الأحد، 29 سبتمبر 2024

يوميات: غرفة سرية داخل نفسي

لا تشبه المدينة التي أسكنها منذ ولادتي “المنصورة” أي مكان حلمت بالعيش به .. الأماكن التي عاش بها بطوط، المغامرون الخمسة، دكتور جيكل ومستر هايد، ديفيد كوبر فيلد، وجيم هوكنز على سبيل المثال.

بيتي الآن أكثر اتساعًا وأناقة من بيت طفولتي، لكنه أقل براحًا وحميمية، وما يطل عليه لا يتسم بنفس الحيوية والإثارة .. الفرق بين منطقة برجوازية “الجوازات”، وأخرى شعبية موغلة في القدم “ميت حدر” .. بين سماء كنت ترى أطباقًا طائرة وكائنات غامضة تحلّق في نهارها وليلها وراء البيوت، وسماء أخرى مرصوفة بالفقد.

“يتوحد المحقق ويغيب داخل الاستراقات والاختلاسات التي تستقر وتدور في مكائد الجنس والعنف والكوميديا الممتزجة في “ميت حدر” كسلالات لخفاء الماضي، كل الماضي، ولتواريخ الشبق المتوارية في كتب السحر لجميع الشعوب، ومخطوطات الانعزاليين المنكمشة على أحلام وأمزجة المتعة التدميرية للمدن القديمة: موسكو تشيكوف، براغ كافكا، باريس موباسان، بيونس آيرس بورخيس، دبلن جيمس جويس، نيويورك سالنجر، سان بطرسبرج دوستويفسكي .. ذاكرة تشكّل عري الأجسام التي تطارد بعضها في غابة الهمسات واللهاث والتأوهات الممتدة والمتشعّبة في الأزمنة الغابرة”.

هكذا وصفت ميت حدر في نوفيلا “مقتل نجمك المفضل” .. هي منطقة تستطيع بالثراء المطلوب أن تشتري فيها بيوتًا بقاطنيها .. أن تمتلك رجالها ونساءها وأبنائهم .. تستطيع أن تحوّل حارة منها إلى ضيعة صغيرة تتنقل داخلها بين فرائسك ..  لكنك لا تستطيع أن تكون صديقًا حقيقيًا لهم لو كان كل ما تملكه هو النفور من طبائعهم، والحذر من شرورهم، والرغبة في إكسابهم الروح القوطية، أو مثلما كتبت في نوفيلا “جرثومة بو”:

“أن يكتب كل ساكن بيت نسخته الهازئة، غير المتماثلة من الأضواء الحمراء الدموية، والحمى، والظلال، والسموم، والأقنعة، والأبواب المتوعدة، والأكفان، والبرد، والجثث المتحللة، والنوافذ الزجاجية المرتجة، والظلام، والكتب القديمة، والدفن تحت الألواح الخشبية، والشموع ذات اللهب المتراقص في الظلام أمام المرايا، والمشانق، والتوسلات، والكوابيس الملونة بمزيج من الأزرق والأخضر، والتعاويذ، وخيوط العنكبوت، والهياكل العظمية، والسماء والغيوم والآفاق القرمزية، والتراب، والأنصال المسنونة، والجماجم، والحوائط والأسقف المشتعلة، والرموز، والأقبية، والغرقى، والرؤوس المهشمة، والجبال، والأقمار المكتملة، والأودية السحيقة، والغرف السرية، والأشجار الكثيفة، والأنين، والهواء الرمادي، والعواء، والشحوب، والتنهد، والأشباح، والبكاء، والأحياء المدفونين، وخفقات القلب الرهيبة، والأحجار السوداء، وأنوار المصابيح القوية، والسحب الداكنة، والتوابيت، والأبواب الحديدية، والشروخ، والقصور، والوجوه المخيفة في الصور، والأبراج، والأساطير، والنقوش، والعواصف، والهلوسات، والطرق الريفية، والقبور، والأعاصير، والبحيرات المعتمة، والخنادق المائية، والضباب، والستائر السوداء، والسلالم الخشبية، والوساوس، والضلالات الجنونية، والكراهية، والهستيريا المخيفة، والغرور، والصناديق السرية، والغضب، والسراديب، والندم الوحشي، والبيوت المنهارة، والتسلط، والشبابيك المتهدمة، والارتباك، والعفن السائل، والأمراض المجهولة، والعظام المحطمة، والسُكر، والمفاتيح الملغزة، والتصعلك الحالم، والرعد، والأوهام، والأصوات المفزعة في العقل، والرياح الليلية، ودفاتر السحر، والبرق، والأصداء الحادة، والكائنات الخرافية، والأدخنة الكثيفة، وممرات الجحيم المتخمة بالنيران المسعورة”.

 ومن ثمّ تجعلهم عبيدًا لخيالك …

 ظللت طوال الطفولة مترصدًا لهم في شرفتي .. كل ما هو صدئ ومخرّب كنت أغزوه بحواسي، وأجتاحه ببصيرة كارتونية تمزج بين الاستفهام والفضول والشوق الجارف للهيمنة على الأسرار .. ما كنت أسميه لعبًا، وأصبح يعني بعد ذلك تدميرًا .. رأيت إدجار آلان بو يتنزه في ميت حدر من قبل أن أقرؤه.

كنت أفعل ذلك بنفس اللهفة والشغف اللذين كنت أتخيّل بهما ما سيصبح ذكرى مدوّنة حرفيًا في روايتي “إثر حادث أليم”:

“أتذكر أنني كنت أجلس ذات ليلة منكمشًا بسعادة فوق (الكوفرتة) التي تغطي (ماجدة) وهي جالسة على السرير، مستندة إلى المخدة، وتقرأ كتابًا .. قلت لها وأنا أفكر في مغامرات الليل البحرية لـ (بطوط) والأولاد الثلاثة وعم (دهب)، وكذلك في (جيم هوكنز) برواية (جزيرة الكنز) لـ (روبرت لويس ستيفنسون)، وفي حكاية (حسن البصري) من مسلسل (ألف ليلة وليلة)؛ قلت لها منتشيًا: (أنا دلوقت فوق جزيرة) .. نظرت إليّ مبتسمة، وداعبتني بالسؤال (يعني أنا دلوقت متغطية بالجزيرة؟) ثم عادت لاستكمال القراءة، وأنا أتخيّل السفينة، والعواصف، والأمواج العالية، والمخلوقات الخرافية، والخرائط، والمطاردات، والانتصارات المؤكدة”.

كانت تلك الشرفة هي منزل عزلتي أو مخبأي المعلن داخل بيت الأسرة، وبعد أن غادرتها، ما عاد يليق بـ “الريحان” و”اللبلاب” و”الجارونيا” زراعتهم في شرفة أخرى .. ما كان يُشكّل حديقتي الصغيرة التي ينكمش جسدي بين فروعها وأوراقها عصرًا بينما يُغلق باب الشرفة على الغائبين في قيلولتهم اليومية .. كانت تلك الشرفة تناظر غرفتي السرية داخل نفسي، التي لم تتوقف عن تذكيري بأني مسجون كلما شعرت بنشوة الوصول إلى ما توهمت أنها حافة حرية كاملة .. منذ أن كنت طفلًا وحتى الآن، ظلت هذه الغرفة السرية هي العائق الجوهري أمام أن أتظاهر بالحرية كالآخرين .. إما أن تكون كاتبًا أو تدعي أنك تستطيع فعل أي شيء كمغامر بكينونة إلهية .. أحيانًا تتحوّل إرادة الدمج بين الطبيعتين إلى هوس غريزي كما كان لدى همنجواي مثلًا، أو ما يُعرِّف الشكل النمطي للأسطورة الشخصية مثلما كتبت في “مكائد القص”:

“مجابهة الموت وترويضه وقبوله كجزء من دورة الحياة .. الصراع بين الخجل المرير الذي كان يشعر به إزاء انتحار أبيه، ومصافحة الموت بالاندفاع نحو أكثر احتمالاته قوة، والتوحد مع كابوس الإنهاء الحتمي للحياة بطريقة ما كآخر ما يمكن للأسطورة الشخصية أن تقدمه كدليل على الكرامة أمام حصانة الفناء”.

بتعبير آخر عدم السماح للعجز الذي اضطررت في النهاية للإقرار به عن امتلاك الكتابة والحرية المطلقة معُا بأن يكون الكلمة النهائية .. هذا ما برر لهمنجواي إطلاق النار على نفسه …

لكنني كنت أواجه نفسي والعالم دومًا بعدم حريتي .. بأن الحرية لا وجود لها .. تأملاتي الطفولية للحياة والموت كانت تكشف منذ البداية الحواجز الغيبية التي تحاصر نفسي .. القيود الاستباقية التي شيّدت غرفتي السرية داخل نفسي .. هذه المواجهة هي الكتابة كبصمة عصيان، تمنعك من التظاهر بالحرية، أي تحرمك من هذه المتعة البطولية الكاذبة .. كينونة إلهية مضادة، يتزايد إدراكك على مدار العمر بأنها لا توجد خارج الكلمات، وهو ما يضمن لغضبك في نفس الوقت أن يتصاعد، أن تتحوّل رغبتك في الانتقام إلى كفاح بأن تكتب “كل شيء” .. وما كتابة “كل شيء” إلا أسطورتك المناقضة لمفهوم الأسطورة الشخصية ذاته .. بندقيتك الخاصة التي تطلق بها النار على نفسك في كل لحظة.

22 سبتمبر 2024