الثلاثاء، 11 يونيو 2024

الناقد "2"

من بين قراءاتي المبكرة في النقد الأدبي؛ كان الكتاب الذي أطلقت عليه منذ تلك اللحظات القديمة وحتى الآن "الصديق النقدي الأقرب، والحكّاء الدائم، الأكثر سحرًا على الإطلاق لتاريخ القصة القصيرة" .. في المقال الخامس من سلسلة "سيرة الاختباء" التي أكتبها في موقع "الكتابة" الثقافي سردت تفاصيل المصادفة السعيدة التي منحتني "الصوت المنفرد" لفرانك أوكونور أثناء إحدى زياراتي لمعرض الكتاب بالمنصورة .. صدر "الصوت المنفرد" عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1993 بترجمة د. محمود الربيعي، والذي أقتبس الآن سطورًا من مقدمته للكتاب، ليس فقط امتنانًا وتقديرًا لجهده في هذه الترجمة البديعة، ولكن لأن هذه الكلمات تصف أيضًا بدقة ما شعرت به عند قراءتي له للمرة الأولى:

"وقد سحرني الكتاب بلغته الغنية الشاعرية، وحديثه الحميم للقارئ، وتقديمه للمعرفة القائمة على الإحاطة والوضوح، وعدم الإثقال بالهوامش، والمراجع، والاقتباسات التي تُغرق القارئ في الجو "الأكاديمي" (الصحيح والمدعي!). قرأت الكتاب مرة واثنتين، ثم بدأت أعود إليه على مهل بين الحين والحين.
كانت حلاوته تنتشر في نفسي كالرحيق، وكانت أشعته الساطعة تغمر أمكنة في قلبي وعقلي لم يصل إليها الضوء ـ على هذا النحو ـ من قبل. وشيئًا فشيئًا أحسست أنني وقعت في غرامه، وكان علامة ذلك عندي أن كثيرًا من عباراته بدأت تلوّن حديثي، وكثيرًا من الصفات التي وصف بها كتّاب القصة القصيرة الذين تناولهم تنطبق على أحلام اليقظة عندي".
كان "الصوت المنفرد" بالنسبة لي ـ ولا يزال ـ نموذجًا متفردًا للكيفية التي تكون بها الكتابة النقدية "نصًا"، وهو ـ كما سبق وأشرت في افتتاحية العدد الأول من "الناقد" ـ ما كان يمثل انشغالًا غريزيًا لي قبل قراءة هذا الكتاب .. ذلك ما أدركه أيضًا د. محمود الربيعي ووثقه في مقدمة الترجمة:
"تتابع فصول كتاب "الصوت المنفرد" سلسة طيعة كأنها قصائد من الشعر، أو كأنها قصيدة واحدة ممتدة، أو كأنها إحدى عشرة قصة قصيرة، أو كأنها ـ عند الإمعان ـ قصة طويلة ممتدة، وإذ نرحل متعمقين فيها نحس أننا أمام فنان مبدع، وليس أمام ناقد محترف. و"أوكونور" لا يقعد كثيرًا، ولا يعمل في مستوى نظري. إنه ـ على عكس ذلك ـ يضع يديه، بل يغمسهما، بل يغرقهما، في النصوص الإبداعية".
لم يقدم "الصوت المنفرد" مثالًا فاتنًا لـ "نصية النقد الأدبي" فحسب، ولكنه أشار بصورة ضمنية أيضًا إلى أن "العمل النظري" ينبغي أن يتم بهذه الصورة "الحميمية"؛ أي في الوقت الذي يستخدم خلاله الناقد "الهوامش والمراجع والاقتباسات"، وحين يكون على التناول أو المقاربة الاتسام بـ "الرصانة الأكاديمية" أو بما يقترب من شروطها وأعرافها.
من هنا تحددت ماهية الناقد في وعيي .. ببراعته في أن يجعل "النظري" لعبًا غير محكوم .. بقدرته على تكوين "نصيّة" ما هو "أكاديمي" ومن ثمّ "إعادة كتابة" العمل الأدبي كما لو أن الجدل المُكتشف بينه و"الفكر" النقدي هو ما يخلق هذا العمل لأول مرة دون ضوابط صارمة .. بقدرته ـ وهي الضرورة الأصعب ربما ـ على التخلص من "السلطة الأبوية" كالتي مارسها "فرانك أوكونور" أحيانًا في "الصوت المنفرد"، مهما كانت "الشاعرية" التي تُصاغ بها تفسيراته "الاستنكارية" وأحكامه "العقابية".
الهوامش:
ـ الصوت المنفرد / فرانك أوكونور ـ ترجمة: د.محمود الربيعي، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1993.
ـ سيرة الاختباء 5 / ممدوح رزق ـ موقع "الكتابة" الثقافي، 15 ديسمبر 2019.
تحميل العدد: