الاثنين، 8 مايو 2017

الإنسان المؤجّل

ماذا لو تم تجسيد النقصان في العلامات غير الوافية، أو تحت المحو بتعبير (دريدا)؟. هل من الممكن أن تتحوّل الآثار ذات الحضور المتصدع إلى أجسام بشرية؟. ماذا لو تمثل إرجاء المعنى في ذات إنسانية من الدوال المتغيرة؟. تحاول قصة (الخروج دون حفظ) لـ (روث نستفولد) اختبار هذه الاستفهامات في إطار لا يبدو (خياليًا) جدًا بقدر ما هو مستند إلى (علم) قد يكون (مستقبليًا) حقًا. تمتلك اللحظة الراهنة أو (الثقب الزمني من اللاتاريخ) وفرة من البراهين التكنولوجية فضلا عن دوافع الخلخلة والانتهاك البنيوي ما قد يقلص الغرابة التنبؤية في هذه القصة التي ترجمتها (أميرة علي عبد الصادق) وصدرت عن مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، وهو الشعور الذي قام أدب الخيال العلمي على استهدافه. هذا الخفوت المحتمل للإحساس بالتصور الإعجازي لا يتعلق بـ (الخروج دون حفظ) فحسب، وإنما يستدعي أيضًا شكلا آخر من الانتباه نحو (الخيال) و(العلم) في ضوء التأثير الفلسفي لما بعد الحداثة. إذا كان من الممكن ـ على الأقل ـ التقاط (سيلفي) مع الموتى، والتحدث معهم، وبعث الرسائل الإلكترونية بعد الموت فإن هذا ربما يكون جديرًا ـ على الأقل أيضًا ـ باتخاذ سلوك عدائي تجاه ثنائية (الواقع والخيال)، وتخريب الأصول الميتافيزيقية لهذا التعارض، فضلا عن المراهنة على المغامرات التقويضية (توترات وتناقضات الفكر)، إنزياحًا عن (المعرفة الاستشرافية) كمركز تقليدي. إن ما يمكن أن تثبته قصة (الخروج دون حفظ) ـ إضافة لكل شيء ـ أن قلق الرؤية السردية ـ بالإلتفات المتواصل إلى ماضي الخيال العلمي ومع ما صارت إليه التقنيات الحديثة ـ بقدر ما أصبح هذا القلق أكثر استحقاقا للانشغال الآن، بقدر ما يعطي وعدًا بالاستجابة لأحلام الطبيعة العجائبية لـ (العلم) في المتن القصصي، وهو ما يمثل إعادة كتابة لتاريخ أدب الخيال العلمي.
بمساعدة صديقتها (لورين) فنية المختبر بشركة (سوفتيك) تستخدم (مالوري) وحدة التحكم الشكلي في تغيير مظهرها، الذي يفضي ـ بحسب ما تقصد ـ إلى التحرر من ذاتها وهويتها، والفرار إلى الشكل الذي تبغيه لتصير أي شخصية تريدها. كأنها تجسّد صيرورة الأدب عند (جيل دولوز) باعتبار الذات (كتابة) تقع في جهة اللاشكل أو عدم الاكتمال؛ فالكتابة (قضية صيرورة، هي دائمًا غير مكتملة، دائمًا بصدد التكوّن، وهي تتجاوز كل محتوى معيش ومُعانى، إنها حركة، أي معبر حياة يخترق المَعيش والمُعانى) "1". كأن (مالوري) تمثّل التناص باعتبار هويتها نصًا يقع ـ بحسب فرضية (باختين) ـ عند ملتقى مجموعة من  النصوص الأخرى؛ يعيد قراءتها ويؤكدها ويكثفها ويحولها ويعمقها في نفس الوقت.
تتحوّل (مالوري) من أنثى فشلت في علاقاتها العاطفية، إلى رجل لا يسعى وراء هذه العلاقات. تأخذ شكل أخيها (دان) الذي انفصل عن الأسرة ليعيش في الضواحي، وأكنّت له الحب ثم الحسد ثم الكراهية، وكان سببًا في تغيير (مالوري) لإسمها كي تقطع آخر رابط بوالديها اللذين أحبا أخيها أكثر منها. كانت تحتفظ بمشاعرها الأنثوية مقترنة بأحاسيس الرجل الذي صارت إليه، وهو ما يذكرنا بـ (إعادة خلق الأبوة الرمزية) عند (جوليا كريستيفا) أي مقاومة (الذات / اتحاد الذكوري والأنثوي) لاضطهاد المتعة والإبداع الأنثوي داخل الجسد الموحد، وهي الفكرة التي ستدعمها محاولة (إيثان) صديق (مالوري) الذي قطعت علاقتها به لمنعها من (التحوّل الشكلي)، كأنه يسعى بحسب تحليل (كريستيفا) لاحتجازها بحجة (حماية العري الأنثوي المقدس) خوفًا من أن تكون (ذاتًا) "2". تدفع هذه المتعة المزدوجة (مالوري) إلى التفكير في حماقة شركة (سوفتيك) التي تُبقي تقنية التحوّل الشكلي سرًا دون أن تسعى لتحسينها بغية الترفيه، وليس التجسس الصناعي. كانت (مالوري) ترغب في الحصول على كل شيء، أي الاستعادة والسيطرة على الآخرين / تبديد حضورهم العدائي باكتشافهم وتعديلهم في طريق لانهائي من إعادة الإنتاج والتداول. كأن جسدها مكوّن من بصمات تخييلية نهمة لأجساد (كتابات) أخرى دائمة البحث عن الإشباع في جسد آخر (حصيلة مغايرة من البصمات التخييلية لأجساد "كتابات" أخرى)، فتُخلق طوال الوقت ذوات / نصوص مؤقتة، طارئة، ممرات تدمج بين الحيوات المتحولة. المظهر الجسدي يعادل النظام الخارجي للنص أو قناع الصيرورة، النسق الشكلي من العلامات والآثار والدوال المتغيرة التي تُمحى وتتصدع وتُرجئ المدلول / الذات المستقرة المتعالية.
كمقاربة مجازية لهذا التصور يمكننا التفكير في أن هذه التجسيدات لا تتم نحو الخارج، بل تتمثل التحولات الهروبية نحو الذاكرة المحصنة بداخل (مالوري) على نحو أساسي، وأن الانتقالات الذاتية، وتبدلات الهوية والاندماجات المتغيرة وإن كانت تتمظهر في (واقع) من الخصائص المتعينة فإنها شكل للتأثيرات الأعمق الناجمة عن الصيرورة التي تتم داخل الجسد (أي داخل أجساد الآخرين بالضرورة)، حركة الاختراق للذوات / النصوص التي تنطوي عليها الذات بحثًا عن نقطة البدء للتاريخ الجمعي، أو النص الكلي / مكمن المطلق الذي تنتهي إليه كافة العلامات. كأن (مالوري) تخاطب نفسها ـ ككتابة ـ بواسطة التماهي أو التقمص العرضي لصور الآخرين / كتاباتهم التي تسكنها مثلما فعل (رولان بارت) في كتابه (بارت بقلم بارت): (لكنني لا أشبه أبدًا هذا! كيف تعرفون ذلك؟ ماذا تعني هذه الـ "أنتم" التي تشبهكم أو لا تشبهكم؟ أين ندرك ذلك؟ بأي معيار مورفولوجي أو تعبيري؟ أين جسمكم من الحقيقة؟ أنتم (الوحيد) الذي لا يستطيع رؤيتكم إلا في صورة، لن ترون أعينكم أبدًا، إلا خاملة عبر النظرة التي تلقونها على المرآة أو الهدف، (فقط سيهمني أن أرى عينيّ عندما تنظرانك): كذلك وبشكل خاص لجسمكم، أنتم محكومون بالتخيل) "3".
بعد مهمة تحوّل شكلي في مجمع (هايبرسيستمز)، سكنت خلالها جسم (توم رايخ) أحد عملاء هذه الشركة، لتصل إلى معلومات سرية عن تصميم (هايبرسيستمز) نوع من تكنولوجيا التحكم عن بُعد التي تتيح للعملاء التحكم في روبوتات الأندرويد كبديل قادم عن البشريين الذين يصعب التنبؤ بتصرفاتهم، وهو ما سيؤدي للقضاء التام على وحدات التحكم الشكلي؛ بعد هذه المهمة التي أدركت (مالوري) خلالها أن شركة (سوفتيك) ستضع نهاية للتحوّل الشكلي باستخدام المعلومات التي جمعتها من شركة (هايبرسيستمز) قررت إيقاف وظيفة التسجيل وعدم حفظ المعلومات التي يمكن أن تستفيد بها شركة (سوفتيك)، والهروب بوحدة التحكم الشكلي داخل سيارة ستتبعها صديقتها (سو) للحاق بها قبل أن تصطدم بأحد الأشجار، وتفقد (مالوري) القدرة على التحكم في وحدة التحكم الشكلي مع سماع أصوات واسترجاع ذكريات الآخرين لتنفلت ذاتها بعيدًا. كأنها المواجهة بين (التفكيك / التحوّل الشكلي) و(الميتافيزيقا / التحكم في روبوتات الأندرويد) .. (إرجاء المدلول / الهروب بوحدة التحكم الشكلي) و(السيطرة على المعنى/ ضمان التنبؤ بتصرفات العملاء) .. (العدم / انفلات الذات) و(سلطة الحقيقة / القبض على الأصوات والذكريات) .. كأن (مالوري) هي الإنسان المؤجل الذي يدفع وحده ثمن غريزة لا تتعطل لنفي اللاهوت.
مجلة (عالم الكتاب) ـ إبريل 2017
1ـ الأدب والحياة / جيل دولوز، ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي ـ ثقافات 19 ديسمبر 2016.
2ـ الشبقية بين الجسد والمعنى / جوليا كريستيفا، ترجمة: فؤاد أعراب ـ مدونة جورج باتاي 10 أكتوبر 2015.
3ـ بارت بقلم بارت / رولان بارت، ترجمة: لطفي السيد ـ (قيد النشر) عن الهيئة المصرية للكتاب، نُشرت مقتطفات منه في مدونة جورج باتاي 5 إبريل 2016.