزع جسمي اللولبي، رأسي الغائر لم يستطع التمييز بين جنودنا وجنود أهل النور” أجيب، وإهاناته القاسية تبكيني كأنها تزيل قشور جسمي.
ينظر إليّ بازدراء:
“أقارب من ألصقتهم بمصادر الضوء من جنودنا سيذيعون الثورة، سيطلبون من البوابات الشمالية تغيير واقعي وواقعك، أو سيجذبون الخيط الخاص بي أو بك لنموت، البديل سيدخل الصبر والرضا بيننا وبينهم، سيعطيهم الكثير من الهواء الأصفر هذه المرة، لكن المرة القادمة نهايتك ستكون”.
على هذا النحو تصير الذاكرة ارتجالًا، لأنها لن تكون “الماضي” كما يُشار إليه بدقة وإنما نوع من الخيال أو هي مصدر الخيال نفسه؛ فالصوت ما هو إلا ومضات تتبعثر بين الأبوة وفرضياتها المعتمة. شكلية الموت “كإيهام بالحياة يتقدم على حدوثها المحتال” تقود هذه البعثرة حيث تختفي الأبوة تحت وطأة الانتهاك المضمر، المختبئ في “الخضوع البشري”. الهوية هنا ليست أكثر من محاكاة هزلية لمواراة التقويض الذي يمارسه “الابن” تجاه مفهوم “الأبوة” لا بوصف “الأب” جسدًا مؤجلًا يحتاج إلى المراعاة، ولكن لأنه “رجاء مدخر” يحيط بشبق البنوة لطمس “السراب الدنيوي”، للقبض على النشوة الغيبية التي لا تنفد.
“تمزق في أغشية الوحيد ناحية الظهر، لا يراه أو به يشعر، كيف التمزق في حياته وهو يجب أن يكون قدر عظيم؟!، الوحيد ضدي، يناهض محاولات وجودي، وددت إخباره بذلك، مرارًا أقف في الأماكن الفارغة بين كل مزق وآخر، كي يشعر لكنني خفيف للغاية، أسحب أطراف التمزق لكن التمزق متصلب بقراره في الوجود، لم تكن مثل هذه الأشياء محور الوحيد كذلك، ما زال الشبيه عن تلك الأنثى يتحدث مع الوحيد، وعن الغبار الغائب، أتركهما. عدد كبير من ساكني الجزء الغربي آثروا الذهاب معًا كي يحموا بعضهم، خلفهم أسير، لا أعرف لمّ شعور بالخطر يعاينني! بالرغم من عدم ذهاب الوحيد معهم، فإنني مثلهم خائف، كأنني سأغير واقعي”.
لذلك فـ “الشبحية” في الرواية ليست عنف الأطياف المهدرة تجاه الماضي، وإنما خلخلة لجوهر “من كان حاضرًا” قبل أن يصير “شبحًا”، ومن ثمّ للماضي ذاته وليس لما يعبّر عنه وحسب. الشبحية هنا معارضة لبداهة الحضور التي تشيّد مسرح العيش، حيث يتعطّل القرار البلاغي لتكشف التجربة عن زيفها، وكأن الشبحية إقرار بأن “الحياة في مكان آخر” حيث لا تناقض، ولا حاجة للتعزية، ولا خاطر للاستحالة. الشبحية هي الكائن قبل أن يكون حيًا أو ميتًا، أي عندما كان ـ بكيفية مبهمة ـ غير قابل للتهديد بالغياب. هي الكائن حين كان نصًا، وقد جرت استعادته ليتنبئ بأثر رجعي ذلك الثأر الذي سيخطه.
أخبار الأدب
2 مارس 2025
الحبكة المحتالة (3): الحجة العاطفية لأجاثا كريستي
وفقًا لما جاء في القصة فقد وصل عدد حوادث الاختطاف إلى ستة عشر حادثًا خلال عام واحد أي منذ أن حصلت مس كارنابي على الكلب أوغست من مخدومتها المتوفاة مدام هارتنجفيلد قبل أن تدعي موته، وتدرّبه في الخفاء على العودة وحده إلى البيت.
التطابق المتكرر الذي لا يثير الريبة
ستة عشر حادث اختطاف كلاب خلال عام واحد جميعها تتم بنفس الطريقة (الخروج للتنزه) مع نفس الشخصيات (الوصيفات) في نفس المكان (المنتزه) بنفس رد الفعل (تسأل الوصيفة حارس المنتزه بهلع إذا كان قد رأى الكلب مدعية أن مجهولا قد سرقه منها) مع نفس القصة التبريرية الملفقة (انشغال الوصيفة بطفل ظريف مع إحدى المربيات)، ومع ذلك لم يشك أحد في أي وصيفة .. لم يتم منع أي وصيفة من الذهاب إلى المنتزه مع تكرار هذه الحوادث التي يعرفها الجميع، والتي وصفها السير جوزيف وهو الرجل الذي طلب مساعدة بوارو بالمهازل التي يجب وضع حد لها .. لم يتم التنبيه على أي وصيفة ـ على الأقل ـ كي تأخذ حذرها.
ما الذي تريده الحجة العاطفية حقًا؟
استخدمت أجاثا كريستي في هذه القصة حجتين عاطفيتين: الأولى جاءت على لسان مس كارنابي حينما قالت لبوارو بأن العوانس مغرمات بالأطفال، وأنه ليس بدعًا أن تنسى الوصيفة كل شيء إذا صادفها طفل ظريف، ولن تُتهم أبدًا بالتواطؤ والإهمال .. هذه الحجة كان يمكن أن تكون مقبولة لو استُعملت مرة واحدة، أو اثنتين أو حتى ثلاث لو افترضنا أننا نتجوّل في مدينة للحمقى، لكن أن تُستخدم هذه الحجة ست عشرة مرة؟! .. لنتخيل: ست عشرة وصيفة يُسرق منهن ستة عشر كلبًا، كأنه وباء مختص بالوصيفات أو تنويم مغناطيسي جماعي لا يقصد سواهن، ولا يمتلكن سوى قصة تبريرية واحدة لا تتغير للخروج من دائرة الاتهام، ومع ذلك لا تتوجه إليهن أصابع الشك لمجرد أنهن عوانس ومغرمات بالأطفال .. ألا يمكن ـ ولو كنوع من التسامح للمخيلة البوليسية ـ أن يتساءل أحد ما في هذه القصة لماذا لا توجد بينهن وصيفة واحدة على الأقل عانس ومغرمة بالأطفال ومتيقظة في نفس الوقت لحماية كلب مخدومتها خصوصًا مع الإدراك التام بأنها في مكان أصبح موطنًا لخطف الكلاب؟
ولو افترضنا جدلا أن هذه الحجة قد استُعملت على نحو منفصل، أي أن كل عائلة خُطف كلبها لم تعرف أن الإيضاح الذي قدمته وصيفتها كان هو نفسه الذي قدمته جميع الوصيفات الأخريات اللاتي خُطفت منهن كلاب العائلات الأخرى؛ ألم يحدث ولو مرة واحدة خلال الستة عشر حادثًا، وأثناء تداول حكايات الخطف المتعاقبة أن تم الكشف عن هذا التطابق في أقوال الوصيفات بأي طريقة؟ .. ماذا عن حارس المنتزه؟ .. الرجل الذي جاءته ست عشرة وصيفة خلال عام واحد كي تسأله كل واحدة منهن باضطراب إذا ما كان قد رأى كلبها الذي فقدته؛ كيف لم يثر هذا ارتيابه؟ .. ألم يصادف ولو مرة واحدة هذا التكرار في وصف اللحظات السابقة للخطف التي تسردها الوصيفات؟ .. لماذا لم يذكر حارس المنتزه في حواره مع بوارو شيئًا عن بقية الحوادث، واكتفى بتلك التي تخص مس كارنابي فقط؟ .. لماذا لم يسأله بوارو نفسه عن هذه الحوادث؟
تتعلق الحجة العاطفية الثانية التي استخدمتها أجاثا كريستي في هذه القصة بالحالة البائسة لمس كارنابي العانس التي تخشى من مستقبل مظلم مع شقيقتها الكبرى العجوز المريضة، وإذا كانت هذه الحجة قد أسفرت عن ما قام به بوارو من تسوية أخلاقية مع هذه الوصيفة تقتضي بإعادة نقود الفدية الخاصة بالليدي هوجين زوجة السير جوزيف، والتعهد بالتوقف عن الخطف في مقابل ضمان عدم إدانتها قانونيًا فإن هذه الحجة تجاهلت تمامًا استفهامين جوهريين في هذه القضية: ماذا عن نقود الفدية التي دفعتها بقية النساء لاسترداد كلابهن؟ .. ماذا عن بقية الوصيفات اللاتي شاركن مس كارنابي في اختطاف الكلاب وفي الحصول على مبالغ الفدية من مخدوماتهن؟
هاتان الحجتان العاطفيتان اللتان استخدمتهما أجاثا كريستي لم يكن الغرض منهما إعطاء دوافع منطقية لأحداث القصة، وإنما مثلتا معًا ما يشبه محاولة لتغطية ثغرات الحبكة البوليسية التي تتضمن هذه الأحداث؛ فالحجة العاطفية في قصة (الكلب المخطوف) بشكل عام لم تكن أكثر من برهان متعسف ومزيف من الشفقة، تبدو معه أجاثا كريستي كأنها لا تطالبنا بأن نغفر لمس كارنابي بسبب فقرها وعنوستها أو للوصيفات الأخريات بسبب أوضاعهن السيئة بل أن نغفر لأجاثا كريستي نفسها غياب المعقولية في قصتها.
حماية حارس المنتزه
هل كشفت الاستفهامات السابقة عن الثغرات الأهم في القضية؟ .. ربما ينبغي علينا التفكير في أن هذه الاستفهامات أيضًا قد كشفت عن ما يتجاوز هذه الثغرات أي التعتيم الكامل على شريك أساسي في حوادث الاختطاف وهو حارس المنتزه.. الشخص الذي ظل طوال القصة مجرد شاهد، وتغافل عنه بوارو تمامًا ذلك لأن أجاثا كريستي قامت بالتضحية بالمعطيات التي ستقود لإدانته في مقابل تركيزها على الأسباب (الإنسانية) التي جعلت مس كارنابي والوصيفات يقمن باختطاف الكلاب، والتي بالضرورة عليها أن تعفيهن من الإدانة.
لو تأملنا جيدًا شخصية حارس المنتزه سنجد أنه الرجل المسؤول بحكم وظيفته عن المراقبة والحماية، الذي لم يتخذ أي تدابير إضافية مع تكرار حوادث الخطف في المكان المكلف بحراسته، وهو الوحيد الذي يستطيع أن يثبت صدق القصة التبريرية الملفقة الواحدة التي لا تتغير، والتي تكررها كل الوصيفات لمخدوماتهن دون حاجة لوجود مربية معها طفل ظريف بالفعل داخل المنتزه، وسيكون الغرض من وجود أوغست هو أن يراه الآخرون بصحبة الوصيفة وليس لإثبات هذا الوجود للكلب أمام الحارس.. هو الذي لم يشك في الوصيفات مع تعاقب ستة عشر حادث اختطاف لكلاب خلال عام واحد، ولم يقم بأي تصرف يشير إلى الحذر والانتباه تجاه القصص المتطابقة للوصيفات.. حارس المنتزه هو العنصر الموضوعي في القضية، الذي لا ينتمي إلى العائلات التي تُخطف كلابها، أو للوصيفات اللاتي تدعين عدم التورط، أي أنه المركز المحايد بين صاحبة الكلب والخاطفة، ولولا تواطؤه ما كان للقصة التبريرية الملفقة أي معنى، وما كان في وسعها ـ منطقيًا ـ أن تحقق هدفها .. بالعودة إلى تساؤلين سابقين سنتأكد من أجاثا كريستي قد تعمدت حماية حارس المنتزه من الإدانة:
لماذا لم يذكر حارس المنتزه في حواره مع بوارو شيئًا عن بقية الحوداث، واكتفى بتلك التي تخص مس كارنابي فقط؟ .. لماذا لم يسأله بوارو نفسه عن هذه الحوادث؟
لماذا قصدت أجاثا كريستي إبعاد حارس المنتزه عن القضية؟ .. ربما لأن إدانته كشاهد زور مشارك في الخطف ـ مع تغيّر الحبكة الذي يمنح القصة معقوليتها ـ كانت ستفسد العفو عن مس كارنابي؛ فحينما يتم توجيه الاتهام إلى هذه الوصيفة وحدها سيكون من السهل على بوارو أن يعقد معها ذلك الاتفاق الذي يبقيها خارج السجن، وحتى مع مشاركة وصيفات أخريات في اختطاف الكلاب سيكون من الوارد التوصل إلى تسوية مشابهة سواء كان ذلك صعبًا أو يسيرًا .. أما إدانة حارس المنتزه عن طريق اعتراف مس كارنابي والوصيفات الأخريات بدوره في تأمين الحكاية الملفقة للوصيفات التي لا يمكن لأحد تصديق تكرارها بهذا الشكل، والإقرار بحدوثها ـ لاسيما لو كان حارسًا ـ إن لم يكن كاذبًا ومتواطئًا نظير جزء من نقود الفدية مثلا، إضافة إلى التهمة التقليدية المتعلقة بالتقصير والإهمال في عمله؛ هذه الإدانة التي تغافلت عنها الكاتبة بإصرار ربما كانت ستدفع بجميع المتورطين للخضوع إلى سلطة القانون حيث سيتعذر ـ أو على الأقل لن يكون هناك ضمان كاف ـ لاستثناء أحد من العقاب نتيجة أوضاعه البائسة، وستعجز أجاثا كريستي بالتالي عن إنقاذ مس كارنابي.
من كتاب “الحبكة المحتالة” ـ قيد الكتابة