الأربعاء، 13 نوفمبر 2024

افتتاحية العدد الرابع من مجلة "الناقد"

أثناء تلك القراءات المبكرة في النقد الأدبي كانت صفة "الناقد" ترتبط كليًا بالأدب والفن، وبصورة أقل مكانة من ألقاب أخرى مثل "المفكر" أو "الفيلسوف" وبالطبع من "الأديب"، ولاشك أن المهابة السائدة لهذه الصفات في بداياتي القرائية أبقت بالتجاوب العفوي مع النمط العام المتسلط لقب الناقد في المنزلة الأدنى بالنسبة لي .. لكن مع المزيد من القراءات، وموصلة الجدل مع أطروحات "المفكرين والفلاسفة"، والذي أدى بدوره إلى مساءلة ذلك التفاوت الطبقي بين التصنيفات المعرفية أدركت أن النقد في طبيعته التي انسجمت معها ككاتب هو الشبح المتربص بتلك الخرافة الأمومية الغائمة التي تسمى "الثقافة" .. اللغم الخيالي الذي يحرم دعائم الفكر من الثبات .. ولهذا ـ بالضرورة وضمن ذلك الإدراك ـ فإن "النقد" هو مقاومة ذاتية في المقام الأول للشروط النسقية الملحّة التي تحاول إخضاعه للبنوة .. التي تريده أن يكون حاشية "للثقافة"، أي مجرد إجراء وظيفي لإقرار "المفهوم".
كان ذلك التكريس المتواصل لما يعنيه "النقد" بالنسبة لي يبعده تمامًا عن ذلك التعريف الساذج بكونه انطباعًا في جميع أحواله ومظاهره سواء كان مجرد "رأي" أو "تحليل" أو "تقويم"؛ فالنقد ـ كبصيرة شخصية ـ تجاوز بديهي لما يمكن أن يُعد أصداءً مباشرة أو منتظرة لعمل ما .. هو كشف مراوغ لما يقوّض هذه الأصداء، وتحويلها إلى أدوات للعب، دون الاستسلام للفخاخ "التاريخية" المبتذلة مثل حكم الجودة، والقياس التصنيفي، وطبعًا الضبط الأيديولوجي.
هذه الملامح هي ما كوّنت لدي الطبيعة النصية للنقد، والتي تناولتها في المقال الأول، التي تتخطى المعايير التقليدية أو المفترضة للمصطلح .. ذلك لأن النقد هكذا يعمل بصورة جوهرية على خلخلة الأسس والسياقات التي يقوم عليها عمل المفكر أو الفيلسوف، بالطريقة ذاتها التي يمنح بها النصوص الأدبية حيوات مغايرة وغير متوقعة "انتهاك الدلالة" .. بذلك فقط يمكن لنقاش ما عن "الأدب الحديث" أو "السرد المعاصر" أن يكون في نفس الوقت مقاربة للتأملات النقدية التي يتم الاعتماد عليها في استيعاب ما يبدو تعقيدًا أدبيًا أو ما يُسمى بالمتغيرات السردية، وهو الدور الأعمق من كونه مجرد وظيفة كما يستسهل العالقون في الفهم السطحي للممارسة النقدية إزاء "التحولات الثقافية" .. أتحدث عن التأويل الذي يستعمل الفكر من أجل تفكيك إطاره المرجعي أو تحطيم يقينه؛ فلكل طرح أدبي أو فلسفي ثمة معول نقدي، يرادف نصيّة النقد أو "إبداعيته" بالتعبير الشائع، ينبثق من داخل الطرح نفسه ليهدم إحالاته اللغوية، ومن ثمّ يجرّد الخطاب من قدرته على التظاهر بإقرار المعنى أو الحقيقة.
ما سبق يختلف أو يتضاد مع "استخدام النقد كأداة للفكر"؛ لأن النقد ـ على هذا النحو ـ يتقدم على الفكر في كونه مخرّبًا استباقيًا لذلك الاستقرار الذي تعد به ما يطلق عليه مثلًا "إعادة صياغة الأفكار" .. في خفاء كل تأويل جديد ثمة نزعة مترصدة لـ "خيانة الأثر" الذي يبدو أن هذا التأويل يستند إليه، وذلك تحديدًا ما يجعل التأويل مناوئًا للسياقات الفلسفية والوجودية .. إن الفكر هو أداة للخيال النقدي وليس العكس، لأن هذا الخيال يستخدم الفكر في نزع الغائية عن ما يتعدّى حدود وأبعاد ذلك الفكر، وهو ما يلخصه جاك دريدا في هذه الكلمات: (لا! ليست للرسالة وجهة معينة أو محطة أخيرة، وما ذلك بالعامل السلبي. إنه الشرط التراجيدي الأكيد ولكنه الوحيد لكي يحدث ويُجدّ جديد).
إن هذا يفسر بلا شك لماذا يتنافر النقد في أشكاله الحديثة مع "المنهجية" أو "المنظور" ليصبح لهوًا بالسلطة القيمية للنص، دعابة هازئة تفتت مركزيته الأنطولوجية .. يفسر لماذا يتعرّف النقد على نفسه بكونه ليس هدفًا وإنما لعبًا بالأهداف.

تحميل العدد

ليلة رائعة لقطار: تنويعات السقوط

ثمة رؤية نقدية تقارب مفهوم "العتبة" في القصة القصيرة بتمثله الواقعي أو المجازي أو الخيالي وفقًا للتفسير التقليدي من حيث كونها علامة للمرور، التخطي، الانتقال بين المدركات. لكن تفكيك مفهوم "العتبة" يتطلب استبصارًا مضادًا لتلك الرؤية، أي ما يكشف عن كونها لعبة تأملية في أشكال "الاستعمال" المراوغة التي تفترض حضورًا لمدركات حقيقية يتم العبور بينها، ويمكن نتيجة الإقرار بها الفصل بين الواقعي والمجازي والخيالي. هذا التقويض لمفهوم "العتبة" يحوّل القصة القصيرة إلى قرينة فاضحة لأوجه "السراب" التي يتوهم لكل منها وجود فعلي، أي قابليته لأن يكون شيئًا متعديًا لذاته، مخلّصًا لكل ما هو عالق بغموضه، مثلما يتوهم التحرك أو المراوحة بينه وبين خداع آخر. ثمة خلخلة تجرد "العتبة" من الثبات، فلا تصبح موضع اجتياز أو انتظار، وإنما احتجازًا غائمًا ومدوّخًا، بأصالة تطغى على حدوده المتصوّرة، كأنه الوعي بالسقوظ الأزلي في الدوامات المعتمة، عبر لحظة جرى استبدال مسارها من اليقظة الزائفة إلى العمى المتجذر. لحظة "قصصية" أيقنت تحجرها خارج "مكانها"، وقد حررها التحديق إلى غيابها من خضوعها الزمني كـ "ظاهرة" مؤقتة.

"أراه وحشاً يسد علي الشارع بكتفيه العريضتين. كان غريبًا أن يحمل الوحش ملامح جارنا مختلطة بملامح أبي، يتضخم جسده، حتى يغلق أي ثقب محتمل للهرب، تتسع عيناه وهو يوجه أشعتهما نحوي، يتحرك بتؤدة وثقل مسموع في اتجاهي، وأنا لا أعثر على مكان للهرب، ولا أستطيع العودة للخلف، نحو منزلي. أتضاءل ويتضخم، يتضخم وأتضاءل، ثم يضربني النوم فجأة".

في قصة "المتلصص" على سبيل المثال من مجموعة "ليلة رائعة لقطار" لأحمد ثروت، والصادرة عن دار الثقافة الجديدة، نجد العتبة / الخوف بين حياة الولد صاحب الأربعة عشر عامًا، والحياة الأخرى التي تمثل نجاته من الأربعيني المتلصص على جسده. تتخذ العتبة هنا شكلًا واقعيًا (سطح المنزل) الذي سيمر عبره من ماضيه كهدف شهواني إلى مستقبل متطهر من جاره المتربص أو "الثعبان الجائع" الذي يطارده. تتخذ العتبة أيضًا شكلًا مجازيًا؛ حيث تخطي عالم الولد المحكوم بالعجز الشخصي، والخاضع للقهر الأبوي بصوره المتعددة نحو عالم منفلت من سطوة القمع، تشيّده الإرادة الذاتية، ومحصّن من الرهبة والانكسار أمام الآخرين. أما الشكل الخيالي لهذه العتبة فهو التصوّرات الضبابية والمتغيّرة، غير المنضبطة للتحرر من كل ما يوجبه الواقع ويرسّخه الخوف؛ أي بما يتجاوز الامتزاج والتوحد بين الأربعيني المتلصص والأب. الخلاص من سلطة المطلق التي لا يمثل الأربعيني / الأب إلا نموذجًا بشريًا لها.

"أنا لا أقوى على مواجهته، ولا أجد مفراً للهرب منه، فصوّر لي عقلي أفكاراً كثيرة، كلها تؤدي غرضاً واحداً، الموت؛ موته أو موتي. لو مات هذا الرجل سيطمئن قلبي، ولو انتهيت من الوجود ستهدأ روحي. فلا طعم للقمة أذوقها بين أسرتي، ولا إحساس بسكينة أجده بين أصدقائي، لا أشعر بالبهجة ولا أحلم بمستقبل باهر ينتظرني. فقط الخوف. الرهبة هي ما تحاصر عقلي مع كل فكرة أو حركة".

لكن الخوف / العتبة لا يتحدد إلا بناءً على ما يتسم به الطرفان على جانبيه من مخاتلة ـ لكونهما وجهين للسراب ـ وهذا ما يجعل الخوف غير قابل للتحديد. فالولد في قصة "المتلصص" لا يكافح للانتقال جسديًا أو ذهنيًا أو خياليًا من مدرك لآخر، وإنما يحدس ضمنيًا بالإبهام الذي يكوّن ما يعتبره "ماضيًا حقيقيًا"، والذي يشكّل بالضرورة ما يفترضه "مستقبلًا ممكنًا"، وهذا الحدس ليس إلا إفاقة مضمرًة على أن الولد محض أداة وظيفية ملغزة في "قرار الوجود". مجرد حيلة أو حجة تتميز بالصفة الإنسانية، وتُستخدم في طبيعة الادعاء "الكونية" الشاملة، لإحكام التظاهر بأن ثمة مرورًا فعليًا من يقين إلى آخر، تحولًا من حالة إلى أخرى، بينما "لا شيء يتعدّى ذاته" أي يمتلك سلطة غيبية حاسمة، بما يُبقي شذرات العالم عالقة في غموضها. بما يُبقي كل فعل / تغيير محض توطيد مخادع لثبات عدمي من الأوهام التي تستعمل الولد أو بالأحرى تستعمل اعتقاده بكونه يجتاز عتبة الخوف أو ينتظر مرغمًا عندها.

"الصراخ الصادر من المنزل، أيقظ كل الكائنات الحية في الشارع، فاندفع الجميع فضولًا نحو البوابة المفتوحة، يتتبعون الصراخ الصادر من الأعلى، صاعدين الدرجات في هرولة وبريق أعين تبحث عن الكارثة. كان الجسد الصغير  مكوّماً على بسطة الدرج الأخيرة، تنبعث من عينيه نظرة ذهول ممتدة للأعلى بينما تقبض الكف الضئيلة على سكين ضخم ينز سائلًا أحمر لا يخص الفتى".

التلازم في نهاية القصة بين القتل (لو مات هذا الرجل سيطمئن قلبي)، والتخلص من النفس (لو انتهيت أنا من الوجود ستهدأ روحي) ينفي وجود العتبة، أو ما تم تصديق كونها عتبة، لصالح الاحتجاز "الغائم والمدوّخ" أو تفكيك مفهوم العتبة كلعبة تأملية. الرجل (رمزيًا وخياليًا) يستحوذ على روح الولد كمطلق "متلصص"، لن يستدرك قتله أو يمحو "سقوط الولد في الدوامات المعتمة". نظرة الذهول الممتدة لأعلى تقدم نفسها بديلًا عن الخطو الزائف من وجود معيّن إلى ما يتوهم أنه نقيضه مدخرًا احتمالاته المنقذة "طبيعة الادعاء الكونية الشاملة". الذهول هو الوعي باحتجاب المعرفة. لم يعد الولد جاهلًا، لأنه أدرك حينئذ بأنه لم يكن يرى حقًا. لم يفهم الجوهر التنكيلي غير المؤطر للخوف. أدرك أنه لا يمتلك بصرًا على الإطلاق. يصير العمى هو بنية القصة بعد تجريد "زاوية النظر" من "سرابيتها". تضع القصة بهذه الكيفية حدًا للإيمان بالحاجز الكاذب بين التماثلات المتنكرة في الاختلاف.

"عرضت عليه أن نذهب للدرس ونعود سوياً، لكنه كان خائفاً جداً من فكرة تحركه، فأصررت على إقناعه أننا سنذهب للدرس ثم نعود سريعاً، دون أن نحضر الحصة ـ فقط سنذهب ونعود ـ أخذت أقنعه أن يجرب شيئاً جديداً سريعاً، غير وقفته المملة هذه. تحرك "عمرو" بخطوات مترددة، لكنني جذبت يده، وأنا أحثه على الإسراع، حتى نعود قبل رجوع أخيه من العمل. لم أفكر فيما سيحدث بعد ذلك، فكل ما اهتممت به، أن يرافقني أحد في هذه الرحلة المزعجة".

تتكرر العتبة / الخوف في قصة "عمرو"؛ فصديق الراوي يبدو أنه يتخطى ـ مضطرًا ـ مكان وقوفه الدائم أمام بوابة بيته بتحريض من الراوي، وكأن الراوي لا يحتاج لرفيق حقًا في رحلته الشاقة إلى الدرس بقدر ما يريد أن يمارس فعلًا تحرريًا ولو من خلال طفل آخر طالما أنه لا يقوى على أن يمارس ذلك الفعل لنفسه. لكن هذا العبور للعتبة المكانية والنفسية سيتحوّل إلى مجرد إمعان في دفن وهم التحرر داخل المقبرة الزمنية؛ فالعقاب الجسدي ليس إلا مظهرًا شكليًا لطغيان "العقاب" في مشيئته الأكثر لؤمًا من "قرص الأذن" أو "تكسير العظام". العقاب قرار استباقي، لا يفصح عن كامل حتميته إلا في اللحظات "المستقبلية" أو "بعد أربعين سنة من التحولات" التي ربما يبدو خلالها الشعور بـ "الحرية" أمرًا بديهيًا. حينما يحاول ذلك الذي توهم اجتيازه عتبة الخوف أن يحوّل شعوره بـ "الحرية" إلى كلمات وسلوك. حينئذ تتجلى هذه "الحرية" عسيرة بما يفوق أي توقع. أكثر تلغيزًا من إشاراتها ووعودها "الطفولية" البسيطة التي تحتل غوايتها الروح المحاصرة بشكل مباشر فتظن أن المرور إلى "الخارج" هو "خطو فعلي" إلى أن يتم الانتباه أو التحديق في لانهائية الحصار وطبيعته الماكرة، المستقرة، كإرادة متعالية، لا يمكن تعطيلها.

"لعنة الطبقة الوسطى. منها وُلدت لعنتي الخاصة، لعنتي المركّبة. نَمَت وسط جيل اُعتصر بين جيلين، يمثلان تضاداً في كل أشكال الحياة، الأفكار، الأحداث، الواقع والخيال. لم يستطع جيلنا المحايد، الانضمام للسابقين أو اللحاق بالقادمين، لم يقبل كل التقاليد والأساطير البالية، ولم يقو على اللحاق في ذات الوقت بكل هذا التطور المتسارع، التكنولوجيا التي لا تتوقف أو تهمد. حتى طفولتي كانت نصف طفولة، ليست مبهجة وليست قاسية. أنا شخص متوسط الذكاء، من جيل واقع في المنتصف بين حياتين، جئت وسط أسرة تنتمي لطبقة تجاهد السقوط، وتحبو نحو الارتفاع. كل شيء حولي في المنتصف، في الوسط. ليس الوسط المركزي المهيمن، الوسط الحاكم المدبر، لكنه وسط وسط مائع، ومنتصف راكد".

في قصة "ليلة رائعة لقطار" تتحدد العتبة في تلك المسافة التي سيقطعها القطار بين حياتين. بين الغربة والنجاة كما يُتصوّر. كأنهما يقينان، ليس كلاهما سرابًا عصيًا، يمتنع عن الحيازة. تتجاوز الغربة العوامل والتفاصيل التي يبدو أنها تعرّفها أو تكسبها هوية صلبة، وذلك ما يجعل "النجاة" بدورها غير قابلة للتجسد كحقيقة، كواقع آمن، غير زائل، لا يمكن انتهاكه. المسافة التي سيقطعها القطار هي هاجس "العتبات" جميعها، بما يعادل الاشتباك مع الأطراف المبهمة كافة التي يبدو أن ثمة ما يفصل بينها ويوحي باختلافها وتناقضها. الأطراف التي يتوهم الانتقال بينها حيث "الوسط" ليس إلا حاجزًا كاذبًا بين كوابيس متصلة لا بين حقائق متنافرة.

"للحظات بسيطة، استعدت كل حياتي، مرّت أمام عيني مترابطة مسلسلة، كانت لوحة أمي تصطدم بوجهي، تغلق عيني، بينما كانت زجاجات أبي تنهمر فوق رأسي، وأخي يصرخ بلا حدود. كنت متمسكاً بحقيبتي فوق كتفي، متمسكاً بجسدي. لم أفكر كثيراً، فقد فكرت كثيراً طوال حياتي، كل شيء أخذ أكثر من وقته بكثير، أخذ حياتي، تلك حياة لا يجب أن أدافع عنها، ليس لي حق في النجاة. اندفعت جارياً بكل قوة، ملقياً نفسي وسط المطر الملتهب".

يلقي الراوي في نهاية القصة نفسه وسط "المطر الملتهب" ما يذكرنا بنظرة ذهول الولد الممتدة لأعلى في نهاية قصة "المتلصص"، "كل فعل / تغيير هو محض توطيد لثبات عدمي من الأوهام". الأوهام التي تستعمل الرواي أو بالأحرى تستعمل اعتقاده بكونه يجتاز عتبة أو ينتظر مرغمًا عندها.  الحياة التي لا يجب أن يدافع عنها ليست ما يعجز عن القبض عليها وفقًا لما تأسست عليه وحسب، وإنما لأن "النجاة" ليست إلا امتدادًا خبيثًا لهذه الحياة. ليس هناك اختيار لأنه لا توجد خيارات. هناك بدائل مصطنعة تدعي الحياد بينما يكمن في طياتها التاريخ نفسه: "لوحة الأم، زجاجات الأب، صراخ الأخ". "المنتصف" إذن مكيدة لا باعتباره شركًا في حد ذاته، أو ورطة شخصية أو أسرية أو مجتمعية "أخذت أكثر من وقتها بكثير"،  ولكن لأن هذا "الوسط" يدعي كونه "ما بين" حقًا. لأنه يؤكد زيفًا بكونه يتموضع بين حقيقتين أو أكثر. لأنه يشوّش على كون "المتنقل" من نقطة لأخرى ليس "مستعملًا" في ترسيخ الأكاذيب والأوهام التي يتخيّل مروره بينها كحقائق. في الفصل بين الاحتمالات، كأن هذه الاحتمالات ليست إلا تنويعات ـ متفحمة ـ للسقوط نفسه.

أخبار الأدب

3 نوفمبر 2024

الخميس، 31 أكتوبر 2024

تحميل العدد الرابع من مجلة "الناقد"


 https://www.academia.edu/125131774/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D8%B9_%D9%85%D9%86_%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D9%82%D8%AF?fbclid=IwY2xjawGQXh1leHRuA2FlbQIxMAABHcjbnDvAu5LdGEeVK1SRGWT_sQ6Sz3vMfmEtrq0e7jDwf6N_6ebuX5EmSw_aem_9fqgEVwKtH8wdmR6N4jtnA

إحراق البدايات

مرت لحظات صمت بيننا، كأن كلًا منا يفكر في ما يتعيّن عليه قوله ـ دون خطأ ـ حتى وصولنا المقهى .. اللحظات التي قد تحرّض بصورة لئيمة ومشوّشة على الشعور بأنها بداية حياة المرء على نحو ما .. بداية حياته مع الآخر .. بداية العالم .. آدم وحواء يسقطان من السماء في شارع طلعت حرب .. مطرودان من ألوهتهما ليتحوّلا إلى شيطانين يكتبان سرديتهما الخفية من داخل مخبأهما “الإنساني” .. ليكتشفا انتقامهما من الألوهة .. كنت وميادة تائهين بالرغم من معرفتنا الأكيدة بالمسار إلى “زهرة البستان” .. كأن علينا بناء الكوكب بركام آلامنا وتعميره بالفناء الذي سيتناسل من جثتينا دون أي ذاكرة .. لكنني لم أشعر في تلك اللحظات بأنني وميادة نستنسخ بداية ما، وإنما نختبر نزوة محتملة لإحراق البدايات .. نمنع إحراز الهدف الذاتي في الإعادة التليفزيونية .. نضع رأس الكون في شرجه .. كأنني وميادة سبق أن رسمنا صورة ضبابية لجنازة لا تضم سوانا؛ نحن الراقدان في ظلام النعشين، والجالسان وحدنا أمامهما، ومن يحفران وحدهما قبرين لنا في سماء أخرى منسوجة من دمائنا ثم يتلاشيان في العالم مجددًا كبشر عاديين؛ يتجولان بعظام مكسورة وحقائب مشتعلة في سفر بلا انعطافات .. كنت وميادة نفتش عن هذا الوداع الذي تشاركنا في تخيّله بالتسويات المأساوية الساخرة كافة التي يدبرها مزاج الغضب لدى كل منا تجاه مهانة وجوده .. ومثلما يغيب المكان كلما اقتربنا، ويضيع تمامًا كلما وصلنا إليه؛ فإن الوداع الذي كنت وميادة نطارده منذ اللحظة الأولى كان يتبدد بضراوة متصاعدة، ورغم محاذير “الخبرة”، كلما صرنا أكثر تشبثًا ببعضنا .. كلما صار كل منا أكثر التصاقًا وتورطًا مع نفسه تحت وطأة هذا التعلق .. كان غريبًا ومفجعًا أن يؤدي القرب بيننا إلى أمل في “تغيير العالم”.

لم أتوجه بنظرتي ناحيتها وهي تسير على يميني وإن كنت لم أتوقف عن استراق النظر لملامحها وجسدها بطرف عين، وأحيانًا كنت أنظر لأسفل شاكرًا القدر أنها ترتدي حذاءً لا يُظهر أصابع قدميها .. كان بوسعي سماع أنفاسها اللاهثة رغم الضجيج، بل بدا كأن ضجيج الشارع تحديدًا هو ما يدعم هذا الوضوح لصوت أنفاسها دون أن يمتزج به؛ صار لهاثها الرقيق نغمة متفردة والضجيج كورال مشتت في خلفيتها .. كانت القاهرة هذا المساء غريبة: ليست بالغة القبح أو شديدة الجمال كما تكون دائمًا حين آتي إليها في مرات نادرة .. كانت غريبة لأنني للمرة الأولى أمشي في شارع قاهري محاولًا إبطاء خطواتي التي يشكو من سرعتها “غير المبررة” كل من يرافق سيري، ومع ذلك ثمة شابة لا أعرفها، بينما يتلاصق جسدانا من حين لآخر بصورة خاطفة، تخبرني إيقاعات كعبها العالي بأنني لست في حاجة لهذا الإبطاء، لأنها أيضًا تمتلك طبيعة من يهرع لإنقاذ أحد ما أو اللحاق بشيء مجهول حتى لو كان المشوار مجرد نزهة أو ذهاب إلى مقهى …

جزء من رواية قيد الكتابة

الصورة لـ joel peter witkin

لهذا نكتب الروايات: استجواب العالم

تنطوي كتابة رواية جديدة ـ ولو بشكل غير واع ـ على مراجعة للماضي. المنجز الروائي للكاتب، متضمنًا بالضرورة رؤيته وقناعاته تجاه “تاريخ الرواية”، وهو ما يشمل الملابسات العديدة المرتبطة بفعل الكتابة مثل الحياة الشخصية للروائي، وملامح وتوجهات “المناخ الثقافي”، والشروط العامة التي يُعتقد أنها تهيمن على الاستجابات القرائية والنقدية. هي مراجعة استجوابية للغة حيث تبدو “الخبرات” و”التجارب” كأنها تحديدًا ما يضمن لكتابة رواية جديدة أن تظل دائمًا محاولة لكتابة الرواية الأولى. مراجعة استجوابية للعالم.يمثل كتاب “لهذا نكتب الروايات”، شهادات وحوارات روائيين إسبان، ترجمة وإعداد وتقديم د. محسن الرملي، والصادر عن منشورات تكوين، يمثل رفيقًا حميميًا في هذه المغامرة الجدلية للاشتباك مع الفن الروائي، بكل الأرق المتجدد الذي يتسم به العمل على رواية جديدة. من هنا تأتي الخصوصية الممتعة للكتاب التي شكّلها بهاء الترجمة وتنوع الأفكار والقضايا الهامة التي يناقشها عبر الشهادات والحوارات.

يقول الروائي رفائيل ريج:

“ولكننا انتبهنا إلى أن هذا التمرد والتجريب قد خلق قطيعة مع القارئ، لذا قررنا ألا تكون أعمالنا عبارة عن مونولوج داخلي ومغرق في الذاتية، وإنما حاولنا استعادة العلاقة مع المتلقي، ومن ذلك عدنا، نوعًا ما، إلى التجنيس والتصنيف كوسيلة يعرفها القارئ”.

“وبما أننا بالأصل لا نقصد أن نستعرض أو نتبجح أمام القارئ بذكائنا، وأن هدفنا هو التواصل معه، أي يهمنا أن نكون مقروئين، فقد عدنا إلى ما يثق به القارئ وما يهمه .. إلى البحث عن متلقي مكمل وشريك ولاعب مع الكاتب، وخاصة فيما يتعلق بالقضايا التي تهم الإنسان المعاصر”.

“هناك تيار ما بعد الحداثة، وهو الذي أحسب نفسي عليه، حيث ذلك الصنف الذي يتعامل مع الإرث الأدبي نفسه ويسخر منه، فأقوم بمزج الأجناس، أدب عن الأدب .. سخرية حتى من العمل داخل العمل نفسه وكسر قوالب السرد، نوع من المسافة لاحترام القارئ، ولكن دون خداعه”.

إن القارئ بالنسبة للروائي “التجريبي” أو “المتمرد” هو كائن غائم، محتمل، لا يتصف بالعمومية، ولا ينفصل عن الكاتب، ولكنه لا يطابقه كليًا كما يتراءى لنفسه لحظة الكتابة، أي كما يتخيّل الروائي ذاته على نحو تام. هو أشبه بالشبح الذي يتم اكتشافه بواسطة الكتابة، أو القرين الغامض الذي تقتفي الرواية أثره فيبدو أنها تخلقه أكثر مما تعثر عليه، وهذا ما لا يجعل القارئ المحتمل نسخة صارمة من الكاتب وإنما طيفًا خفيًا لوجوده، يفكك بطريقته المراوغة صورة الروائي في مرآة الواقع، فرضية ممكنة وعسيرة تختبئ في كوابيسه. بذلك فإن فكرة “القطيعة مع القارئ” وما يتبعها من “استعادة العلاقة مع المتلقي” هي جزء أصيل من انشغال وعمل هذا الكاتب باعتبارها موضع “تقويض” وليست “رهابًا”؛ حيث أن تخريب الطبيعة النمطية لـ “التواصل” هو مرادف بديهي للتجريب، فضلًا عن أن “الاستعراض” و”التبجح” إلى آخر الصفات التي يستسهل القارئ وبشكل عام إطلاقها على الأعمال “الغرائبية” كدفاع غريزي عن ثوابته ومسلماته؛ حينما يستعملها الروائي نفسه بتصديق وإيمان فإن الأمر لا يرجع لسلطة القارئ نفسه بقدر ما ينتج عن وعي الكاتب بالتمرد، أي بحدوده التي لا يجب ـ في تصوّره ـ أن تطغى على ما يسميه “ثقة القارئ” أو “المتعة الآمنة للمتلقي”. روائي يحذر من اغتنام العداوة الناجمة عن “ضربة الفأس ضد البحر المتجمد” بتعبير كافكا. من هنا يمكن النظر إلى تعبير “احترام القارئ” عند تبني السخرية من الإرث الأدبي أو مزج الأجناس أو كسر قوالب السرد بأنه يدل على نوع من التسوية التي يحاول الروائي من خلالها ـ مدفوعًا بذلك الانحياز ـ إيجاد توازن بين حاجته الضرورية للعب من جهة وبين أن يكون “مقروءًا” من جهة أخرى.    

يقول الروائي خافيير غارثيا سانجث:

“أكتب الرواية بطريقة مختلفة لأنه في هذه الأيام، يبدو أن أي أحد يمكنه كتابة رواية، ويجرؤ على نشر قصة خيالية، قصة ركيكة تحت يافطة الرواية. لذا فمن الضروري أو من الأفضل والصحي، ولكن ليس لا غنى عنه، أن توجد كتابة مختلفة، بعض الروايات ليست لمجرد الترفيه، وإنما لتحريك أو لخرق روح القارئ، وإذا أغاظت بعضهم .. فهذا أفضل وهو المُرتجى”.

أحيانًا يبدو ثمة تناقض بين سعي الروائي “لخرق روح القارئ” وبين إدانته أن يكتب “أي أحد” رواية، متعللًا بتلك اللافتة الأزلية “المبتذلة” و”المرهبة” التي تسمى “الركاكة”. لماذا يبدو تناقضًا؟. لأن الروائي يُفترض هنا أن يكون مجابهًا للتسلط بشتى طرقه وأشكاله، ولعل استعمال وصف “الركاكة” بحد ذاته يعتبر سيفًا مجانيًا على رقبة من يريد ممارسة “حقه” في كتابة الرواية كلما أراد من يعد نفسه “روائيًا حقيقيًا” أن يشبع عفويًا ودون اعتراف بذلك شعورًا متوطدًا بالنقص وانعدام الثقة. يبدو تناقضًا لأن الروائي يُفترض هنا أن يستوعب بأن أعماله التي يتفاخر بكونها سببًا “للإغاظة” يسهل في المقابل وبنفس التلقائية أن تبرر وضع سيف “الركاكة” على رقبته من قِبل قارئ أو روائي آخر يترصد في جبهة مضادة، ذلك لأن “الركاكة” شأن أي مفهوم رجعي مستبد ليس أكثر من قناع بلا وجه، يمكن لأي شخص ارتدائه تمجيدًا في ذاته وتحقيرًا مما يعارضه، مشكّلًا ملامحه المصطنعة بما يروق له من أفكار ومبادئ تريد فرض نفسها كمرجعية كونية أو قانون مطلق. لكنه ليس تناقضًا؛ لأنه ليس كل روائي يسعى “لخرق روح القارئ” بوسعه تأمل “قدرته الفعلية” على تحقيق ذلك، أي محاكمة اليقينيات واقتلاع الجذور التي تعطّل بصيرته الروائية عن أن يكون “مخرّبًا” حقًا.

يقول الروائي خافيير مارياس:

“إن الأمر يتعلق بنشاط شعبي يدفع بأي شخص قد تعلم القراءة والكتابة في المدرسة، إلى عدم الاكتراث بأي نوع من أنواع الدراسات العليا ولا التوجه إلى أي تخصص”.

“كتابة الرواية لا تمتلك مميزات خاصة بها؛ والدليل على ذلك هو أنها جنس كتابي ـ اتفق على ذلك أو لم يُتفق ـ يمارس كل أصناف الفردية، مهما كان نوع المهنة أو التخصص، وعليه تُفترض فيه السهولة وخلوه من أية أسرار. وفي ضوء هذا، وحده، يمكنكم تفسير كتابتها من قبل: الشعراء، الفلاسفة، كتاب السيناريوهات، الاجتماعيين، اللغويين، السياسيين، المطربين، المذيعات، مدربي كرة القدم، المهندسين، معلمي المدارس، العمال، الممثلين، النقاد، الأرستقراطيين، القساوسة، ربات البيوت، أطباء النفس، أساتذة الجامعات، العسكريين ورعاة الماعز. وهذا أمر يدعو إلى التفكير بلا شك. وإذا ما تركنا جانبًا سهولتها وخلوها من خصائص محددة، فلا بد أن تعطي الرواية شيئًا ما، أو على الأقل أن تنشئ زخرفية جيدة .. ولكن أي نوع من الزخرف هذا الذي يكون في متناول يد كل المهن؟! وبغض النظر عن مكوناتها السابقة .. ماذا سيقدم؟ هل هي سمعة ومكسب إذًا؟”.

“إن الروائي الواقعي ـ أو الذي يُسمى هكذا ـ هو الشخص الذي يكون عند الكتابة متواجدًا ويعيش على الأرض، كما هي أو كما يحدث فيها من وقائع، مازجًا عمله بعمل المؤرخ أو الصحفي أو الموثق. أما الروائي الحقيقي فهو لا يعكس الواقع، وإنما الأصح، يعكس اللاواقع، مدركًا بأن هذا الأخير لا يمكن تصديقه ولا هو بالفنتازيا .. وإنما ببساطة، هو ما يستطيع الواقع أن يعطيه ولكنه لم يعطه .. وهو شيء على العكس من الأفعال، ومن الحوادث، ومن المعطيات والمعلومات والماجريات .. على العكس من (ما يحدث). هذا فقط ما يمكن اعتباره ممكنًا وتستمر إمكانية وجوده .. هو احتمال أدبي في كل زمان ومكان. ولهذا ما زالت تُقرأ حتى اليوم روايات مثل: دون كيخوته ومدام بوفاري”.

إن كتابة الرواية من قِبل أشخاص، وبالهزل المعتاد المثير للسخرية، يٌحكم عليهم بعدم “الأصالة” لكونهم ينطلقون في كتاباتهم من “تخصصات غير روائية” كما يتم تصنيفهم عند البعض ـ أو الكثيرين ـ ليست حجة حاسمة في استبعادهم عن “الفن الروائي” أو نفي “المقدرة الروائية” عن أعمالهم، استنادًا إلى ما يُطلق عليها “الزخرفية الجيدة” التي بحسب “الأوصياء” على هذا النوع الكتابي لابد أن تقدّمها الرواية؛ فهذه “الزخرفية” مسألة نسبية تمامًا، لا ترضخ لقواعد إلهية أو معايير جازمة، أي أنه لكل عمل روائي، بصرف النظر عن مهنة كاتبه، ما يمكن أن ندعوها “زخرفيته الخاصة” التي تمتلك طوال الوقت فرصة الإشارة إلى اختلافها، أي أن تبين خصوصيتها وسط ما يظن أنه “مشاع روائي” أو مجرد “نشاط شعبي” يستهدف السمعة والمكسب وحسب، بعيدًا عن “القيمة الجمالية” التي لا تضمنها بالتأكيد “الدراسات العليا”، وبهذا فإن إجادة القراءة والكتابة تسمح بالفعل لأي شخص “أن يمارس حقه” في كتابة الرواية، سواء كان مكترثًا بأن يكون “متخصصًا في الأدب” أم لا، فهذه الخصوصية قد تحققت بالفعل لحظة الكتابة. الأمر يرجع إلى اكتشاف الحاجة والرغبة ومن ثمّ اتخاذ القرار الذي يعادل رهانًا شخصيًا لا يُفترض أن تسيطر عليه محاذير استعلائية، حيث تظل كيفية دعم هذا القرار بكل الوسائل الممكنة شأنًا ذاتيًا وليس إلحاحًا أبويًا بالإخضاع والمعاقبة. إن التهديد بـ “الجودة” ليس أكثر من استخدام متعسف للغة، سيادة انتهازية على الكتابة، فالروائي يستهدف “جودته” التي لا تعني في النهاية سوى سرابية “الجودة” نفسها مقابل أن يفعل ما يرى أنه يتحتم عليه القيام به، وليس إرضاء ذائقة معيّنة “متغيّرة بتعدد الأوصياء”، تطارده دومًا من أجل الامتثال لمتطلباتها، هربًا من الوصم بـ “الرداءة”.

ينشأ التمييز أحيانًا بواسطة تحديد تعريفين مختلفين لمصطلحين، يتسم أحدهما بالأفضلية والآخر بالدونية إشباعًا لرغبة “تنظيرية” في إبداء التفوق مع الانتماء إلى المصطلح “الأفضل” والتبرؤ من “الأدنى”. ليس هناك أسهل من ممارسة هذا الخداع اللغوي في مجال “الأدب”، ذلك لأن السمات التي يتم تعيينها للفصل بين المصطلحين “المخترعين” لا تعدو أكثر من “بلاغة”، حين تخضع للخلخلة ستتناثر دون تفاوت “طبقي” بحيث يمكن لأنقاض أي منهما أن تنسب للآخر. التمييز بين الروائي “الواقعي” والروائي “الحقيقي” يندرج تحت هذا الوهم. من الذي يستطيع أن يقرر، وبنقاء كامل من الشك، بأن الرواية التي تقدم ـ بحسب الإكراهات المصطلحية ـ ما يسمى بالحوادث والمعلومات “الموثقة” لا يمكن أن يكون لها “تأثير” الرواية التي تقدم “حيوات متخيلة”، أو “اللاواقع”؟ من الذي يستطيع بالأساس أن يضع حدًا ملزمًا يفصل “الخيال” عن ما يعد توثيقًا للواقع في الرواية؟ أليس “ما جرى” ـ وفقًا لما هو جدير بأن يعرفه كل روائي ـ مهما كانت “الدقة” في استدعائه لن يكون كما هو حين يُكتب، وسيكون دائمًا شيئًا آخر حين يُقرأ؟ ألا يكمن الخيال في ما هو أكثر اتساعًا من “اللاواقع” حيث تكشف “الحادثة” أو “المعلومة” عن جوهرها التخييلي لحظة الكتابة؟ إن مادة المؤرخ أو الصحفي ليست محصنة في “واقعيتها” التي لا يخدشها التوظيف الروائي، ولكنها خيالية أيضًا وفقًا لما يسمى “زاوية النظر” التي لا يضبطها “المصطلح” وإنما مشيئة الرواية نفسها بحيث يمكن لهذه المادة أن تفصح عن ذخيرتها الخيالية وبالأثر ذاته الناجم عن دون كيخوته ومدام بوفاري.

يقول الروائي مانويل فرانثيسكو رينا:

“أعتقد أن أي كاتب يجب أن يشعر بأنه مرتاح مع أي جنس كتابي يعبّر به، مثل الإغريقيين، الذين كان بالنسبة إليهم، كل شيء هو شعر أو (إبداع / خلق) سواء أكان مسرحًا أو أساطير أو نثرًا أو شعرًا، بالنسبة إليّ أشعر بالراحة مع كل هذه الأجناس التي أكتب بها، ولكن بشكل أكبر مع الشعر، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ما يراه أو يعتبره الآخرون أنه الجنس الذي ينجح فيه الكاتب أكثر من غيره، إضافة إلى أنني أضع ما هو شعري دائمًا في كل ما أكتبه، بما في ذلك في الصحافة، المهم في النهاية أن يشعر الكاتب بالراحة في التعبير عبر الجنس الذي يكتب فيه”.

تعيد هذه الكلمات كتابة ما ذكرته سابقًا حول ذلك الفرق المدعي بين الروائي “الواقعي” و”الحقيقي”، فهي كلمات مجابهة للتمييز، وتتموضع في ما يستحق التركيز عليه عند مقاربة الرواية “المهم في النهاية أن يشعر الكاتب بالراحة في التعبير عبر الجنس الذي يكتب فيه”. ذلك هو الأساسي هنا بعيدًا عن “التنظير”، فالأمر يتعلق بالمرح الفردي وبمأساوية هذا المرح عند البناء والهدم، لحظات الاتساق والطيش، المبادلة بين الرصانة والجموح، لا بتحويل هذه الارتكابات إلى “نظام موجِب” للفن الروائي.

يقول الروائي مانويل فرانثيسكو رينا أيضًا:

“بشكل عام، هناك تجريب أقل بكثير مما كان عليه الأمر سابقًا، وأرى أن من بين أسباب ذلك هو أن المستوى الثقافي والمعرفي للكُتاب قد تراجع وكذلك المستوى الثقافي عند القراء، وأصبح أقل مما كان عليه في مراحل سابقة، وشروط السوق، والطلب التي ذكرناها، هي السبب في ذلك، بحيث صار الكتاب الأكثر تجريبية هو الأقل مبيعًا، ولذلك تتم المراهنة على أدب أكثر بساطة ومباشرة ووضوح، كونه يصل إلى القراء بشكل أسهل وأسرع وأوسع”.

يحق للروائي أن يقارن بين عمله “التجريبي” وبين أعمال الآخرين التي يراها “أكثر بساطة ومباشرة ووضوحًا”، أي ما هو “أكثر مبيعًا” وفقًا لما يسمى بـ “تراجع المستوى الثقافي عند الكتّاب والقراء”، وكذلك “شروط السوق”. لكن عليه أن يساءل نفسه: على ماذا تعتمد هذه المقارنة حقًا؟ .. على ما يريد أن يكتبه أم على ما يريد أن يقرؤه غالبية الناس “كما يدل كل شيء ربما”؟ .. على عزلته أم صورته في الخارج؟ .. على “تجريبيته” أم على العنف الذي يعتقد أنه من الضروري ممارسته تجاه “الكتابة الرائجة”؟ .. إن الإجابة على هذه الاستفهامات ستحدد ببساطة طبيعة “الجرح” لدى الروائي؛ الرواية بكل ما تفرضه من قتال ضد النمط والقانون “خاصة الذي يجعل كتابة ما أقل شأنًا من أخرى”، أم تشييد هرم روائي للعالم يبدأ من الأسفل حيث “البيست سيلر” وينتهي في القمة “المعتمة” أو “الأنا”؟

يقول الروائي مانويل فرانثيسكو رينا أيضًا:

“إن بلدنا عالق بين الكهنة الذين ترسخوا في العقود الماضية والذين يسيطرون على عالم الجامعات والمؤسسات والجوائز، ويعيدون أنفسهم بشكل مضجر ومستمر من خلال الكليشيهات والصيغ نفسها، وبين أولئك الذين يتطلعون إلى العثور على نموذج سردي ناجح يتناسب مع صرعات اللحظة الراهنة ومع ما يفترض أن تبحث عنه دور النشر. أجد الأمر مزعجًا وعقيمًا”.

إلى ماذا يتوجه “الغضب الروائي” في حالته التجريبية بالنظر إلى ما يحيط بالكتابة مما يسهل وصفه بعوامل “الانحطاط” أو بتهذيب أكثر “غياب النزاهة”؟ ثمة فرق بين توجيه الغضب إلى “أنواع الرواية الأخرى”، وبين توجيهه إلى السياقات المعرفية السائدة، المتجذرة بطبيعة الحال، التي لا تبدأ بما هو “رسمي” ولا تنتهي بما هو “جماهيري”. السياقات التي تفاضل وتفرز وتقصي وفقًا لآليات “شعبوية” بكل ما تتضمنه هذه الكلمة من علاقات القوة والاستثمار التجاري وإعادة التدوير المروّضة. السياقات التي تكتب تاريخًا زائفًا بالتزامن بين التكريس من جهة والإزاحة من جهة أخرى، وليس “الرواية” نفسها، المغايرة فقط عن روايتك، التي يكتبها شخص آخر لديه ـ مثلك ـ ما يبرر فعل ذلك، وهذا ما يفترض بالضرورة أن يحدد للروائي الدائرة “العتيدة” التي تحاصره، وينبغي أن تستهدفها بصماته التدميرية.  

يقول الروائي خوسيه لويس سامبيدرو:

“إن الحقيقة الروائية تصل إلى أقصاها عندما تُكتب بدافع حاجة داخلية … في إحدى مقابلاته الصحفية المنشورة أخيرًا، ينبه رودولف نورييف تلاميذ رقص الباليه، بالقول: (إذا استطعتم العيش بلا رقص، فاتركوه فورًا). هذه النصيحة تصلح أيضًا للكتاب. فالرواية العظيمة تظهر مثل ورم في أحشاء الروائي، ولا بد من إجراء عملية له. أي كتابتها. إذن فليس المؤلف هو الذي يقوم بإنتاجها، وإنما هي التي تتبلور داخله وتستخدم قلمه أو ريشته من أجل الطيران، مثلما يجبر الجنين أمه على الولادة”.

إن الحقيقة الروائية تصل إلى أقصاها حينما يكون ثمة وعي بالاحتياج إلى كتابة رواية تضمر دافعًا مستعادًا لاستجواب تاريخ الفن الروائي. الوصول بالعالم إلى إنكار نفسه، بكل ما يؤطره من نماذج قهرية للكتابة، أي استدراجه نحو ذلك العمى الساحر الذي تنتهي إليه الرواية كغاية مؤجلة، ظلت تخطو عبر أشلاء اللغة قبل أن تتجسد في ما وراء الحياة والموت. الحقيقة الروائية هي التي تنبّه الروائي وعبر متاهاتها غير المتوقعة بأنها ضد كل حقيقة.

أخبار الأدب

6 أكتوبر 2024

نزع الوجه

يرى نفسه واقفًا أمام المرآة ويقرّب وجهه من سطحها المصقول الواسع .. يرفع أظافره السوداء الطويلة كمخالب ويغرزها بقوة في وجهه .. لا يشعر بألم، لكنه يرى نسخته داخل المرآة على وشك الصراخ .. يخفض يديه إلى جواره بينما تواصل اليدان في المرآة نزع وجه نسخته .. تجرّد جمجمته من الجلد الذي يُشكّل ملامحه مع تفجر الدماء بغزارة فوق ملابسه .. يظل واقفًا أمام المرآة في ترقب لكن الأمر يبدو أنه لن يتوقف .. كأن لوجهه طبقات لانهائية من الأقنعة تواصل أظافره السوداء الطويلة انتزاعها بينما صرخات نسخته في المرآة تدوي بداخله .. في باطن جسده هو .. لم يعد يتحمّل .. تحرّك من أمام المرآة وأحضر بروازًا فارغًا .. مجرد إطار خشبي من غير صورة لكنه ثقيل بما يكفي ليحطم مرآة .. بكل ما لديه من قوة قذف البرواز في سطح المرآة حيث نسخته لا تزال داخلها تواصل نزع وجهها وتصرخ .. ارتطم البرواز بسطح المرآة فشعر كأنما ركلة بالغة الشدة أصابت وجهه مع سماعه لصوت تحطم لوح زجاجي .. سقط على الأرض بوجع وحشي ودوار حاد وضباب كثيف في عينيه .. لكن ذلك لم يمنعه من رؤية نسخته في المرآة وقد استعادت هيئتها السابقة .. رأى نفسه مجددًا يقف هناك عبر السطح المصقول الواسع، مرتديًا نفس ملابسه، وجهه كاملًا وسليمًا، دون أظافر أو دماء  .. ظلت نسخته تنظر إليه وهو ممدد على الأرض، بتنفس واهن، يوشك على الإغماء أو الموت .. تبتسم إليه من داخل المرآة .. ابتسامة مغوية كأنها تدعوه لمضاجعتها .. حاول والدنيا قاربت على الغياب عن وعيه أن يبادلها الابتسام لكن نسخته اختفت من المرآة في اللحظة التي لم يعد يدرك فيها أي شيء.

اللوحة للفنان السوري عمران يونس

عن "سماء القبو"

كلما قرأت ثلاث قصص متتاليات أو أقل، أشعر بتعب في رأسي. حاولت التأمل في السبب، ووجدت أنه بسبب التفكير الشديد ووضع الرموز والأشياء غير المترابطة أساسًا، والتي تغوص في اللاوعي.

في سماء القبو هي المجموعة القصصية الثانية التي أقرأها لصانع القصة القصيرة وأستاذها، ممدوح زرق. تجد ديمومتك حيث أنت في الحاضر تقرأ وتلتمس شيئًا من الماضي وتتمنى أو تخاف شيئًا في المستقبل. أنت تفعل ذلك أو تفعله بك القصص؛ فهي تفعله مع نفسك، فما بالك إذا فعلته مع نفسك حلقت مع ديمومة الكاتب أيضًا؟ في نفس ذات اللحظة التي تدور في فلك نفسك .
لكل كاتب، هذه القصص تعد دروسًا في فن القصة، أفضل من مائة شرح نظري وأكاديمي. على مستوى المتعة والمؤانسة، حققت المطلوب. الجميل هو التنوع في الأفكار، فهي غير متكررة حتى مع مجموعات قصصية أخرى، وهذا يدل على إبداع في مجال القصة القصيرة لا ينضب.
نقدي الوحيد هو غلاف المجموعة والذي لايعبر عن الإسم ولا يناسب حجم المجهود والإبداع المبذولين.
محمود عبد الغني

درس التخييل الذاتي

بدأت أسجّل حياتي بصوتي بعد الأربعين .. قد يبدو هذا مفهومًا لرجل في منتصف العمر، متحسّر، يائس، لم يعد يغادر بيته، ولم يعد يتكلم أو يستمع إليه أحد .. كان الأمر في بدايته ينطوي على متعة غير مسبوقة .. الاستعادات الشاملة لكل ما يعذب ذاكرتي منذ البداية وحتى الوحدة الأربعينية المحكمة .. كنت أتحدث إلى نفسي في لقاءات متلاحقة كشخص آخر، لم يجرّب ما عاشته نفسي، أو على الأقل لم ينغمس كليًا مثلي في ما مرت به، يسترجع الماضي ويتفحص أحداثه ويحاول أن يجيب على الأسئلة المتكاثرة المتوسلة لتفسيره .. لم تكن المتعة ناجمة فقط عن قدرتي على ايجاد الأسباب والدوافع كافة التي تبرر البؤس المهيمن على حياتي، وإنما في توثيق تلك الحياة بصوتي، كما لو أنني مراقِب منفصل عنها بطريقة ما .. كاشف لمشاهد وتفاصيل الذاكرة عبر مسافة تأملية تدخر قدرًا متوهمًا من الأمان .. كانت هذه المسافة هي البصمة الصوتية للوحدة .. كأن المرء حين يختلي بذاته قاصدًا تشريحها، وتحليل هزائمها في تسجيل صوتي فإنه ينزع نفسه عنها بصورة أو بأخرى .. يتخيل اكتسابه حيادًا تطهريًا من شرورها .. يتحوّل إلى صوت محلق، معزول بشكل ما عن الحياة التي يقتحم أغوارها .. ذلك ما يجعله أكثر التصاقًا بذاته .. أكثر توحدًا بكل ما اختبره .. كأنما يسرد حكاية متصورًا امتلاكها على نحو عابر ـ وبالحميمية اللائقة ـ لصديق مجهول، خفي، بعد أن قضى عمره كله عبدًا لتلك الحكاية.

لكنني اكتشفت، ورغم كل التفسيرات والتبريرات، أن ما أسجّله ليست حياتي، وإنما سيرة محتملة للأطياف المتعددة التي تتوارى بداخلي .. شخصيات مختلفة، لم تكتمل، تكوّنها شذرات غائمة ومتأرجحة، وّلدت مع طفولتي، ويسبق أثرها تلك الطفولة .. تسجيلاتي محاولة لاستنطاق تلك الأطياف التي لا يمكنني القبض عليها، أو التمعن في ملامحها، أو حتى الإبقاء على شعور ثابت بوجودها .. محاولة لجعل هذه الشخصيات تستمع إلى نفسها كلما أعدت تشغيل ما سجّلته بصوتي، أي بما جاهدت أن يكون صوتها .. أردت أن تكتشف الشذرات يقينًا مُخلّصًا لها فتكتسب وضوحًا واستقرارًا ومن ثمّ قدرة إعجازية على استرداد بداياتها، على استدراك الحياة والموت، ما يعني الاستحواذ على فنائي قبل لحظة النهاية.

ومع ذلك؛ في كل مرة أستمع خلالها إلى أحد التسجيلات، أو ما دوّنه الطيف مستعيرًا صوتي، وبالرغم من أن الأمر يبدو مفاجِئًا أحيانًا، من كلمات أشعر بأنني أسمعها للمرة الأولى، كأنما غريب بالنسبة لي يتحدث إلى غريب آخر، وكأن ذاكرتي تتواطأ معي بالنسيان المؤقت في إصابة الهدف الأساسي من التسجيلات “الخطاب التفسيري المشوّق والمؤانس للوحدة” ؛ إلا أن كل هؤلاء الغرباء يظهرون في كلامهم وإنصاتهم لبعضهم تعمّدًا بالغ الحسم لطمس أي سيرة مفترضة لهم تسعى للتحرر من خفائي .. تمعن شخصيات الباطن المختلفة في التمزق والتناثر والغياب، فتتحول طفولتي إلى مزيد من التشذر ويتمادى أثرها الذي يسبقها في الضياع .. يصبح الكلام والاستماع في حد ذاتهما وهمًا قاهرًا .. يصبح الكلام استماعًا والاستماع كلامًا .. كلاهما متزامنان، متداخلان، منغمسان في اندماج وتبادل وتفكيك لطبيعتيهما .. كلاهما لعب بالقول والإنصات .. يظل اليقين الوحيد إذن كامنًا في ذلك الفراغ الضبابي بين الشرود والانتباه داخل كل صوت .. الفراغ الذي يخلق الملامح ويمحوها .. يستدعي المشاعر ويبددها .. سيرة الأطياف ليست إلا انتقامًا متعدد النبرات من حرمانها من ألوهيتها .. ذلك هو اليقين الوحيد.

حينما أكملت الخامسة والأربعين أدركت أنني هكذا أصبحت متورطًا في جحيم ذاكرتي أكثر من أي وقت مضى .. كأن الأصوات التي تحفظها التسجيلات قد قطعت بي الخطوات الأخيرة في قاع ذلك الجحيم .. بدأ الضجر يداهمني كلما استمعت إلى التسجيلات .. كل ما اكتشفته أو أدركته كان يخاتل بصيرتي مسبقًا .. كنت أحدس به وأتوقعه وأحاول ـ كشخص آخر ـ أن أحتل المساحات الذهنية التي أعلم أنه سيتجسد داخلها .. كنت أقاوم هذا التجسد المحتوم بكل ما تبقى من طفولتي .. مثل كل شيء؛ لم يكن الكلام والإنصات إلا استمناءً .. هكذا قررت أن أخصص جانبًا من تسجيلاتي لكي أشرح للأطياف الغامضة بداخلي علاقة الشتاء بما يُسمّى “التخييل الذاتي” .. أن تشرح تلك الأطياف المتوارية هذه العلاقة لنفسها .. لا أعتبر ذلك “أملًا” أخيرًا في “معجزة” ما .. هو درس فحسب .. درس في الرواية، وفي الشتاء، وفي الألوهة المضادة .. من يدري! .. ربما تحدث المعجزة حقًا.

جزء من رواية “نبوءات لا مرئية” ـ قيد الكتابة

رسائل مع دفا (3)


"البرد"

هل جربت أن يكون الباب المقفول بالمفتاح حلمًا بالنسبة لك؟ ...

لم يكن بابا يصدقني كي لا يشعر بالذنب .. الذنب الذي لم تكن ملامحه قادرة على إخفائه .. الذنب الذي لم يعطّل قسوته إلا في لحظات نادرة ...

كان بابا عنيفًا جدًا، سليط اللسان إلى أبعد مدى، وحينما كان يشعر بعزّة نفسي لم يكن يتورّع عن ضربي بالحذاء على وجهي أو البصق عليّ كلما راق له ذلك ...

في البداية كنت أبكي في صمت، ثم أصبحت أمتنع عن البكاء أمامه، وفي إحدى المرات لم أستطع منع نفسي من الضحك فثار جنونه بعدما أحس أنه أضعف مني بكثير .. طردني من البيت وأخبرني بأنه لا يريد أن يراني مرة أخرى.

كنت وقتها في الكلية، فحملت حقيبتي ووضعت فيها بعض الملابس والكتب ومحفظتي، وحينما توجهت ناحية الباب قالت لي ماما "لا ترحلي، هذا بيتك وليس بيته، ولا يقدر على إذلالك لكونه ينفق عليكِ، هو لم يفعل إلا أقل مما يفعله أي شخص لأولاده" .. كنت مصممة على الرحيل لكنني وجدته خائفًا من معرفة الناس بأنه قد طرد ابنته الجامعية المتفوقة فمنعني من الخروج ...

هل تعرف يا ممدوح ما هي نوعية الكوارث التي كانت تبرر له أن يفعل ذلك بي! .. مجرد أن يكون لي رأي مخالف لرأيه، والأسوء أن أدافع عن أمي حين يضربها بالعصا .. ذات مرة وهو يعتدي عليها أمسكت يده بقوة لا أعرف من أين جئت بها ثم جذبت العصا وأخذتها منه رغمًا عنه وأنا أصرخ فيه قائلة "طلقها إذا لم تكن تعجبك، ولكن لا تهنها بهذا الشكل".

اكتشفت بعد موته أنني كنت أحبه جدًا، والأفظع أنني ما زلت أشفق عليه حين أتذكر رفضي أن أحكي له خصوصياتي عن أصدقائي والجامعة وما إلى ذلك .. كيف كان  يمكن أن أحكي له وهو بهذه القسوة، وكيف كان يمكنني تجاهل إحساسي بكونه غريبًا عني بعدما ظللت أعوامًا طويلة لا أراه إلا شهرين فقط كل سنة؟

بعد وفاته بدأت أحس بالأعراض، فأجريت فحوصات، ولما عرفت حقيقة مرضي رفضت البقاء في مصر وسط نظرات ومشاعر الشفقة والشماتة، وقررت السفر إلى مكان لا أحد يعرفني فيه.

بابا مات في حضني، لكن تعرف؛ ليس الموت هو الذي أحزنني .. ما أحزنني هي البرودة التي بدأت تسري في جسمه حينئذ .. شعرت أن البرد هو الذي أخذه وليس الموت.

أنت ستكون أبًا حنونًا جدًا، ساخرًا كعادتك من الأبوة يا ممدوح ...

متى كانت آخر مرة سالت فيها الدموع من عينيك دون بكاء؟

دفا

الجمعة ـ 23 يوليو 2004

* * *

"الرابط السيّئ"

أن أكتب لكِ ـ كبوحٍ مقابل ـ عن صفعات أبي عقابًا لي على عدم أداء الصلاة، أو التأخر في الرد على ندائه فهذا لن يجعلها صفعات حقيقية ـ بالنسبة لي على الأقل ـ بقدر ما ستكون إيماءات خجولة، بالغة الشحوب نحو تلك التي ما زالت تتعاقب فعليًا على وجهي، محتفظة بثقلها الحارق، في نصوصي ...

لم أر أبي يضرب أمي مطلقًا، لكنني أشهد له بأنه كان بارعًا للغاية في إذلالها، من غير أن يحتاج حتى إلى توجيه سباب لها ...

ردًا على سؤالك الذي توقعته في نهاية الرسالة فقد حدث ذلك بعد موت أمي بيومين .. قبل ذلك كنت قد  خرجت من المستشفى إلى الشارع ومشيت بين الناس مذهولًا، غير مصدق أنهم يسيرون بطريقة طبيعية، وأن الحياة مستمرة، لدرجة أنني كنت أريد أن أستوقف كل من أقابله في طريقي وأسأله: (ألا تعرف أن أمي ماتت الآن؟) .. كنت الوحيد من الأسرة الذي بقيت معها في المستشفى خلال مرضها الذي لم يستغرق إلا أيامًا قليلة، ورأيتهما تموت أمامي من وراء زجاج غرفة العناية المركزة، ومع ذلك ظلت دموعي تؤجل الإفصاح عن نفسها .. جاءت إلى البيت لتقديم العزاء بائعة اللبن العجوز التي كانت أمي تستضيفها كل صباح وتعد لها الإفطار وتجلس لتأكل معها لأنها ـ كما أخبرتني ـ تشفق عليها؛ امرأة كبيرة السن، تخرج في الصباح الباكر من قريتها، وتدور كثيرًا على البيوت من دون أن تضع لقمة في فمها .. حينما فتحت باب الشقة ورأيت هذه العجوز انصرفت من أمامها ودخلت إلى حجرة مكتبي وظللت واقفًا في الشباك، شاردًا في الذكريات المعذِّبة لفترة طويلة، انتبهت في نهايتها أن الدموع قد أغرقت وجهي بدون أن أشعر.

أستمتع الآن إلى فرانك سيناترا "”Moon River ولكنني لا أتخيل نفسي كالعادة كلما استمعت إلى هذه الأغنية وأنا أحلق عاليًا وحدي بين ألوان ونسائم الغروب نحو مدى لا نهائي، وإنما أفكر في أجمل مشهد تتخيلين نفسك فيه كما أخبرتيني من قبل: ترقصين تحت المطر بكعب عال من دون شمسية في شوارع خالية حتى تصلين إلى شارع جانبي ينتظرك فيه حبيبك كي يعتصرك بين يديه وهو يقبّلك .. الرابط السيّئ بين ما يتخيله كلٍ منا حول "المشهد الأجمل" لم يصبح بعد ـ بالنسبة لكِ ـ واضحًا بشكل كامل .. لا يزال يخفي أمام عينيكِ حقيقة المأساة الهزلية التي نعيشها معًا كقمة جبل جليدي.

ممدوح

السبت ـ 24 يوليو 2004

 موقع "الكتابة" الثقافي

5 أكتوبر 2024

الأحد، 29 سبتمبر 2024

يوميات: غرفة سرية داخل نفسي

لا تشبه المدينة التي أسكنها منذ ولادتي “المنصورة” أي مكان حلمت بالعيش به .. الأماكن التي عاش بها بطوط، المغامرون الخمسة، دكتور جيكل ومستر هايد، ديفيد كوبر فيلد، وجيم هوكنز على سبيل المثال.

بيتي الآن أكثر اتساعًا وأناقة من بيت طفولتي، لكنه أقل براحًا وحميمية، وما يطل عليه لا يتسم بنفس الحيوية والإثارة .. الفرق بين منطقة برجوازية “الجوازات”، وأخرى شعبية موغلة في القدم “ميت حدر” .. بين سماء كنت ترى أطباقًا طائرة وكائنات غامضة تحلّق في نهارها وليلها وراء البيوت، وسماء أخرى مرصوفة بالفقد.

“يتوحد المحقق ويغيب داخل الاستراقات والاختلاسات التي تستقر وتدور في مكائد الجنس والعنف والكوميديا الممتزجة في “ميت حدر” كسلالات لخفاء الماضي، كل الماضي، ولتواريخ الشبق المتوارية في كتب السحر لجميع الشعوب، ومخطوطات الانعزاليين المنكمشة على أحلام وأمزجة المتعة التدميرية للمدن القديمة: موسكو تشيكوف، براغ كافكا، باريس موباسان، بيونس آيرس بورخيس، دبلن جيمس جويس، نيويورك سالنجر، سان بطرسبرج دوستويفسكي .. ذاكرة تشكّل عري الأجسام التي تطارد بعضها في غابة الهمسات واللهاث والتأوهات الممتدة والمتشعّبة في الأزمنة الغابرة”.

هكذا وصفت ميت حدر في نوفيلا “مقتل نجمك المفضل” .. هي منطقة تستطيع بالثراء المطلوب أن تشتري فيها بيوتًا بقاطنيها .. أن تمتلك رجالها ونساءها وأبنائهم .. تستطيع أن تحوّل حارة منها إلى ضيعة صغيرة تتنقل داخلها بين فرائسك ..  لكنك لا تستطيع أن تكون صديقًا حقيقيًا لهم لو كان كل ما تملكه هو النفور من طبائعهم، والحذر من شرورهم، والرغبة في إكسابهم الروح القوطية، أو مثلما كتبت في نوفيلا “جرثومة بو”:

“أن يكتب كل ساكن بيت نسخته الهازئة، غير المتماثلة من الأضواء الحمراء الدموية، والحمى، والظلال، والسموم، والأقنعة، والأبواب المتوعدة، والأكفان، والبرد، والجثث المتحللة، والنوافذ الزجاجية المرتجة، والظلام، والكتب القديمة، والدفن تحت الألواح الخشبية، والشموع ذات اللهب المتراقص في الظلام أمام المرايا، والمشانق، والتوسلات، والكوابيس الملونة بمزيج من الأزرق والأخضر، والتعاويذ، وخيوط العنكبوت، والهياكل العظمية، والسماء والغيوم والآفاق القرمزية، والتراب، والأنصال المسنونة، والجماجم، والحوائط والأسقف المشتعلة، والرموز، والأقبية، والغرقى، والرؤوس المهشمة، والجبال، والأقمار المكتملة، والأودية السحيقة، والغرف السرية، والأشجار الكثيفة، والأنين، والهواء الرمادي، والعواء، والشحوب، والتنهد، والأشباح، والبكاء، والأحياء المدفونين، وخفقات القلب الرهيبة، والأحجار السوداء، وأنوار المصابيح القوية، والسحب الداكنة، والتوابيت، والأبواب الحديدية، والشروخ، والقصور، والوجوه المخيفة في الصور، والأبراج، والأساطير، والنقوش، والعواصف، والهلوسات، والطرق الريفية، والقبور، والأعاصير، والبحيرات المعتمة، والخنادق المائية، والضباب، والستائر السوداء، والسلالم الخشبية، والوساوس، والضلالات الجنونية، والكراهية، والهستيريا المخيفة، والغرور، والصناديق السرية، والغضب، والسراديب، والندم الوحشي، والبيوت المنهارة، والتسلط، والشبابيك المتهدمة، والارتباك، والعفن السائل، والأمراض المجهولة، والعظام المحطمة، والسُكر، والمفاتيح الملغزة، والتصعلك الحالم، والرعد، والأوهام، والأصوات المفزعة في العقل، والرياح الليلية، ودفاتر السحر، والبرق، والأصداء الحادة، والكائنات الخرافية، والأدخنة الكثيفة، وممرات الجحيم المتخمة بالنيران المسعورة”.

 ومن ثمّ تجعلهم عبيدًا لخيالك …

 ظللت طوال الطفولة مترصدًا لهم في شرفتي .. كل ما هو صدئ ومخرّب كنت أغزوه بحواسي، وأجتاحه ببصيرة كارتونية تمزج بين الاستفهام والفضول والشوق الجارف للهيمنة على الأسرار .. ما كنت أسميه لعبًا، وأصبح يعني بعد ذلك تدميرًا .. رأيت إدجار آلان بو يتنزه في ميت حدر من قبل أن أقرؤه.

كنت أفعل ذلك بنفس اللهفة والشغف اللذين كنت أتخيّل بهما ما سيصبح ذكرى مدوّنة حرفيًا في روايتي “إثر حادث أليم”:

“أتذكر أنني كنت أجلس ذات ليلة منكمشًا بسعادة فوق (الكوفرتة) التي تغطي (ماجدة) وهي جالسة على السرير، مستندة إلى المخدة، وتقرأ كتابًا .. قلت لها وأنا أفكر في مغامرات الليل البحرية لـ (بطوط) والأولاد الثلاثة وعم (دهب)، وكذلك في (جيم هوكنز) برواية (جزيرة الكنز) لـ (روبرت لويس ستيفنسون)، وفي حكاية (حسن البصري) من مسلسل (ألف ليلة وليلة)؛ قلت لها منتشيًا: (أنا دلوقت فوق جزيرة) .. نظرت إليّ مبتسمة، وداعبتني بالسؤال (يعني أنا دلوقت متغطية بالجزيرة؟) ثم عادت لاستكمال القراءة، وأنا أتخيّل السفينة، والعواصف، والأمواج العالية، والمخلوقات الخرافية، والخرائط، والمطاردات، والانتصارات المؤكدة”.

كانت تلك الشرفة هي منزل عزلتي أو مخبأي المعلن داخل بيت الأسرة، وبعد أن غادرتها، ما عاد يليق بـ “الريحان” و”اللبلاب” و”الجارونيا” زراعتهم في شرفة أخرى .. ما كان يُشكّل حديقتي الصغيرة التي ينكمش جسدي بين فروعها وأوراقها عصرًا بينما يُغلق باب الشرفة على الغائبين في قيلولتهم اليومية .. كانت تلك الشرفة تناظر غرفتي السرية داخل نفسي، التي لم تتوقف عن تذكيري بأني مسجون كلما شعرت بنشوة الوصول إلى ما توهمت أنها حافة حرية كاملة .. منذ أن كنت طفلًا وحتى الآن، ظلت هذه الغرفة السرية هي العائق الجوهري أمام أن أتظاهر بالحرية كالآخرين .. إما أن تكون كاتبًا أو تدعي أنك تستطيع فعل أي شيء كمغامر بكينونة إلهية .. أحيانًا تتحوّل إرادة الدمج بين الطبيعتين إلى هوس غريزي كما كان لدى همنجواي مثلًا، أو ما يُعرِّف الشكل النمطي للأسطورة الشخصية مثلما كتبت في “مكائد القص”:

“مجابهة الموت وترويضه وقبوله كجزء من دورة الحياة .. الصراع بين الخجل المرير الذي كان يشعر به إزاء انتحار أبيه، ومصافحة الموت بالاندفاع نحو أكثر احتمالاته قوة، والتوحد مع كابوس الإنهاء الحتمي للحياة بطريقة ما كآخر ما يمكن للأسطورة الشخصية أن تقدمه كدليل على الكرامة أمام حصانة الفناء”.

بتعبير آخر عدم السماح للعجز الذي اضطررت في النهاية للإقرار به عن امتلاك الكتابة والحرية المطلقة معُا بأن يكون الكلمة النهائية .. هذا ما برر لهمنجواي إطلاق النار على نفسه …

لكنني كنت أواجه نفسي والعالم دومًا بعدم حريتي .. بأن الحرية لا وجود لها .. تأملاتي الطفولية للحياة والموت كانت تكشف منذ البداية الحواجز الغيبية التي تحاصر نفسي .. القيود الاستباقية التي شيّدت غرفتي السرية داخل نفسي .. هذه المواجهة هي الكتابة كبصمة عصيان، تمنعك من التظاهر بالحرية، أي تحرمك من هذه المتعة البطولية الكاذبة .. كينونة إلهية مضادة، يتزايد إدراكك على مدار العمر بأنها لا توجد خارج الكلمات، وهو ما يضمن لغضبك في نفس الوقت أن يتصاعد، أن تتحوّل رغبتك في الانتقام إلى كفاح بأن تكتب “كل شيء” .. وما كتابة “كل شيء” إلا أسطورتك المناقضة لمفهوم الأسطورة الشخصية ذاته .. بندقيتك الخاصة التي تطلق بها النار على نفسك في كل لحظة.

22 سبتمبر 2024

عن "مكان جيد لسلحفاة محنطة"

كلما كنت أقرأ مجموعة قصصية، أسأل نفسي سؤالًا: هل يستطيع الكاتب، بكلمات قليلة ومكثفة وهو يصف الأحداث، أن يكتب الشخصيات بعمق يتخطى الوعي ويغوص في عمق اللاوعي ومتناقضات النفس البشرية؟

في مجموعته القصصية "مكان جيد لسلحفاة غير محنطة"، أجاب الكاتب على سؤالي بأنه نعم، ولكن هذه موهبة صعبة، ولذلك هذه المجموعة استثنائية بلا جدال. لوحات كبيرة مقسمة إلى تفاصيل مرئية وصوتية متناثرة الأجزاء وفى النهاية تحصل على أجمل لوحة مكتملة الأركان الفنية ،
يضع البذور وتحصدها أنت في النهاية، كما أنها مباغتة بالشكل الذي يجعل جملة أو كلمة في نهاية القصة تجعلك تقرأ القصة من جديد ببعد مختلف.
كل ما تراه من أفعال وكلمات ونبرة صوت من الناس وراءه أكوان أخرى وأفلاك، هل قررت يومًا إدراك ذلك؟
عناوين القصص معبرة جدًا عن كل قصة، حتى إنه في بعض الأوقات لو لم تقرأ العنوان، لن تفهم القصة.
حتى في عالم الكتابة، لم أعد أرى العالم كما كنت أراه بعد هذه المجموعة المحكمة بلا شاردة واحدة.
في المجموعات القصصية لبعض الكتاب، كنت أشعر بالإحباط، لأن الكاتب في بعض القصص يعبر عن نفسه بصدق، وفي قصص أخرى يستميل الجمهور فقط ولكن الكاتب هنا عبر عن نفسه بنفسه بصنعة احترافية .
هذه المجموعة القصصية هي أمتع حكايات لحكاية الرجل الذي كتب القصة القصيرة "ممدوح رزق".
محمود عبد الغني

الاثنين، 16 سبتمبر 2024

يوم آخر للقتل: ليالي شبح شهرزاد

استنادًا إلى يوم يأتي بعد يوم آخر يماثله، وإلى القتل، وإلى أسلوب الحكاية داخل الحكاية أو القصص التي تتشعب وتتداخل من قصة تبدو أساسية يبدأ بها السرد وينتهي عندها؛ ثمة راوية محتملة تتقمص دور شهرزاد في رواية "يوم آخر للقتل" للكاتبة هناء متولي والصادرة عن الدار المصرية اللبنانية؛ لكن أي شهريار تخاطبه؟

"أنات خفيضة وآسرة، لا تنقطع، تملك عقول نساء قرية كوم الديبة بأكملها، لا تفرق بين عجوز أو رضيعة، تسير في كل اتجاه، حتى كأنهن يرينها بقدر ما يسمعنها، وبالرغم من ذلك فالصوت لا يصل إلى آذان الرجال أبدًا، كأن موجاته تتكسر على حواف مسامعهم".

تخاطب شهرزاد الرجل الذي يدرك بشكل غير واع بأنه حُرم من أصل كامل ومحصن، وأنه بكفاحه الغريزي المستمر لتعويض هذا الحرمان (الفعل الدنيوي) قد ازداد ابتعادًا عن  ذلك الأصل المجهول أي تعمّق غيابه في بشريته. تخاطب الرجل الذي يتمرد دون استيعاب على قدره كإنسان، أي على النموذج المثالي الذي تجرّد منه، مجاهدًا بهذا التمرد أن يسترد ذلك الأصل أو ما حوّله الإنسان إلى مثال كوني مطلق يتم الخضوع له أو استرضاء ما يُعتقد أنها الإرادة الخفية لهذا النموذج، وليتبرأ بفعل الكبت من هذا التمرد بإحالته عفويًا إلى قوى غيبية مستقلة مثل "الشيطان" يُنسب لها العصيان أو الممارسات الفاسدة، خاصة تلك التي تتصل مباشرة بما يُسمى "الماورائيات". تخاطب شهرزاد الرجل الذي يحتمي بنصوص تمييزية اتخذت طبيعة السلطة الذكورية (التقاليد والأعراف والمحرمات) التي أنتجتها منذ القدم، وتوطدت سطوتها عبر الزمن.

"تنساب نساء القرية من أسرّتهن كالماء في لحظة واحدة، يصعدن إلى أسطح المنازل، بعد أن ارتدين ثيابًا سوداء، حاسرات الرؤوس، يصعدن إلى الأعلى حيث لا حجاب بينهن وبين السماء، يستنشقن هواءً لم يختلط بعد بأنفاس الرجال، يخرجنه زفيرًا غاضبًا، يمزقن جلاليبهن حتى تصير صدورهن حرة من دون خوف، ويبدأن في الصراخ والعويل الذي ينهش القلوب، ويُفزع كل الموجودات".

أصبح تمرد شهريار على الصفة الإنسانية والإرادة الضمنية لامتلاك الأصل الخيالي الغامض الذي يعجز أن يكونه، وباعتماده على الأسس النصية التي خطها التحيز الذكوري؛ أصبح هذا التمرد قائمًا على "قتل النساء". ماذا عن شهرزاد نفسها؟

"تقف أمام المرآة تتفحص عودها الفارع، وعينيها الخضراوين، وبشرتها الفاتحة المشرّبة بالحٌمرة، تحتضن جسدها، وتغمض عينيها وتدندن بلحن قديم، وتدور بالغرفة في رقصة حالمة، تتعثر وتسقط على الأرض، تقوم ببطء، تضع طرحة على رأسها وتنزل إلى بيت حمويها كأن شيئًا لم يكن".

تحاول المرأة في احتضانها الراقص لجسدها مثلما كانت تفعل أسما في المرآة أن تقاوم إخفاقها في امتلاك "شهرزاد الغيبية"، أو "الإشباع التام الذي لا يُخدش"، وأنها بهذه المقاومة تمعن في الانفصال عن جوهرها "الخارق" المفقود، أي يتمادى حضورها القهري كـ "امرأة" يترصدها التمرد الذكوري باعتبارها هدفًا سهلًا. تسعى شهرزاد المؤقتة والعابرة أن تقبض على شهرزاد "الخالدة" المتوارية في الخفاء الكوني، أي التي قرر النموذج الأبوي (صنيعة الرجل نفسه) أن يستحوذ عليها. ذلك ما يجعل هذه المجابهة الأنثوية تكتسب أحيانًا تلك الطبيعة الذكورية تماهيًأ مع السلطة التي تستعبدها.

"جلست سارة أمام مرآتها لساعات، أرادت أن تكون شهية كما السابق" ...

"تستدير يمينًا ويسارًا، وتدهن جسدها بزيت الزيتون حتى صارت لامعة تؤكل من دون جهد، ارتدت عباءة قانية تصفُ جسدها بانحناءاته وثنياته، يبدو خصرها نحيلًا بالرغم من ذلك، وبعنقها الطويل تحني رأسها".

يتخذ الأمر إذن هذه الصيغة: رجل يحاول تعويض "إعجازيته الغائبة" عبر جسد المرأة، ولكن استمتاعه بهذا الجسد يرسخ افتقار الرجل لذلك الأصل الإعجازي، كلما حاصر هذا الجسد وقمعه كلما أيقن أن سلطته الذكورية زائفة، غير مطلقة، ومن ثمّ يتعيّن عليه مواصلة الانتقام من هذا الجسد حتى يستعيد نموذجه الخيالي. على جانب آخر تحاول المرأة تعويض "شهرزادها المتعالية" بأن تكون شهية من غير تنكيل بحريتها، كما أرادت سارة في المرآة أيضًا "تؤكل من دون جهد"، ولكن جسدها يوقن أنه لن يمنح المتعة الأبدية، ومن ثمّ يتعيّن عليها الثأر من شهوة الرجل الذي دمغ جسدها بالشر وقدمها قربانًا لخلاصه المستحيل، حتى تسترد ذلك الجسد المقصي (تمنحه لها المرآة) الذي يُشبِع دون نقصان.

"عندما وصلت إلى هذه النقطة شعرت بالانتصار، فقد بدا الخوف واضحًا على يحيى وعرفت بعد ذلك بتهربه من إنجي وبُعده عنها، فالجبن صفة ذكورية بامتياز، لكن في بعض الأحيان كان يساورها القلق بأن هذا الهدوء هو الفخ الذي يسبق العاصفة، وأن مصير إنجي يتطابق مع مصيرها؛ علاقة معقدة ومرفوضة، متعة في الجنس والهروب، ظلام وندم لا يساوي شيئًا في النهاية كأنه الموت من دون دفن".

لا تروي حكاية كل امرأة نفسها وحسب، ولكنها تروي أيضًا الحكايات الأخرى، بحيث تتحوّل كل "غائبة" إلى "متكلمة" في عمق الرواية، وكأن لكل صوت أنثوي نبراته السردية المتعددة واللانهائية "أنات ليلية خفيضة وأسرة". ليس صوت سارة وأمها وخالتها وإنجي وأسما وسمية ومنى وظريفة ومسعودة وفاطمة وسناء فقط، وإنما صوت كل جثة لا تزال محتفظة بأنفاسها "الموت من دون دفن" أو التي فقدتها. صوت يتقمص ضمنًا دور شهرزاد التي تصوغ الحكايات وتنظمها. الحكي الذي يتجاوز المعطيات الواقعية المباشرة ليفتت بالصمت الرابض في طياته "الحقيقة" التي فرضتها مشيئة الرجل عنها. الصمت الذي يتحوّل إلى صراخ وعويل بثياب الحداد الممزقة فوق أسطح المنازل "بينما الرجال يغطون في نوم ثقيل". يتسلل ما تم إخراسه عبر لغة الحكاية لكي يهدم البناء البلاغي للسلطة التي تستعمل المرأة في إثبات بداهتها، مروياتها الراسخة وإحالاتها، يعطّل مدلولها الذي يبقي الألم الأنثوي ملكية خاصة للرجل.

"ما يميز تلك الأسطورة أن بطلتها امرأة حقيقية، لديها أطفال وعائلة، لكن لا يعرف ذلك إلا الكبار فقط، فالصغار يكبرون على مهابتها، وعندما يكبرون ويعرفون قصتها؛ لا يقصون لصغارهم إلا الأسطورة المعتادة، ليورثوهم رعبًا قديمًا مترسبًا داخلهم ولا يتلاشى".

كأن الحكاية لا تُسرد فعليًا وإنما تناوش الاحتمالات والفرضيات الكاشفة والمنقذة (العقابية) الكامنة في ما ترويه المرأة مستعيرة صوت شهرزاد / الراوية التي تسرّب وقائع القهر والاغتيال بعيدًا عن التفسيرات النمطية المستقرة في التأويل الذكوري، وكأن شهرزاد لا تؤجل قتلها وحدها وإنما تؤجل قتل الأخريات اللاتي ينتظرن مصيرهن المشابه. لكن شهرزاد قُتلت بالفعل في اللحظة التي استُخدم فيها ضمير الغائب المهيمن على الوجود بصيغة المذكر، مثلما تُقتل مجددًا في كل يوم آخر، وما صوتها الذي يحكي القتل المتوارث للنساء إلا همسات طيف يراوغ المعرفة التي راكمها "شهريار" بوصفها "مرجعًا كليًا" للحياة والموت. شهرزاد لا تخاطب شهريار الذي "تتكسر موجات صوتها على حواف مسامعه"، ولكنها تخاطب اللعنة التي جعلته ذليلًا لملكوته المتوهم.

"هل يجعل ضحاياه من النساء قرابين لأعوانه وللسحرة؟ ولماذا يطبع عليهن وشم الفضيحة واللعنة بالغرق؟ هل يقتلهن ليخفي معهن جرائمه؟ هل يقدمهن رشوة للمسئولين الفسدة الذين يتسترون على أفعاله؟ أم هل هناك لعنة حقيقية تصيب النساء فقط في قريتها وتوكّل وعصابته يستغلون اللعنة فقط لمصلحتهم؟ توقف عقلها من زحام الأسئلة وفراغ الإجابات، ورأت ألا تجهد نفسها في معرفة الأسباب، لا فارق إن كان يستخدمهن في السحر أو الدعارة أو خلافه، الحقيقة الوحيدة أنهن غريقات لطمعه، وأن الترعة صارت مقبرة جماعية لنساء القرية والغريبات عنها، طمي القاع اختلط بالعظام ونبتت بوسطها شجرة اللعنة التي تطرح سمومًا وغيمًا يحجب الحقيقة، وتطرح أيضًا الصراخ والقهر في كل مساء".

كيف يمكن للكاتب أن يضمّن روايته "معلومات" بحثية أو استقصائية يعتبرها ضرورية ـ العالم المأساوي للفتيات والنساء الريفيات مثلًا ـ من دون أن يتحوّل عرضها إلى ما يشبه مقالًا صحفيًا أو تقريرًا مؤسسيًا؟ .. تكمن الإجابة ببساطة في ثلاث خطوات: الأولى هي توزيع المعلومات على مناطق متفرقة من السرد، بمعنى ألا يتم تضمنيها كفقرة واحدة داخل الرواية سواء على لسان إحدى الشخصيات أو كمحتوى ذهني لها في لحظة معينة. الثانية أن يكون هذا العرض ضمن مونولوج داخلي لشخصية أو أكثر، بمعنى أن يكون جزءً جوهريًا من تفكير واستفهام وحوار الشخصية مع نفسها أي من وعيها وتجربتها داخل حركة السرد ذاته. الخطوة الثالثة هي أن يكون العرض متلازمًا ومرتبطًا بملاحظات مشهدية، انتباه إلى متعيّن، تأمل ومجادلة لمنظر تشكله أفعال لافتة، أو مفارقات تحوّله إلى دراما.

الأمر الآخر: هل تحتاج كتابة الحوار بالعامية أي بما يتسق ويكشف طبيعة المتكلمين في رواية شخصياتها من الريفيين؛ هل تحتاج إلى شجاعة؟ .. ما يبرر الفصحى في الحوار عند كتابة رواية كهذه هو الإخبار بحديث الشخصية أي النقل عنها بلغة الراوي أو الراوية، لا أن يكون الكلام على لسان الشخصية مباشرة. إنه الفرق على سبيل المثال بين: "ربما أدين لكِ باعتذار من الماضي .. كنا لا نزال مراهقات بعقول أطفال" وبين الكتابة بهذه الطريقة: "أخبرتها بأنها ربما تدين لها باعتذار من الماضي، وأنهما كانتا لا تزالا مراهقتين بعقلي أطفال".   

"وبعد يومين، وجدوها تسير في شوارع القرية حتى توجهت إلى الترعة ثانية، كان وجهها أشد غلظة، وأكثر غرابة، وظل الناس يتناقلون علاقتها بالجان، ولابد أنه من عاونها على الهرب، وتزايدت القصص والخرافات حولها، البعض يقسم أنه رآها تطير في الليل فوق الترعة بصحبة الغوازي اليهوديات، والبعض يقول إنها تتحدث إلى مارد يعشقها يجعلها بالصباح مجنونة ويعيد إليها عقلها في المساء ليأنس بها، والبعض يدعي أنها قتلت إنجي من أجل الجان وتريد أن تدفع عنها التهمة بادعاء الجنون، حتى إن مسعودة قالت عنها إنها ساحرة".

استعملت سارة قتلها في اجتياح "الحكمة" المترفعة التي تتوارى جثث النساء في أسطوريتها. تحوّلت إلى ما أراد قاتلوها أن يكون صورتها النهائية: جسرًا غيبيًا يعبرونه نحو النجاة. لكنها لم تكن مجرد قربان انتقامي، وإنما خلقت من دمائها أسطورة مناقضة، تجسيدًا نقيًا لشبح شهرزاد التي ظلت مرجأة، "امرأة مجنونة تطير في الليل" وتستخدم أرواح الغريقات في "قتل الحكمة".

أخبار الأدب

2 سبتمبر 2024