الثلاثاء، 23 مايو 2017

النظر إلى المسيح

ها أنا أكتب عنكِ مرة أخرى، وهذا ما يجعلني مترددًا في استخدام نفس المعرفة التي تعوّدت أن أُشكّلك من خلالها في كل قصة، رغم أنني أدرك جيدًا أن البحث عن بدائل لها ليس أكثر من مضيعة للوقت .. هل تتصورين؛ فكّرت أن أطلب من القارئ أن يعود إلى قصصي السابقة التي كتبتها عنكِ للتعرّف على هويتك التي لم تتغير، تفاديًا للتكرار .. مر هذا الخاطر في ذهني أولا كدعابة ثم تحوّل بالتدريج، وبلذة من سحر الاكتشاف إلى فكرة جادة، بل وإلى أكثر الحلول نباهة وحسمًا لهذا المأزق البسيط .. على هذا يمكنك ـ عزيزي القارئ ـ الرجوع إلى قصص (شعيرات بيضاء)، (اللعب بالفقاعات)، (قتل فرويد)، (القيمة الروحية)، (الحجرة التي بجوار سليمان الصايغ)، (Xvideos)، إذا ما أردت أن تلمس وجه المرأة التي أخاطبها الآن .. ربما عليك أن تفكر أيضًا في أن هذا ليس إلا حجة خبيثة كي أحرّضك على العودة إلى هذه القصص.
هل تتذكرين ليلة أن علّقت لوحة صلب المسيح فوق حائط الصالون؟ .. ناديتِ أمكِ كي تشاركك إشباع حاجتك للثأر بالصراخ في وجهي بعد ارتكابي هذا الإثم البشع الذي انتهك قداسة بيت مسلم .. لحظتها قررت السخرية منكما، ورفضت إزالة اللوحة من فوق الحائط إلا إذا قلتما لي ما هي دلالة الزاوية العلوية التي رسم سلفادور دالي المسيح منها .. تركتما الحجرة كطفلتين نزقتين، تحاولان ملأ هواء العالم باللعنات المحذرة من الانتقام الإلهي، بينما ظلت ضحكاتي تودعكما، وتبارك دماءكما المشتعلة، قبل أن تغلق الباب وراءكما، وبقي المسيح مصلوبًا فوق الحائط.
هل تتذكرين؟ .. في اليوم التالي جاءت إبنة خالة أمكِ لزيارتكما، وبمجرد عبورها من باب الشقة، وقبل أن تُكمل الطريق نحو حجرة المعيشة طلبتِ منها دخول الصالون، ثم أضأتِ مصابيح النجفة الساطعة، وقلتِ لها بابتسامة متعالية، ونبرة مُحاضِر في تاريخ الفن:
(أنظري إلى هذه اللوحة .. هل ترين كيف يبدو المسيح المصلوب؟ .. هل تعرفين لماذا اختار الرسّام هذه الزاوية لرسمه؟ .. هذه الزاوية لها معنى عميق جدًا).
ثم خرجتِ بها من الصالون، بعد أن ظلت المرأة تهز رأسها في صمت مذهول ومتوجس، وذهبتما إلى حجرة المعيشة، دون أن تعرفي أنني كنت واقفًا وراء ستارة المطبخ التي تكشف المشهد بأكمله؛ أشاهد وأستمع، ويكاد يُغشى عليّ من الضحك الذي أحاول كتمانه بعناءٍ هائل .. بعد مغادرة قريبتنا دخلتِ مع أمكِ إلى حجرة الصالون، لتطلبا مني ثانية إزالة اللوحة بنفس الصرخات واللعنات المحذرة، لكنني ظللت متمسكًا بأن تخبراني أولاً بـ (المعنى العميق) للزاوية التي رسم دالي المسيح منها.
هل تصدقين؟! .. مرت عشرون سنة .. صرنا عجوزين بفارق سبعة عشر عامًا بين يومي ميلاد كلٍ منا .. لم أعد أعيش هنا منذ زمن طويل في حين بقيتِ أنتِ وحدكِ .. أخذت معي إلى البيت الآخر لوحة المسيح، ولكنني لم أعلقها .. وضعتها داخل أحد الصناديق الكارتونية التي لا أفتحها إلا نادرًا .. في نفس مكانها على حائط الصالون عُلقَت صور أبوينا وشقيقينا بترتيب موتهم .. أزورك مرة واحدة في الأسبوع، ومع ذلك لا نجد كلامًا نقوله .. نتبادل أحيانًا حصيلة فقيرة من الحكايات المروّضة، ندعي أنها (آخر أخبارنا) .. نستعيد الذكريات الحذرة، التي لا تنتمي إلى حروبنا القديمة أحيانًا أخرى .. لكننا نظل صامتين معظم الوقت .. أنا أفكر في الصورة الجديدة التي ستضاف إلى حائط الصالون، بينما مازلتِ تفكرين في دلالة الزاوية  العلوية التي رسم سلفادور دالي المسيح منها.