الثلاثاء، 11 يونيو 2024

جرح على جبين الرحالة ليوناردو: بصمة العابر

كيف يمكن للجرح الجسدي أن يكون ملاذًا روحيًا غير مشروط بتمثله الظاهري، طارئًا كان أم مقيمًا؟ .. متى يكون هذا الجرح كاشفًا عن "الجرح الرئيسي" أو "مرض الولادة" الذي لا شفاء منه بتعبير سيوران؟ .. ما الذي يجعل هذا الجرح تلصصًا على قهر الحياة والموت، لا بوصفه اعتداءً حسيًا، وإنما باعتباره إشارة دامغة لذلك الانفصال الغامض بين الذات وملكوتها من قبل أن توجد كقرينة للعدم؟

"لم تستطع أن تتحدث إلى جراحك السابقة، لأنك لم تشعر بها قط، لكن ما إن شعرت بي حتى رحت أتحدث إليك؛ إن معظم الجرحى لا يستطيعون التحدث إلى جراحهم، لأنهم لا يشعرون بها، لكنني عادة ما أتحدث إلى أولئك الذين لديهم ذات إحساسك".
تتمعن رواية "جرح على جبين الرحالة ليوناردو" للكاتب ثائر الناشف والصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون في هذا التوحد بين الذات والجرح، ليس كشيئين متباعدين يندمجان في كيان واحد، وإنما كشيء عثر على اللحظة الملائمة لكي ينتبه إلى تكوينه غير المنشطر بين "ذات" و"جرح". وكأن هذه اللحظة ـ بكل ما تنطوي عليه من ألم ـ بمثابة اهتداء إلى ملجأ باطني، تطارد "الذات" عبر أغواره المعتمة تلك المشيئة المجهولة التي حفرتها في العالم كـ "جرح".
أفكر في العفوية التي ستدفع بها هذه الرواية قارئها لاستدعاء جراحه الجسدية السابقة، وتحديدًا الجرح الذي ترك أثرًا ما، وكيف يمكن لها ـ أي الرواية ـ أن تحرّض هذا القارئ على تفحص الماضي بواسطة ذلك الجرح، كأنه صيرورة، لا ذكرى قديمة فحسب. أفكر بالضرورة في المقارنة التلقائية التي سيعقدها كاتب آخر بين جروحه التي كتب عنها من قبل وهذه الرواية.
ثمة جرح في ظهر يدي اليمنى منذ الطفولة، هو الوحيد الذي ترك أثرًا مرئيًا من بين الجروح كلها التي طالت جسدي. كتبت عن هذا الجرح نص "للبالغين فقط"، وفي روايتي "إثر حادث أليم" سردت ذكرى الواقعة التي نتج عنها، وكانت تتعلق بزميلة لي في الفصل الابتدائي:
(تسبب الطرف المعدني الحاد لحقيبتها في إصابة ظهر يدي بجرح لا يزال أثره واضحًا حتى الآن .. كانت تعلّق الحقيبة الكبيرة فوق ظهرها، وكنا نتحرك لمغادرة الفصل بعد انتهاء اليوم الدراسي .. مرّت بجانبي في اللحظة التي رفعت خلالها بالصدفة يدي اليمنى لسبب ما دون أن أنتبه لحقيبتها فحدث الاحتكاك المؤلم الذي جعل الدماء تتدفق بغزارة .. أسرعت إلى أحد صنابير الفناء كي أغسل يدي لكن الدماء لم تتوقف فربطت الجرح بمنديلي القماشي الأبيض وعدت إلى البيت .. وضعت أمي الـ "الميكروكروم" فوقه، وأعادت ربط يدي بالشاش، وطلبت مني أن أبقيها مرفوعة .. تمددت على الكنبة أمام التليفزيون، وأرحت يدي فوق رأسي مدة كبيرة .. عن هذا الجرح كتبت منذ زمن طويل هذا النص بعنوان "للبالغين فقط":
رغم الشيخوخة/ التي أعطتني شحوبًا مقاربًا/ للون جلدك/ ورغم الشعيرات الصغيرة/ التي حاول بواسطتها الزمن/ أن يخفيني/ لا زلت واضحًا/ على الأقل بالنسبة لك …/ لم أكن مجرد جرح عادي/ حفره بغدر طائش/ الطرف المدبب لحقيبة مدرسية/ معلقة على ظهر تلميذة الابتدائي/ أنا النبوءة التي لم يبطلها "الميكروكروم "/ والتذكار الذي لم تمحوه ضمادة منزلية./ لم أعد الغريب الذي كرهت طفولتك/ تطفله المؤلم/ ولا العابر الذي لم تصدق شرفتك/ خلوده./ أصبحت منذ سنوات طويلة جدًا/ وبالتدريج اللازم للتعايش مع انتهاك ما/ صديقًا لم تعد في حاجة للنظر إليه/ حتى تتأكد من بقائه …/ الذي لم يسأم المشي بكل عكازاتك/ وكراسيك المتحركة/ ولا مشاركتك الانحناء/ تحت المؤخرات الثقيلة... / المقيم معك على الطرق فائقة السرعة/ حيث تنتظر حافلة إلى الرحمة/ لا يلتقطها رادار الغيب/ ولا يوقفها شرطي مرور السماء …/ مؤرخ "الاشتغالة" الغامض/ الذي لم يتعب من التنقل وراءك/ طوال الحياة/ بين الكواليس المعتمة/ وجمع العظام/ التي يتركها الجائعون/ من روحك/ بخبرة كيس قمامة عجوز/ طالما طيّره هواء الشوارع/ وتكوّم تحت طاولات المقاهي/ وطردته البيوت إلى السلالم الخلفية/ …/ أنا الخط العرضي الصغير/ الذي أصبح جزءً من التكوين الطبيعي/ لظهر كفك/ والذي ربما من حين لآخر/ تسمعه يخاطبك بطريقة ما : "ألم أقل لك؟!").
إن الجرح بهذه الكيفية يمثل تعريفًا للكتابة. التيقظ للجرح هو إدراك ما تعنيه الكتابة كحفر في سره. الكتابة هنا هي الذات التي تحفر في سر جرحها، أي في سر نفسها. وكأن هذا الثقب في رواية "جرح على جبين الرحالة ليوناردو" يتحوّل إلى "الملكوت المضاد" أو "الثأر الروحي" للذات من "جريمة ولادتها". وعلى هذا النحو يمكن التحديق إلى "الخلود" الذي يتسم به الجرح.
"إني صوت روحك الذي لا يخمد، ألا تذكر ما قاله ليوناردو؟ إذ قال إن الجراح خالدة؛ إنني أشعر بذاكرتك المشوشة تحت تأثير تلك الملاءة ونظرات الأطباء والمسعفين؛ لا شك في أن صورتي الظاهرة لعينيّ الطبيبة عن طريق الثقب ستتغير بعد الرتق مثلما تتغير صورتها البهية من يوم إلى آخر، فلا أحد يستطيع أن يحافظ على صورته النقية، لكنه قد يستطيع الاحتفاظ بصوت روحه إذا ما شعر بها".
أفكر في هذا الجرح القديم لا باعتباره "حادثًا" وقع في بداية حياتي، وإنما "علامة استشرافية" كشفت عن نفسها فتحوّل من "صدفة" أقرها الواقع إلى "وخزة تخييلية" لتأمل "الطريق الغيبي الممهد" لوقوعه. هذا يعني أن "الجرح" يسبق قطعًا تلك اللحظة القديمة التي أصاب خلالها الطرف المعدني الحاد لحقيبة زميلتي في الفصل الابتدائي ظهر يدي، وما كانت تلك اللحظة إلا تجسيدًا دالًا لخفائه الرابض في ما قبل الزمن. ما كان لهذا التجسيد أن يتم حقًا لو لم أدركه كبداهة غير مفهومة، كأصل محتوم لا يمكن تبريره، لو لم أؤرق به كنبوءة مترصدة، كوعيد غائم لا أمل في الانفلات من تدابيره الإيهامية. لكن ذلك لا يرتبط بالأثر المتعين الذي يتركه الجرح سواء كان مؤقتًا أو دائمًا. ثمة جروح لا تترك أثرًا ملموسًا ولكن حدوثها، أو "اكتشافها" بشكل أدق يمثل دافعًا أقوى لهذا التأمل. في طفولتي أصبت بجرح أكثر هولًا وإيلامًا وأكثر غرابة بالتأكيد من ذلك الذي ألحقته بي حقيبة البنت الصغيرة، كتبت عنه أيضًا في "إثر حادث أليم"، وبالرغم من أنه لم يخلف بصمة مستديمة إلا أن تأثيره كان أشد ضراوة في تشكيل وعيي الذاتي بـ "الإرادة المستترة للجحيم" التي أصبح هذا الجرح دليلًا حاسمًا لها:
(ماكينة خياطة "سنجر مرسيدس" كانت تستعملها جدتي وأمي وأختي، وكانت توضع أمام الكنبة بجوار حجرة والديّ، وأحيانًا كانت تنتقل صباحًا إلى داخل هذه الحجرة لتوضع بجوار البابين المغلقين للبلكونة ذات الشيش المفتوح .. كانت جدتي تجلس خلفها ـ حيث أبي في عمله خارج البيت ـ وتفصّل الملابس .. كانت الصالة وحجرة والديّ تمتلئان أحيانًا ـ عندما تعمل ماكينة الخياطة وقتًا طويلاً وأيامًا متواصلة ـ بالأقمشة، والقصاصات، وبكرات الخيوط بالإضافة إلى "المازورة" الملونة في أحد وجهيها بالأصفر، وفي الوجه الآخر بالأبيض والأحمر والأخضر ـ كالتي كان يستعملها "يوسف شعبان" في مسلسل "عيلة الدوغري" ـ وكذلك المتر الخشبي القديم ذي اللون البني الفاتح .. لي تجربة مروعة مع هذه الماكينة كتبتها في نص قديم اسمه "الحبل السُري":
"بينما كان صغيرًا/ كان يراهم يضعون القطع القماشية الممزقة/ أو المنفصلة عن بعضها البعض/ أسفل إبرة ماكينة الخياطة/ ثم يديرون المقود الدائري/ لتتحرك الإبرة سريعًا فوق ثقوب القماش والقطع المتباعدة/ فتختفي الثقوب/ وتتلاحم القطع المتباعدة/ كان مبهورًا بما يراه/ حتى أنه انتهز فرصة عدم انتباههم له/ وابتعادهم عن ماكينة الخياطة/ وقرر أن يمارس الأمر بنفسه/ لم يبحث عن قماش ممزق ليرتقه/ أو قطع متباعدة ليلحمها/ فقط/ وضع إصبعه الصغير أسفل الإبرة/ وأدار المقود/ بالطبع/ كانت هناك دماء كثيرة/ وصرخات كثيرة/ وألم كبير/ لكنه بعد أن انتهى من البكاء/ وبعد أن صار إصبعه ملفوفًا بضمادة سميكة/ لم يعرف لماذا فعل ذلك/ لماذا وضع إصبعه بديلاً للقماش / حتى بعد سنوات كثيرة جدًا/ لم يعرف/ فقط/ كان يشعر بضرورة ما فعله/ حتى أنه إلى الآن/ وكلما وقعت عيناه على ماكينة خياطة/ يظل يتأملها طويلاً/ ثم بشكل تلقائي جدًا/ يجد نفسه متوجهًا في صمت/ نحو أية مرآة قريبة".
أريد الآن أن أذكر شيئين أساسيين في هذا الحدث: الأول أن إبرة ماكينة الخياطة اخترقت إظفر إبهامي من المنتصف وخرجت من الناحية الأخرى .. الثاني أن أمي حينما رأت المشهد لم ترفع إبرة الماكينة بالمقود، وإنما بجزع ودون تفكير أسرعت بجذب يدي بقوة والإبرة واقفة بثبات داخل إبهامي مما أدى لتعاظم المأساة .. الغريب جدًا أن ما حدث في هذا اليوم لم يترك أي أثر في إصبعي، وهو ما لا أستطيع استيعابه حتى الآن).
التيقظ إلى الجرح الشخصي / الكتابة هو ارتحال مخاتل في ذاكرة الآخرين، تنقيب في أقدارهم، استراق محموم إلى متاهاتهم، مطاردة لكوابيسهم، ليس بالانتباه إلى الأثر الملموس على أجسادهم فقط، وإنما إلى الشقوق المتوارية التي تومئ بها هذه الأجساد أيضًا. وكأن الذات تلاحق صورها الممزقة في كل احتمال للغياب. هكذا تبدو مغامرة الرحالة ليوناردو في الرواية كأنها عبر أزمنة لم يعشها جسده، ولكنها تركت حكاياتها في جرحه.
"تذكر وأنت تشاهد صورتي التي رأيت فيها صورتك الحية، أن هناك بشرًا لا يزالون يشاهدون صورتك النقية بعين الماضي البعيد، مثلما تشاهد صورهم بعين الحاضر. للوهلة الأولى انتابك شعور غامض بأني جزء من الماضي الغابر، لكنك ما إن رأيت صورتي حتى اكتشفت أن الجرح جزء أصيل من الروح المرتحلة من مكان إلى آخر. عليك أن تتذكر دائمًا أنه كان هناك إنسان ما يشبهك في الماضي وأنك تحمل نفس جراحه القديمة، أما الجسد فلا يلبث أن يفنى لكي تخرج أنت إلى الدنيا، ولتكون على ذات صورته القديمة، فتتابع خوض صراعاته وانتكاساته ومغامراته في الحياة. يجب أن تبحث عمّن يشبهك في خصالك، وليس مهمًّا أن يكون إنسانًا حيًا، بل لو كان جرحًا على جبين من يشبهك في الماضي".
ليس الجرح المرئي هو ما يجعل الذات أو "مأساتها" بالأحرى واضحة، ويمكن ملامستها، وإنما ما تقرر الذات أن تقوم به تجاه جرحها المخبوء حتى تجعله كذلك. ما تعرف حينئذ أن هذا ما يتعيّن عليها فعله، لا لأنها والجرح شيء واحد، وبالتالي حين تسرد نفسها فإن جرحها هو الذي سيتحدث، حتى بما لم تكن تعتقد الذات أنه صوتها وحسب، وإنما لأن ما تخاطبه أيضًا كل مروية لهذه الذات يبدو كأنما يتضاءل كلما كان للجرح "بصمة" / كتابة. يتجرد المجهول من وحشيته، في اللحظة التي يداعب خلالها الخيال ذروتها الهزلية.
"أخبار الأدب"
5 مايو 2024