السبت، 6 مايو 2017

سيرة سيد الباشا‮:‬مزحة البحر

كان يمكن لأحمد الفخراني أن يختار إحدي قصص والت ديزني  ولتكن الجميلة والوحش أو الأسد الملك مثلا ـ ليعيد إليها الوحشية والصفات الأصلية للقصص الشعبية التي تعبّر عن غرائز الإنسان التي تم نزعها، أو أن يخلق حكاية جديدة، تحمل روحًا خيالية مشابهة لعالم ديزني، ليكشف من خلالها عن كيفية تحويل هذه الحكايات إلي قصص لطيفة، منزوعة الأنياب، تنشر الطاعة، ومن ثم يعطي لهذه الحكاية وضعية أشمل .. اختار أحمد الفخراني في روايته (سيرة سيد باشا) الصادرة حديثًا عن دار الياسمين الطريق الثاني، أي أن يخلق حكاية أخري مبنية علي الغرابة نفسها، ولكن هذا الكشف المشار إليه لا يتم في سياق التحديد الحاسم لآليات معينة، وإنما ينتمي إلي نطاق تهكمي واسع من التشابكات والاحتمالات غير المستقرة .. دراما هازئة، مشغولة بالبحث والتتبع والمكائد والمصادفات والانعطافات والتحولات الهزلية والمجابهات المتعددة كأنها تنوي الإفصاح عن يقين ما بشكل تدريجي لكنها في الواقع تعمل علي انتهاكه .. الرحلة في بُعدها الساخر وليس الوصول .. كأنه السرد المضاد لمشروع والت ديزني وقد قرر اللعب بنفس أوراقه .. لهذا فالرواية هي حيلة كبيرة متعددة الفخاخ لاصطياد الثقة .. لا تشعر باللذة داخل الألم فحسب بل تراها أمام عينيك كمتاهات مكرّسة للعب أولا وأخيرًا .. قوانين الفرز، وأحكام التصنيف، وتشييد التراتبيات المنمقة، وقد صارت استعمالات شبقية للتأمل والافتراض والضحك.
(والت ديزني، المشاء الأعظم. مثل سيد الأعلي، تحقيق نسبة من مجده هو طموح سيد النهائي. الرجل الذي أسس عالمًا دون موهبة سوي اصطياد المواهب. ميديوكر أصلي. رغم ذلك نجح في تخطي كل شيء، والسيطرة علي العالم بضبط إيقاعه عبر الشخصيات التي أنتجتها مؤسسته. وعندما مات ظاهريًا أمام العامة نجح في السيطرة علي هذا الكيان العظيم، الذي ينتمي إليه سيد كورقة في شجرة وارفة: مديرًا لهيئة الأمن القومي للكوكب).
إذا كانت الرواية في صفحاتها الأولي تؤسس لما يشبه صيغة شكلية للفروق بين المشائين وغرباء الأطوار،والتي يمكن أن تعطي انطباعًا قويًا بأنها تسعي طوال الوقت لتعيين نفسها كقواعد بطريقة أو بأخري إلا أن هذه الصيغة تتقدم نحو تفكيك نفسها .. هذا ما قد يجعلنا ننظر إلي المشائين كأنهم يمثلون الشكل الرسمي لغرابة الأطوار أكثر من أي شيء آخر .. إن أي ميديوكر، مؤسس لنمط سواء كان زعيمًا أو فنانًا أو صحفيًا، يستطيع في أي لحظة أن يباغت العالم بالكشف عن جذور غرابة الأطوار في طبيعته .. يمكن لأي خالق للحقيقة التي تحجب الحقيقة، والمعرفة التي تمنع المعرفة أن يظهر ما يدل علي أن قيامه بهذا القمع هو إثبات صريح ومباشر لغرابة أطواره .. أنه يمتلك أصولا جوهرية لهذا (التنميط) مكوّنة من هذه الغرابة .. ربما ما يجدر مقاربته كعنصر رئيسي في الرواية هو الإبتعاد الذي تنتصر له في النهاية عن تقرير تعريف قاطع لغرابة الأطوار .. هو انتصار ربما للاختلاف بين غريب أطوار وآخر .. بين غرباء في قمة السلطة، وآخرين في أطرافها القصوي مثلا .. يجب أن يكون الطابع الغرائبي للرواية ـ لو اضطررنا مؤقتا لاستخدام التصنيف ـ أن يكون دافعنا لتفادي الخطوط التي تريد أي معرفة أن تضعها تحت حقيقة ما، كأن نتعامل مع كل فكرة ونقيضها عن (شمس المعارف) علي سبيل المثال بوصفها دعابة لا بأس لو تم تصديقها مؤقتًا بعين مفتوحة كي نستمتع، أو لنساير(التطور الدرامي) بشكل خاص.
(كانت خدعتهم: هي ادعاء أن هناك نسخة ممنوعة عن كتاب مخيف يتحدث عن السحر وتسخير الجن لرغبات الإنسان بنفس الاسم، لإلهاء الناس عن البحث عن الكتاب الأصلي. سيجعلون الحصول علي النسخة المزيفة صعبًا بمنعه من المكتبات العامة، وسهلا في نفس الوقت).
هناك ملاحظة أساسية بالنسبة لي في (سيرة سيد باشا) وهي أن غرابة الأطوار غالبًا ما يكون لها علاقة بالوفرة: وفرة الكلام .. وفرة أعواد الثقاب .. وفرة الأعضاء الجنسية المأكولة .. ما الذي يمكن أن يشير إليه هذا؟ .. إنه يقودنا إلي أكثر من اتجاه في آن واحد .. السيولة العدائية للتاريخ التي تُغرق غرباء الأطوار غير الرسميين، وتمحو وجودهم وآثارهم، أو تجعلهم (متجرّئين علي الخلود) .. الفيض المظلم لما وراء التاريخ، أي الموطن اللانهائي لدوافعه .. الطمس والضياع داخل المشابهة العنيفة للحشود الغريبة التي تتعاقب علي مدار الزمن، وقتل أي محاولة لبناء حياة خارج هذا التماثل .. لنفكر في هذه الوفرة ونحن نتأمل مشهد سكب البحر في فناجين وجرادل بلاستيك بين مجدي وهبة ويارا .. البحر حيث السيولة والفيض والابتلاع .. التفادي المستحيل للموت عبر احتواء العالم في حيواتنا الصغيرة .. فرصة الحياة المعدومة بمحاولة استيعاب القدر داخل ضآلة أجسادنا .. الفناء الذي يجبرنا علي التأكد من أنه لا فكاك من البحر.
(قالت يارات لوهبة: متي تتوقع انتهاء العمل؟
نظر لها معاتبا: لو توقفنا عن السؤال، واستمر الإخلاص.
واصلا سكب البحر في فناجين وجرادل بلاستيك. لم يلتفت لعينيها الواقعتين في الغرام.
عندما رأت ذلك المجذوب، يحاول أن يفرغ البحر عبر فنجان صغير، عرفته رغم كل الحجب: الكرش، الزبيبة، الجلباب، اللحية الكثيفة. إنه فتي أحلامها، وهبة الوسيم، الذي تخلل السينما بمشاهد لم يكن بطلها. مات قبل أن يعرف رأسه الشيب وتدرك حيويته الترهل. من امتلك القوة للخروج علي القانون، والضعف ليشيد بأهميته.
كانت يارا في إجازة للاستشفاء من إعياء مقيم بسبب حبيبها السابق حامد، الذي عاش حياته يقتات علي الحديث عن صناعة فيلم وثائقي عن حياة مجدي وهبة ورغبته في الموت صغيرا ولو بالسرطان. فزرع فيها كابوس رغبتها في القتل دون أن تكشف. وهو ما أقره وهبة: زمن يرغب مخلصا في القتل، فعليه أن يكون مدربا علي إخفاء الأثر.
رغم أن وهبة كان قليل الكلام فإنه كان أكثر حنوا عليها من حبيبها السابق، وإن لم يكن أقل صرامة. لم يعترض عندما حاولت مساعدته في سكب البحر في فناجين قهوة. بل ربت علي كتفها مشجعا عندما اشترت جرادل بلاستيك من التي يلهو بها الأطفال علي البحر).
تمثل يوليا الحياة كما ينبغي أن تكون مؤلفة من بصمات غرباء الأطوار الذين لا يجيدون أي شيء .. خساراتهم، وأسرارهم، ولكنها ايضًا ـ أو نتيجة لذلك ـ هي الحياة المبهمة التي لم تكن، ولهذا فهي القادرة دائمًا علي التهديد، والخيانة، والعقاب .. الواقع والكابوس والحلم في نفس الوقت .. الكتاب الإلهي وقد صنع بأوهام كل (دراما) بشرية كان يتعين عليها أن تسترسل لبلوغ الأبدية، أو النكتة التي تمثلها فكرة الأبدية .. هي تشتمل أيضًا علي ما هو أبعد من الذوات الإنسانية، وأقصد هنا الأشياء الصغيرة الهامشية المهملة (غير التافهة) المتطايرة في الشوارع والحجرات وفيما بين السماء والأرض ولا تعد ظلالا لغرباء الأطوار فحسب، وإنما آثار مستقلة لنفسها أيضًا .. إنها الجنة والغابة معًا.
(لم تك شيئًا. كانت فراغًا صنعه مَني الرجال. كل رجل تمثلته وأسال منيه عليها صنع ما هي عليه الآن. ستة رجال محددين علي الأقل، وعابرون بلا عدد لم نتمكن من تسميتهم، سنطلق عليهم طوب الأرض .. من هؤلاء خلقت يوليا، التي كافحت كثيرًا لاستبدال حقيقتها كصورة بلا معني، هواء يتمثل ما حوله .. لقد صنعت صنعًا من هذه المضاجعات).
إن أيا منا لو أراد أن يكتب سيرته فلن تكون سوي أوراق تتوالد ذاتيًا ـ هل نسينا الوفرة؟ ـ مدوّن فيها (لا فكاك من البحر) فقط، كما ستكون هناك (يارا) ما تعيد مؤقتا قضيب صاحب السيرة إليه بعد أن توسل كدجاجة لا كسيد عظيم، فضلا بالتأكيد عن بعض الفناجين والجرادل البلاستيك الفارغة، حيث الخلود ليس إلا وفرة تلتهم نفسها ببطء.
جريدة (أخبار الأدب) ـ5/6/2017