الخميس، 4 مايو 2017

أشكال الأبوة المطلقة في قصص إرنست همنجواي

ما يمكن أن يكون محفزاً للتفكير في قصة (قطة في المطر) لإرنست همنجواي أكثر من استخدام القطة التي تحاول حماية نفسها من المطر كمعادل رمزي للمرأة التي تفتقد الشغف في حياتها هو السمات التي أعطاها همنجواي إلى مالك الفندق. ربما لن نصادف معاناة في التعامل مع القطة التي تواجه المطر كتجسيد لروح المرأة التي تعذبها لامبالاة زوجها، ورغبتها في الحصول على تغييرات مؤثرة تنقذ عالمها من الضجر. قد يكون الحرمان من الأطفال سبباً أساسياً لهذه الأزمة، وهو احتمال غير مستبعد يدعم دلالته بقوة وصف المرأة لاحتياجها إلى القطة: (أريد أن يكون لدي قطة صغيرة كي تجلس على حجري وتقرقر عندما أمسح بيدي عليها). لكن التفحص المتمهل لتفاصيل مدير الفندق التي أحبتها الزوجة سيقودنا إلى نطاق ذهني أكثر توتراً من هذا الترميز البسيط؛ فمالك الفندق كان: (متقدماً في السن .. طويلاً جداً .. ذا وجه ثقيل ويدين كبيرتين .. جاداً .. وقوراً .. مستعداً لإسداء الخدمات). لماذا لا نتأمل أيضاً هذه العبارات التي صاغها همنجواي لتشكيل علاقة المرأة بهذه السمات: (أحبت طريقته الجادة في تلقي أي شكوى)، (أحبت طريقة إحساسه بمنصبه كمدير للفندق)، (أحبت وجهه العجوز الثقيل ويديه الكبيرتين) ثم (بهذا الشعور تجاه مدير الفندق فتحت الباب ونظرت إلى الخارج). إن الرجل بهذه التفاصيل وبهذا السلوك لا يمثل مجرد موقعه الوظيفي كمالك لفندق أو حتى طبيعته الإنسانية كشخص مهذب، مراع للآخرين وحسب، بل إنه يمثل تحققاً أبوياً يتجاوز الحضور الأبوي التقليدي إلى فكرة الأبوة المطلقة، القدرية، العارفة بالأسرار، المستجيبة، المانحة بيديها الكبيرتين. يصوّر الأبوة المخلّصة، التي نتوقع دائماً أن نعثر على عطاياها المنقذة حينما نفتح بابًا ما وننظر إلى الخارج. كان الرجل مالكاً ومديراً لشيء أكبر من فندق توقف فيه زوجان أمريكيان، وكانت في أبوته عمقاً ذكورياً غامضاً ربما جعل من تدخّله في اللحظة المناسبة لتصحيح خطأ ما انتزاعاً شبقياً للمرأة نحو تحرر شهواني، عابر، ما ورائي كخيال أو حلم لا يتصل بواقع محكوم أو حقيقة يمكن التأكد من وجودها.
شكل آخر للأبوة المطلقة في قصة (تلال كالفيلة البيضاء) يتمثل في (التعتيم) على (الطريقة التي حدث بها الأمر)، أي البُعد الموضوعي، والملزم للقالب المسرحي عند فرانك أوكونور الذي أشار إليه في كتاب (الصوت المنفرد). هذا التعتيم ربما يرجع إلى حرص جوهري لدى همنجواي على تثبيت حقيقة ضمنية وهي أن (الإجهاض) ليس القضية المركزية بدليل أن الكلمة نفسها أي (الإجهاض) لم تُذكر خلال القصة. القضية المركزية قد تكون النزاع الوجودي بين شخصيات مغلقة على جحيمها الخاص ـ رغم الجسور المحتملة ـ والتي ترضخ لاعتقادها بانفصال الآخر عن هذا الجحيم، خاصة حينما يتعلق الأمر بالصراع بين الرجل والمرأة. إن توتر الحوار في القصة، والذي اتخذت هيمنة التكرار به أحياناً طبيعة تقارب الهذيان ـ محادثة الشاربين، أو مدمني المخدرات بتعبير فرانك أوكونور ـ هو تجسيد اللغة لعنف هذا النزاع، الأثر البلاغي الناجم عن اشتباك مراوغ، يتعمّد إخفاء أفكاره وانفعالاته أكثر من كشفها. يبدو التعتيم المقصود هنا كأنه محاولة سردية لاكتساب نفس الغموض الأبوي للقدر الذي يسيطر على الحدث.
نفس الأمر نجده مرتبطًا كذلك بالتخلي في قصة (رجل عجوز على الجسر). أراد همنجواي باستعمال الإنصات المحايد أن يمتلك هذا الوجود الأبوي المعادل للأبوة الغيبية التي تدفع البشر بواسطة الحرب إلى هجر حيواتهم. أن تكون هذه وسيلته للتوحد بمأساة العجوز. أراد أيضاً لكل واحد منا أن يكون كذلك. أن ترى حياتك الهامشية المنعزلة من وراء النظارة الطبية ذات الإطار الحديدي التي يرتديها الرجل العجوز، وأن تستعيد كافة ما أُجبرت على التخلي عنه ـ ربما بمعاونة من العزاء الناجم عن التشارك في الحسرة ـ مثلما فعل الراوي في القصة وهو يستمع للعجوز دون أدنى كشف، بل وربما بتعمّد للإخفاء وراء ستار مقصود من اللامبالاة. همنجواي لن يدفع السارد للإفصاح عن هذا التوحد مع العجوز، بل سيجعله ـ بمنتهى البساطة الخبيثة ـ يُفكر في أن حقيقة كون القطط تستطيع العناية بنفسها، هي كل ما تبقى عند الرجل من حظ حسن. الراوي الذي يسترجع في هذه اللحظة قطته التي تشبه كل القطط التي تحمل أرواحنا، ونفقدها دون مبرر في حروب لا تخصنا، وسيأتي وقت لن تستطيع فيه أن تعتني بنفسها.
جريدة (القصة) ـ العدد السابع / مايو 2017