الاثنين، 16 سبتمبر 2024

يوم آخر للقتل: ليالي شبح شهرزاد

استنادًا إلى يوم يأتي بعد يوم آخر يماثله، وإلى القتل، وإلى أسلوب الحكاية داخل الحكاية أو القصص التي تتشعب وتتداخل من قصة تبدو أساسية يبدأ بها السرد وينتهي عندها؛ ثمة راوية محتملة تتقمص دور شهرزاد في رواية "يوم آخر للقتل" للكاتبة هناء متولي والصادرة عن الدار المصرية اللبنانية؛ لكن أي شهريار تخاطبه؟

"أنات خفيضة وآسرة، لا تنقطع، تملك عقول نساء قرية كوم الديبة بأكملها، لا تفرق بين عجوز أو رضيعة، تسير في كل اتجاه، حتى كأنهن يرينها بقدر ما يسمعنها، وبالرغم من ذلك فالصوت لا يصل إلى آذان الرجال أبدًا، كأن موجاته تتكسر على حواف مسامعهم".

تخاطب شهرزاد الرجل الذي يدرك بشكل غير واع بأنه حُرم من أصل كامل ومحصن، وأنه بكفاحه الغريزي المستمر لتعويض هذا الحرمان (الفعل الدنيوي) قد ازداد ابتعادًا عن  ذلك الأصل المجهول أي تعمّق غيابه في بشريته. تخاطب الرجل الذي يتمرد دون استيعاب على قدره كإنسان، أي على النموذج المثالي الذي تجرّد منه، مجاهدًا بهذا التمرد أن يسترد ذلك الأصل أو ما حوّله الإنسان إلى مثال كوني مطلق يتم الخضوع له أو استرضاء ما يُعتقد أنها الإرادة الخفية لهذا النموذج، وليتبرأ بفعل الكبت من هذا التمرد بإحالته عفويًا إلى قوى غيبية مستقلة مثل "الشيطان" يُنسب لها العصيان أو الممارسات الفاسدة، خاصة تلك التي تتصل مباشرة بما يُسمى "الماورائيات". تخاطب شهرزاد الرجل الذي يحتمي بنصوص تمييزية اتخذت طبيعة السلطة الذكورية (التقاليد والأعراف والمحرمات) التي أنتجتها منذ القدم، وتوطدت سطوتها عبر الزمن.

"تنساب نساء القرية من أسرّتهن كالماء في لحظة واحدة، يصعدن إلى أسطح المنازل، بعد أن ارتدين ثيابًا سوداء، حاسرات الرؤوس، يصعدن إلى الأعلى حيث لا حجاب بينهن وبين السماء، يستنشقن هواءً لم يختلط بعد بأنفاس الرجال، يخرجنه زفيرًا غاضبًا، يمزقن جلاليبهن حتى تصير صدورهن حرة من دون خوف، ويبدأن في الصراخ والعويل الذي ينهش القلوب، ويُفزع كل الموجودات".

أصبح تمرد شهريار على الصفة الإنسانية والإرادة الضمنية لامتلاك الأصل الخيالي الغامض الذي يعجز أن يكونه، وباعتماده على الأسس النصية التي خطها التحيز الذكوري؛ أصبح هذا التمرد قائمًا على "قتل النساء". ماذا عن شهرزاد نفسها؟

"تقف أمام المرآة تتفحص عودها الفارع، وعينيها الخضراوين، وبشرتها الفاتحة المشرّبة بالحٌمرة، تحتضن جسدها، وتغمض عينيها وتدندن بلحن قديم، وتدور بالغرفة في رقصة حالمة، تتعثر وتسقط على الأرض، تقوم ببطء، تضع طرحة على رأسها وتنزل إلى بيت حمويها كأن شيئًا لم يكن".

تحاول المرأة في احتضانها الراقص لجسدها مثلما كانت تفعل أسما في المرآة أن تقاوم إخفاقها في امتلاك "شهرزاد الغيبية"، أو "الإشباع التام الذي لا يُخدش"، وأنها بهذه المقاومة تمعن في الانفصال عن جوهرها "الخارق" المفقود، أي يتمادى حضورها القهري كـ "امرأة" يترصدها التمرد الذكوري باعتبارها هدفًا سهلًا. تسعى شهرزاد المؤقتة والعابرة أن تقبض على شهرزاد "الخالدة" المتوارية في الخفاء الكوني، أي التي قرر النموذج الأبوي (صنيعة الرجل نفسه) أن يستحوذ عليها. ذلك ما يجعل هذه المجابهة الأنثوية تكتسب أحيانًا تلك الطبيعة الذكورية تماهيًأ مع السلطة التي تستعبدها.

"جلست سارة أمام مرآتها لساعات، أرادت أن تكون شهية كما السابق" ...

"تستدير يمينًا ويسارًا، وتدهن جسدها بزيت الزيتون حتى صارت لامعة تؤكل من دون جهد، ارتدت عباءة قانية تصفُ جسدها بانحناءاته وثنياته، يبدو خصرها نحيلًا بالرغم من ذلك، وبعنقها الطويل تحني رأسها".

يتخذ الأمر إذن هذه الصيغة: رجل يحاول تعويض "إعجازيته الغائبة" عبر جسد المرأة، ولكن استمتاعه بهذا الجسد يرسخ افتقار الرجل لذلك الأصل الإعجازي، كلما حاصر هذا الجسد وقمعه كلما أيقن أن سلطته الذكورية زائفة، غير مطلقة، ومن ثمّ يتعيّن عليه مواصلة الانتقام من هذا الجسد حتى يستعيد نموذجه الخيالي. على جانب آخر تحاول المرأة تعويض "شهرزادها المتعالية" بأن تكون شهية من غير تنكيل بحريتها، كما أرادت سارة في المرآة أيضًا "تؤكل من دون جهد"، ولكن جسدها يوقن أنه لن يمنح المتعة الأبدية، ومن ثمّ يتعيّن عليها الثأر من شهوة الرجل الذي دمغ جسدها بالشر وقدمها قربانًا لخلاصه المستحيل، حتى تسترد ذلك الجسد المقصي (تمنحه لها المرآة) الذي يُشبِع دون نقصان.

"عندما وصلت إلى هذه النقطة شعرت بالانتصار، فقد بدا الخوف واضحًا على يحيى وعرفت بعد ذلك بتهربه من إنجي وبُعده عنها، فالجبن صفة ذكورية بامتياز، لكن في بعض الأحيان كان يساورها القلق بأن هذا الهدوء هو الفخ الذي يسبق العاصفة، وأن مصير إنجي يتطابق مع مصيرها؛ علاقة معقدة ومرفوضة، متعة في الجنس والهروب، ظلام وندم لا يساوي شيئًا في النهاية كأنه الموت من دون دفن".

لا تروي حكاية كل امرأة نفسها وحسب، ولكنها تروي أيضًا الحكايات الأخرى، بحيث تتحوّل كل "غائبة" إلى "متكلمة" في عمق الرواية، وكأن لكل صوت أنثوي نبراته السردية المتعددة واللانهائية "أنات ليلية خفيضة وأسرة". ليس صوت سارة وأمها وخالتها وإنجي وأسما وسمية ومنى وظريفة ومسعودة وفاطمة وسناء فقط، وإنما صوت كل جثة لا تزال محتفظة بأنفاسها "الموت من دون دفن" أو التي فقدتها. صوت يتقمص ضمنًا دور شهرزاد التي تصوغ الحكايات وتنظمها. الحكي الذي يتجاوز المعطيات الواقعية المباشرة ليفتت بالصمت الرابض في طياته "الحقيقة" التي فرضتها مشيئة الرجل عنها. الصمت الذي يتحوّل إلى صراخ وعويل بثياب الحداد الممزقة فوق أسطح المنازل "بينما الرجال يغطون في نوم ثقيل". يتسلل ما تم إخراسه عبر لغة الحكاية لكي يهدم البناء البلاغي للسلطة التي تستعمل المرأة في إثبات بداهتها، مروياتها الراسخة وإحالاتها، يعطّل مدلولها الذي يبقي الألم الأنثوي ملكية خاصة للرجل.

"ما يميز تلك الأسطورة أن بطلتها امرأة حقيقية، لديها أطفال وعائلة، لكن لا يعرف ذلك إلا الكبار فقط، فالصغار يكبرون على مهابتها، وعندما يكبرون ويعرفون قصتها؛ لا يقصون لصغارهم إلا الأسطورة المعتادة، ليورثوهم رعبًا قديمًا مترسبًا داخلهم ولا يتلاشى".

كأن الحكاية لا تُسرد فعليًا وإنما تناوش الاحتمالات والفرضيات الكاشفة والمنقذة (العقابية) الكامنة في ما ترويه المرأة مستعيرة صوت شهرزاد / الراوية التي تسرّب وقائع القهر والاغتيال بعيدًا عن التفسيرات النمطية المستقرة في التأويل الذكوري، وكأن شهرزاد لا تؤجل قتلها وحدها وإنما تؤجل قتل الأخريات اللاتي ينتظرن مصيرهن المشابه. لكن شهرزاد قُتلت بالفعل في اللحظة التي استُخدم فيها ضمير الغائب المهيمن على الوجود بصيغة المذكر، مثلما تُقتل مجددًا في كل يوم آخر، وما صوتها الذي يحكي القتل المتوارث للنساء إلا همسات طيف يراوغ المعرفة التي راكمها "شهريار" بوصفها "مرجعًا كليًا" للحياة والموت. شهرزاد لا تخاطب شهريار الذي "تتكسر موجات صوتها على حواف مسامعه"، ولكنها تخاطب اللعنة التي جعلته ذليلًا لملكوته المتوهم.

"هل يجعل ضحاياه من النساء قرابين لأعوانه وللسحرة؟ ولماذا يطبع عليهن وشم الفضيحة واللعنة بالغرق؟ هل يقتلهن ليخفي معهن جرائمه؟ هل يقدمهن رشوة للمسئولين الفسدة الذين يتسترون على أفعاله؟ أم هل هناك لعنة حقيقية تصيب النساء فقط في قريتها وتوكّل وعصابته يستغلون اللعنة فقط لمصلحتهم؟ توقف عقلها من زحام الأسئلة وفراغ الإجابات، ورأت ألا تجهد نفسها في معرفة الأسباب، لا فارق إن كان يستخدمهن في السحر أو الدعارة أو خلافه، الحقيقة الوحيدة أنهن غريقات لطمعه، وأن الترعة صارت مقبرة جماعية لنساء القرية والغريبات عنها، طمي القاع اختلط بالعظام ونبتت بوسطها شجرة اللعنة التي تطرح سمومًا وغيمًا يحجب الحقيقة، وتطرح أيضًا الصراخ والقهر في كل مساء".

كيف يمكن للكاتب أن يضمّن روايته "معلومات" بحثية أو استقصائية يعتبرها ضرورية ـ العالم المأساوي للفتيات والنساء الريفيات مثلًا ـ من دون أن يتحوّل عرضها إلى ما يشبه مقالًا صحفيًا أو تقريرًا مؤسسيًا؟ .. تكمن الإجابة ببساطة في ثلاث خطوات: الأولى هي توزيع المعلومات على مناطق متفرقة من السرد، بمعنى ألا يتم تضمنيها كفقرة واحدة داخل الرواية سواء على لسان إحدى الشخصيات أو كمحتوى ذهني لها في لحظة معينة. الثانية أن يكون هذا العرض ضمن مونولوج داخلي لشخصية أو أكثر، بمعنى أن يكون جزءً جوهريًا من تفكير واستفهام وحوار الشخصية مع نفسها أي من وعيها وتجربتها داخل حركة السرد ذاته. الخطوة الثالثة هي أن يكون العرض متلازمًا ومرتبطًا بملاحظات مشهدية، انتباه إلى متعيّن، تأمل ومجادلة لمنظر تشكله أفعال لافتة، أو مفارقات تحوّله إلى دراما.

الأمر الآخر: هل تحتاج كتابة الحوار بالعامية أي بما يتسق ويكشف طبيعة المتكلمين في رواية شخصياتها من الريفيين؛ هل تحتاج إلى شجاعة؟ .. ما يبرر الفصحى في الحوار عند كتابة رواية كهذه هو الإخبار بحديث الشخصية أي النقل عنها بلغة الراوي أو الراوية، لا أن يكون الكلام على لسان الشخصية مباشرة. إنه الفرق على سبيل المثال بين: "ربما أدين لكِ باعتذار من الماضي .. كنا لا نزال مراهقات بعقول أطفال" وبين الكتابة بهذه الطريقة: "أخبرتها بأنها ربما تدين لها باعتذار من الماضي، وأنهما كانتا لا تزالا مراهقتين بعقلي أطفال".   

"وبعد يومين، وجدوها تسير في شوارع القرية حتى توجهت إلى الترعة ثانية، كان وجهها أشد غلظة، وأكثر غرابة، وظل الناس يتناقلون علاقتها بالجان، ولابد أنه من عاونها على الهرب، وتزايدت القصص والخرافات حولها، البعض يقسم أنه رآها تطير في الليل فوق الترعة بصحبة الغوازي اليهوديات، والبعض يقول إنها تتحدث إلى مارد يعشقها يجعلها بالصباح مجنونة ويعيد إليها عقلها في المساء ليأنس بها، والبعض يدعي أنها قتلت إنجي من أجل الجان وتريد أن تدفع عنها التهمة بادعاء الجنون، حتى إن مسعودة قالت عنها إنها ساحرة".

استعملت سارة قتلها في اجتياح "الحكمة" المترفعة التي تتوارى جثث النساء في أسطوريتها. تحوّلت إلى ما أراد قاتلوها أن يكون صورتها النهائية: جسرًا غيبيًا يعبرونه نحو النجاة. لكنها لم تكن مجرد قربان انتقامي، وإنما خلقت من دمائها أسطورة مناقضة، تجسيدًا نقيًا لشبح شهرزاد التي ظلت مرجأة، "امرأة مجنونة تطير في الليل" وتستخدم أرواح الغريقات في "قتل الحكمة".

أخبار الأدب

2 سبتمبر 2024